المدن: عمران وأماكن في القلب

محمد أبو الغار

كيف ساهمت السياسات الحكومية في تعظيم المشكلة العمرانية؟!

2024.11.10

مصدر الصورة : ويكيبديا

كيف ساهمت السياسات الحكومية في تعظيم المشكلة العمرانية؟!

حيث أنني مواطن قاهري، عشت في هذه المدينة منذ طفولتي وشهدت نموها وارتفاع عدد سكانها، ثم التطورات التي حدثت في السنوات الأخيرة بتغيير معالمها وهدم آثارها ومحو تاريخها وتدمير المناظر الجميلة فيها ومحاولة نقل العاصمة إلى الصحراء في شرق القاهرة بإنشاء ما يسمى بالعاصمة الإدارية. كل هذه التغيرات التي حدثت تدريجيًّا منذ أربعينيات القرن العشرين، ثم بسرعة راديكالية فائقة في العشر سنوات الأخيرة.

انتقل والدي للعمل في القاهرة في عام 1948، وعشت طفولتي في شقة في باب اللوق في بيت قديم. الشقة بها ست حجرات كبيرة والسقف ارتفاعه خمسة أمتار، والدور شقة واحدة، والعمارة ثلاثة أدوار. انتقلنا بعدها إلى الدقي بالقرب من حديقة الأورمان عام 1959.

أبدأ بأن القاهرة مثلها مثل كل مدن العالم القديمة، مثل لندن وباريس وروما، كانت تحتفظ بأحيائها وشوارعها وحواريها وأرضياتها المبلطة بالبلاط الأسمنتي الكبير، وكانت الأحياء الفقيرة مجاورة لأحياء الطبقة الوسطى ومجاورة لأحياء الطبقة الغنية، فمنطقة باب اللوق ووسط البلد أصبحت لسكان الطبقة الوسطى بعد أن هاجر الأغنياء في أربعينيات القرن الماضي إلى الزمالك وجاردن سيتي والمعادي ومصر الجديدة. والمنطقة التي كنا نسكن فيها كانت قريبة من السيدة زينب وهي منطقة شعبية، لم تكن أبدًا منطقة عشوائية، وكانت قريبة من المنيرة والقصر العيني وهي أيضًا لسكان الطبقة الوسطى، ومجاورة لجاردن سيتي وليست بعيدة عن الزمالك. وهي منطقة سكن الطبقة العليا. لم تكن هذه الأحياء منفصلة بعضها عن بعض، بل كانت جغرافيًّا متداخلة، وكان سكان الطبقة الشعبية يعمل بعضهم في الأحياء الغنية وسكان الطبقة العليا يتسوقون من محلات وأسواق الطبقة الشعبية والطبقة الوسطى.

كان سوق باب اللوق المغطى الضخم هو السوق الأكبر والأرقى لكل سكان هذه الأحياء، وكانت هناك أسواق شعبية وبضاعتها أرخص في الأحياء الشعبية. كان كل السكان متداخلين بعضهم مع بعض، يتعاملون ويعملون معًا بالرغم من الفروق الطبقية. كانت بيوت المناطق الشعبية منذ ثلاثينيات القرن الماضي فيها مجاري ومياه نظيفة وكانت هناك أشجار في ميدان السيدة زينب وثلاث دور سينما في أنحاء مختلفة من الميدان.

لم تكن الحواري والشوارع نظيفة ولكن البيوت من الداخل كانت نظيفة، وكانت السيدات حريصات على النظافة، ولكن الاهتمام بالشارع والحارة لم يكن موجودًا، فكان إلقاء المخلفات والزبالة في الحارة أمرًا طبيعيًّا، وكانت البلدية مهتمة بالنظافة وتحاول تنظيم الشوارع والحواري.

كانت الخدمات العامة متاحة، ففي هذا المربع كان يوجد أكثر من مستشفى عام يؤدي خدمات مجانية للمرضى، لم تكن المستشفيات نظيفة ولا كانت الأَسِرَّة والحجرات مناسبة للمرضى، ولكنها كانت تؤدي الغرض وكان دخول المرضى سهلًا وتلقي العلاج وإجراء حتى العمليات الكبرى متاحًا. كانت الخدمة التعليمية متاحة، فكانت هناك ثلاث مدارس ثانوية عظيمة ومتميزة، وهي الخديوية والخديوي إسماعيل والإبراهيمية، وعدد كبير من المدارس الخاصة التي في ذلك الوقت كانت تقبل الطلبة غير المتفوقين.

ما ينطبق على هذه المنطقة كان ينطبق على كل أحياء القاهرة القديمة مثل مناطق الحسين والموسكي والدرب الأحمر، أو القديمة نسبيًّا كمناطق شمال القاهرة، مثل شبرا وروض الفرج. أما غرب القاهرة فكان عبارة عن مزارع باستثناء منطقة إمبابة القديمة التي لم تكن أيضًا عشوائيات في ذلك الوقت. شرق القاهرة الذي كان منطقة للڨيلات والقصور في المرج والزيتون، تدريجيًّا حدثت فيه تحولات عمرانية ضخمة، ومصر الجديدة بدأت واستمرت حيًّا راقيًا منظمًا حتى العقد الأخير الذي تم فيه الاعتداء عليه.

