المدن: عمران وأماكن في القلب
علاء خالدعن شاطئ الإسكندرية..
2024.11.16
تصوير آخرون
إنه هناك ميت خلف الأسوار!
مثل أي كومباوند معزول يفصل بين مجتمعين، تحوَّل شاطئ الإسكندرية إلى كومباوند موازٍ بأسوار وبوابات، وتذاكر للدخول، تحجب البحر ومجتمعه عن الخارج الذي انسلخت عنه.
بداية من أحد مسارات تمشيتي على البحر القديم، قبل أن يتحول إلى مجتمع طبقي معزول، بداية من شاطئ إستانلي حيث كان مركزي القريب من بيت العائلة، ونهاية عند شاطئ السرايا القريب من بيتي الجديد. خلال هذه المسار الاسترواحي، في الصيف أو الشتاء، لم تكن هناك أي أسوار حقيقية أو مجازية، تفصل بين مجتمعي الشارع والبحر، أما الآن فلم تعد هناك إلا مساحات قليلة وفاصلة، عبارة عن جيوب مسروقة من خرائط تحديث المدينة بشكلها الحالي. هذه الجيوب الفقيرة، تشير إلى خريطة المدينة القديمة، عندما كانت هي وساكنوها يشكلون الأغلبية، ثم أخذ التطوير طريقه في إزاحتهم وحصرهم داخل هذه الجيوب.
***
شاطئ الإسكندرية المحجوب بالأسوار
على هذا المسار القديم بداية من شاطئ إستانلي، تم إنشاء، بالمخالفة للقانون، نوادي المهندسين والصيادلة والمحامين، والقضاة، وأقيمت عديد من الإنشاءات التي تحولت إلى مطاعم فاخرة وكافيهات تجذب الأجيال الجديدة التي لم تبنِ علاقة بعدُ مع المدينة القديمة. نصل إلى "جليم باي"، الذي أنشئ حديثًا، ويشبه في فكرته ممشى أهل مصر الذي يقتطع جزءًا من النيل. بعد البوابة، تجد على يمينك موقفًا لعربات المرتادين، والذي كان ممشى للسير، فأخذت العربات مكانه.
بطول اللسان ستجد على الجانبين غابة من المطاعم والكافيهات، بينما في الماضي القريب في أوقات مسروقة من الزمن، كان هذا اللسان أحد الأماكن الطيبة التي يلجأ إليها البسطاء وغيرهم، في الصيف، ويقضون فيها سهراتهم.
لم يعد هناك شاطئ عام في جليم، سوى شاطئ صغير جدًّا، مكتوب عليه للعائلات فقط، يحتوي على مجموعة صغيرة من الكراسي مرصوصة أمام بحر ميت، وتحوطه المطاعم وأضواؤها وروادها من كل جانب، ينظرون إليه من أعلى.
بعد لسان جليم بقليل، تمتد الشواطئ الخاصة التي تتبع فندق الفورسيزون، وجنائنها ونخيلها، وكلابها البوليسية، التي تحرسها.
شاطئ جليم وقد تحول إلى موقف سيارات
فنستكمل المسيرة حتى شاطئ لوران نقابل بوابات جديدة، وأسماء جديدة، هناك نوادٍ منها ما يتبع فندق القوات المسلحة في سان إستيفانو، ومنها ما هو مجهز كمرسى لليخوت وغيرها من الخدمات. المفارقة أن هناك بعض النوادي لم تبنِ سورًا من الخرسانة أو الأخشاب، بل من الزجاج، وبرغم شفافيته فلم تُلغَ وظيفته في لعب دور الحاجز بين مجتمعين.
***
وسط هذه المسارات كانت هناك جيوب أخرى عبارة عن محطات أتوبيس، أو قعدات لها تندات من القرميد، بها عدة مقاعد حجرية، كانت تطل على البحر القديم وتم نسيانها أثناء التطوير وتأجير الشاطئ للغرباء، هناك يختبئ المحبون، الذين يدمنون الشاي، والشحاذون وسط هذا البحر الطبقي، يمر عليها عامل الشاي بترمس شاي ساخن مع أكواب الشاي الورقية.