بدءًا من السبعينيات حدث التطور الكبير في ديموجرافيا عمران القاهرة وحدث ذلك بسبب الزيادة الضخمة في عدد السكان والهجرة الكبيرة من الريف وخاصة من الصعيد بسبب ضعف فرص العمل هناك، وكانت هذه الهجرة المكثفة في أحياء بعينها، فكان غرب القاهرة في منطقة إمبابة ومناطق الجيزة ومناطق شرق القاهرة وجنوب القاهرة في حلوان بعد إنشاء عدد كبير من المصانع هناك. هذه الهجرة الضخمة السريعة أدت إلى الاعتداء السريع على الأراضي الزراعية والبناء بشكل عشوائي وبدون تخطيط جعل الحياة المعقولة صعبة في هذه البنايات الملتصقة والمزدحمة والتي لا تصل إليها المياه النقية ولا الكهرباء، وبعد فترة وصعوبات دخلت هذه الخدمات أيضًا بطريقة عشوائية، فلا يوجد مستشفيات عامة جديدة مناسبة ولا مدارس ولا نظام للحياة واضح وطبيعي، وكبرت هذه العشوائيات حتى أصبحت تمثل تجمعات ضخمة تحيط بالقاهرة ويسكنها ملايين وقامت جمعيات أهلية معظمها دينية بتنظيم الخدمات الصحية والتعليمية، وحتى حفظ النظام والأمن في ظل غياب الدولة وصعوبة وصولها إلى أعماق هذه العشوائيات، وأدى ذلك إلى حوادث شهيرة وإنشاء مناطق تحكمها عصابات أو جماعات دينية.

تضخمت العشوائيات في عهد مبارك الذي انهارت فيه الدولة تدريجيًّا حتى أصبح أغلب سكان القاهرة يعيشون في هذه العشوائيات. وفي نهاية عصر مبارك وخلال الحكم الحالي وبسبب الارتفاع الكبير في نسبة الفقراء والذين على حافة الفقر، مع وجود طبقة من الأغنياء، ومع التدمير المتعمد من الدولة للأحياء الغنية مثل الزمالك ومصر الجديدة، بدأت فكرة ما يسمى بالكومباوندات في أكتوبر والتجمع الخامس، وأنشئت طرق سريعة لتسهيل الوصول إليها، وهي مناطق لها أسوار والدخول فقط للسكان أو زوارهم بدعوة ترسل على التليفون أو ترسل إلى الأمن. هذه الكومباوندات أنواع، منها أنواع مشابهة لمنتجعات كاليفورنيا وبها قصور فاخرة وكل قصر به حمام سباحة وجراجات وحديقة كبيرة. وهناك كومباوندات فيها فيلات أصغر حجمًا وبعض العمارات من ثلاثة أدوار للسكن في شقق. مشكلة الكومباوندات هي فصل الأجيال الجديدة من السكان عن المجتمع تمامًا بحيث يتعامل فقط مع عدد من الخدم والسائقين والمربيات، وعندهم نادٍ خاص بالكومباوند أو نادٍ عام، فأصبح الطفل يكبر في هذا المكان ولا يعرف شيئًا عن مصر الحقيقية، ويذهب إلى مدرسة أجنبية ذات مصاريف مرتفعة وبعد الثانوية في الأغلب يسافر للدراسة في الخارج، فهو يعيش خواجة في مصر ويعود بعد انتهاء الدراسة خواجة أكبر. فبعد أن كان الخواجات الذين يعيشون في مصر في ستينيات القرن الماضي يتمصرون ويتعلمون العربية ويعيشون في جميع الأحياء، كلٌّ حسب مقدرته ويحاول ما استطاع أن يكون مصريًّا، صار شباب المصريين من الطبقة الأعلى تعليمًا يتحدثون بالإنجليزية ومنفصلين تمامًا عن المجتمع. طبعًا هذا لا ينطبق على الجميع، وكثير من الآباء يعرفون المشكلة ويحاولون إيجاد حلول لها، ولكنها حلول شبه مستحيلة.

قام النظام المصري بقطع معظم أشجار القاهرة لأسباب غامضة وغير مبررة، وقام بتحويل المناطق الخضراء إلى مناطق للكافيهات والمطاعم وتم تغيير جذري في الحدائق وأهمها حديقة الحيوان بالجيزة وحديقة الأورمان وكلتاهما حديقة تاريخية ذات طابع متميز وكانا رئة لسكان القاهرة يزورونهما في الأعياد والإجازات والآن كلتاهما مغلقة للتطوير الذي غالبًا سوف يكون كارثيًّا وتم الاعتداء على كورنيش النيل بالبناء على ضفافه، بل وداخله في بعض المناطق، وإنشاء جراجات على النيل وتم إنشاء ممرات المشي فيها برسوم، وفيها كافيهات ومطاعم وهذا يعني تدميرًا كاملًا للطبيعة وللنهر الذي هو شريان الحياة.

العمران ليس فقط مباني وشوارع وخدمات، بل أيضًا بشر يعيشون في هذه الأمكنة ويعطونها الحياة والانتماء والشعور بالوطنية. ما حدث في القاهرة خلال العقود الأربعة الأخيرة أدى إلى كارثة يصعب إيجاد حلول لها، أهمها العشوائيات المهولة وثانيها انفصال الطبقة التي تملك وتدير وتنظم في منتجعات منفصلة عن البشر الحقيقيين، وأخيرًا إهمال الأحياء الشعبية القديمة ومحاولة تغيير معالمها وهدم آثارها وإحاطة مساجدها القديمة بأسوار وتحويل بعض شوارع المدينة إلى طرق سريعة بحيث يستحيل عبورها للمواطنين. وهكذا تحولت بعض الأحياء المخطط لها بشكل منظم إلى تغيير لطبيعتها.

الحكومات المختلفة وخاصة حكومة مبارك والحكومة الحالية هم أكثر الحكومات تسببًا في تعظيم المشكلة العمرانية بحيث أصبحت تشكل مخاطر حقيقية على مستقبل البشر في هذه المدينة العظيمة.