منذ سنوات قليلة قبل هذا الطوفان، كان يتناثر بطول الشاطئ تلك العربات المضاءة بإضاءة ضعيفة، والتي يعمل عليها شباب في بداية حياتهم العملية، والممولة من أحد مشروعات مساعدة الشباب في المحافظة. كانت تتخذ نقاطًا ثابتة وتبيع المشروبات الساخنة والباردة. كان لوجودها إحساس حميم، ويحمل فكرة السعي من أجل لقمة العيش، فنشأت من حولهم تجمعات من السائرين، تشجيعًا لهم وللمستقبل. اختفوا تمامًا وسط هذا الطوفان من لمبات النيون، والزئبق، كأنك في سرادق فرح دائم.
***
في السبعينيات كان لأصحاب الكبائن دور في تحويل البحر إلى بحر ديمقراطي، فقد كانوا حلقة وصل بين ناس المدينة والبحر، يدعون أقاربهم وأصحابهم وأصحاب أصحابهم لتقضية يوم في الكابينة المفتوحة على الدوام. كانت أي كابينة ملكية مشاعًا، ميراثًا يتوالد ذاتيًّا ويتوزع بالتساوي على محيط العائلة ودوائرها البعيدة.
في شاطئ جليم، كان يستوقفني دومًا ذلك الشاليه المبني من الطوب الممتد لأمتار داخل البحر، والذي كان يستخدم كخلوة لأحد الأديرة، مثل خلوات الصحراء. كانت تتعبد فيه الراهبات، بملابسهن البيضاء، نشاهدهن كفراشات بعيدة، يعشن داخل أرض أخرى وتحت سماء أخرى. وهناك جسر للنجاة ممتد من الشاليه يصله بالشاطئ. في ذلك الوقت كان هناك مكان وزمن مفتوح لتحقيق تلك الأمنية بأن تنظر وراءك في غضب، ونذهب إلى هذا الشالية ثم نكسر الجسر الذي يربطنا بالشاطئ، حيث لا عودة.
***
لم يكن بحر الإسكندرية محصنًا ضد الخسارات التي حلت بالمدينة وبالتحولات التي أفقدتها شخصيتها المعمارية، والروحية معًا. كان الحلقة الأضعف لأن لا أحد يسكن هذا البحر بالمعنى المادي، وليس المجازي، فيقوم بالدفاع عنه كما يحدث في اليابسة، كما يصف "جون آر. غيليس" في كتابه "الساحل البشري": "كان البحر محصنًا من الخسارات التي عانتها اليابسة باستمرار. لقد كان خالدًا".
تضاءل حجم البحر المرئي، فلم يعد هناك شاطئ بالمعنى القديم، فقد تم تأميم البحر، ولم يتبقَّ من "البحر المرئي" الذي نعرفه إلا حوالي ستة وأربعين في المئة مما كان عليه قبل توسعة الكورنيش عام 2002 في عهد عبد السلام المحجوب.
شاطئ الإسكندرية بعد تخريبه
يرصد مركز "الإنسان والمدينة" وهو أحد مؤسسات المجتمع المدني، هذه التعديات، بكل أنواعها وأشكالها، التي وصلت إلى أربعة وخمسين في المئة من طول الشاطئ، والتي نشرها في صورة إنفوجراف على صفحته على الفيسبوك .https://www.facebook.com/HCSR19 .
خطة بلا نهاية لتحويل كل شِبر خالٍ، حتى ولو كان في حيازة البحر، إلى مصدر لجني الأموال، مهما كانت حجم الخسائر، سواء في تأثيرها على الناس، أو جغرافية المدينة وروحها.
لقد تم التعامل مع الكورنيش كمشروع استثماري موجه إلى طبقة محددة، وهي المستهدفة بالاستمتاع، تتوجه إليها الدولة، بدون سؤال عن الخسارة. بدون أي مبالغات تتيتم المدينة عندما ينفصل البحر عن حياة الناس اليومية. إنه هناك ميت خلف الأسوار.
***
كانت أمي تحتفظ بصورنا على الشاطئ في حقيبة جلدية لبنية اللون، لسنوات المصيف في مرسى مطروح والعجمي في نهاية الستينيات، مع صور أخرى قديمة في مناسبات مختلفة. كانت إحدى هواياتي في الصغر، أن أعيد بعثرة هذه الصور على السرير ومشاهدتها. ضمن هذه الصور كانت هناك صور لفتيات في سن المراهقة، بنات صُحبة المصيف، يلبسن مايوهات تغطي الصدر تمامًا، يقفن أيضًا على هذه الصخور التي صور عليها أخي. كن مبتسمات للكاميرا ومنهن من تغطي شعرها ببونيه مطاطي، وأخريات تتهدل شعورهن بقطرات ماء تتساقط منها.
في إحدى الليالي وجدت أمي تخرج شنطة ذكرياتها هذه وتمزق الصور حتى لا يراها أحد بعد وفاتها. كانت تخشى تسرب الذكرى القديمة في أيدٍ غير أمينة، بما تحمل من صور الفتيات وهن يرتدين المايوهات، وخروجها من ظلام دولاب الذكريات إلى العلن. كانت تخشى على أجساد صاحبات الصور من أن يخدشها أحد غريب.
لقد عاد البحر في عقد الثمانينيات كائنًا اجتماعيًّا محرَّمًا، وخرج عن طوره الطبيعي، عاد كجزء من المجتمع المتعصب الذي يحوطه، انهزمت الطبيعة أمام التعصب، وتوترت العلاقة بين المدينة والبحر طوال عقود تحول فيها البحر من فضاء للأحلام والاستمتاع كما يقول صاحب كتاب الساحل البشري، إلى مكان طبقي/ ديني له تأويلات معقدة، تتناثر على بلوكاته الأسمنتية التي تحمي الشاطئ من التآكل، تلك العبارات الدينية المحذرة من الحرام.
***
ربما نقف الآن في دورة من إحدى دورات صراع البحر واليابسة. فلم يكن سهلًا تحول الشاطئ إلى مكان للترفيه والمتعة والاستجمام، كما يشير غيليس، فقد رافقته تعديات، ليس على الشاطئ، ولكن على السكان الأصليين الذين كانوا يسكنون الساحل كالصيادين وجامعي النباتات وغيرهم في الأزمنة القديمة.
فبعد خروج الصيادين وجامعي النباتات من المشهد قسرًا، استُخدم الساحل كمكان للعلاج وجاء الآن دورنا لنقصي منه طبقات جديدة، كما أُقصي قديمًا الأصحاب الأصليون له من صيادين وجامعي نباتات.
يكتب جيليس[1]:
"اكتسب الساحل أيضًا ميزة علاجية بعد أن اتخذت الطبقة الإنجليزية الراقية من الشواطئ الرملية منذ مطلع القرن الثامن عشر فضاء للعلاج النفسي والجسدي، في المقابل استدعى هذا التحول إزالة سكان الساحل، خاصة صيادي السمك وجامعي النباتات، ضمن ما يسميه جين إيرباين بالاحتلال الجمالي للساحل عن طريق أيديولوجية قضاء الإجازة".
يضيف: "تمدد مفهوم الساحل اليوم بفعل الرمزية التي اكتسبها كفضاء للأحلام والكوابيس معًا! حيث اجتهدت السينما في تحويله إلى بيئة تهديد وخوف، وأضفت على مخلوقاته البحرية سمة الوحوش المتربصة برواده. لقد عاد الناس من المدينة إلى الساحل، لكن بأسلوب عنيف وخطِر".
تخلينا عن جغرافية المدينة وروحها من أجل تثبيت الشاطئ كفضاء للأحلام، ولكنه فضاء أرستقراطي، وعاد البحر وحشًا طبقيًّا، لا يتقبل إلا القلة، وهي دورة من دورات تناسخ هذا الفضاء الجمالي الاستثنائي.
1- الساحل البشري -جون آر. غيليس. ترجمة د. ابتهال الخطيب. سلسلة عالم المعرفة 430، نوفمبر 2015، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.