رؤى

أكمل صفوت

من الداروينية الاجتماعية إلى الداروينية الثقافية

2017.11.01

تصميم آخرون

من الداروينية الاجتماعية إلى الداروينية الثقافية

للعلم الحديث مصداقية تكسبه سطوة. فلو تأملنا -مثلًا- مدرسةالإعجاز العلمي في القرآن (أو الإنجيل) لاكتشفنا أن في سعيها لتثبيت الإيمان الدينيفي القلوب عن طريق ربطه بالعلم، اعتراف بسطوة العلم وبإدراك العامة أن حقائق العلم أصدق وأثبت وأكثر يقينًا لدرجة أن الدين يحتاج إلى التوافق معها.

وبسبب هذه السطوة وتلك القدرة على التأثير في سلوك البشر وأفكارهم، فلم يكن من الغريب أن تحاول الحكومات والطبقات الحاكمةفي الغرب أن تستخدم العلم في تبرير ممارساتها السلطوية العنصرية ضد الأقليات العرقية وفي دعم سياساتها الاستعماريةفي القرنين التاسع عشر والعشرين.

فبعد سنين قليلة من نشر داروين لكتابه الأول "فيأصل الانواع" ظهرت أفكار "الداروينية الاجتماعية" التي حاولت تطبيق المفهوم التطوري للانتخاب الطبيعي على المجتمع البشري. قال الداعون لتلك النظريةإن التطور الحضاريوالتكنولوجي لمجتمعات الإنسان الأبيض فيأوروبا وأمريكا الشمالية -مقارنة بـ"لا تطور" سائر المجتمعات الإنسانية- هو نوع من "الانتخاب الطبيعي" الناتج عن تميز الإنسان الأبيض بصفات وراثيةمتفردة،وإنه لذلك حتمي ودائم. كما جادل البعض بأن السمات العقلية كالذكاء والموهبة، بل والصفات الأخلاقيةكالإجرام والقسوة والانحلال الجنسي، يتم توريثها بين الأجيال كما تورث الصفات الجسدية كلون البشرة، وأن أقلياتالسود والملونين في المجتمعات الغربيةمجبولة على العنف ولايمكن إدماجها بشكل كامل وطبيعيفي المجتمع،لأنها ببساطة لاتمتلك الجينات المناسبة لذلك.

الفرينولوجيا وتداعياتها

الدليل "العلمي" على مقولات "الداروينيةالاجتماعية" جاء مما كان وقتها يسمى بعلم الفرينولوجيا (علم فراسه الدماغ). حيث كانعلماء الفرينولوجيا يعتقدون أن العقل البشري يحتوي على مجموعة من الأعضاء العقلية المختلفة، كل عضو له منطقة خاصه من الدماغ. قال هؤلاء إن الجمجمة تشبه قفاز على اليد يستوعب أحجام مختلفة من هذه المناطق من الدماغ، وإن قدرة شخص ما على امتلاك مهارة معينة يمكن تحديدها عن طريق قياس مساحة الجمجمة في المنطقة الخاصة بتلك المهارة في الدماغ.

اختلف العلماء حول عدد هذه المناطق، فتراوحت بين السبعة والعشرين والأربعين، وتنوعت وظائفها فشملت سمات مثل "تمييز الألوان"، و"الشهيةللأكل"، و"التدين". ويمكننا أن نعرف حجم الثقةفي علم الفرينولوجى ومقدار شعبيتهإذا ما علمناأن الملكة فيكتوريا والأمير ألبرت دعيا عالم الفرينولوجى جورج كومب لقراءة رؤوس أطفالهما.

في أوائل القرن العشرين تم ربط علم الفرينولوجى بدراسات التطور وعلم الجريمة والأنثروبولوجيا. ولا يمكننا هنا إلا أن نشير إلى تأثير الكاهن الكاثوليكي البلجيكي بول بوتس (1900-1999). حيث وضع نظرية عن "الكمال التطوري" في شكل الجمجمة من عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث، مؤكدًاأن الشكل البدائيللجمجمة-ومايستتبعه ذلك من صفات نفسيةوأخلاقية- مازال سائدًا في المجرمين و"المتوحشين الأفارقة".

تجدر الإشارة هنا أنه خلال ثلاثينات القرن العشرين استخدمت السلطات الاستعمارية البلجيكية في رواندا علم الفرينولوجى لشرح ما يسمى بتفوق "التوتسي" على "الهوتو" ولدعم الوضع السياسي المتناسب مع هذا التفوق.

لاعلاج لـ"الزنوج"

العلاقة بين الأفكار العلمية وتوظيفها السياسيمعقدةوتبادلية؛ أحيانًا مايتم إساءةاستخدام بعض الأفكار العلمية من قبل الساسة لدعم أيديولوجياتهم، وأحيانًا يقوم العلماء أنفسهم بهذا الدور طائعين،مسخرين علمهم لدعم أفكار سياسية ما. فكما أثرت الداروينيةالاجتماعية على شيوع ممارسات وأفكار عنصرية، كذلك أثرت تلك الافكار على الممارسات الطبيةوالعلمية.

في عام 1932 قرر الأمريكيون أن يدرسوا كيف يتطور مرض الزهري من مرحلة لأخرى. استلزمت هذهالدراسة جمع عدد من المصابين ومتابعتهم بدون علاج من خلال فحوص دورية وتحاليل، وهذا رغم أن المراجع الطبيةوقتها كانت تؤكد على ضرورة علاج الزهري بالأرسنيك والبيزموث، حتى للحالات المتأخرة. كيف إذن تم السماح لمثل هذه التجربة؟

الإجابة -للأسف- هيأن الباحثين في تلك الدراسةاختاروا مرضى ممن كان يطلق عليهم وقتها "الزنوج"، وذلك لأن الأفكار "الطبية/العلمية" السائدة عن "الزنوج"في المراجع الطبيةفي ذاك الوقت كانت تؤكد أننسبةالإصابةبالزهري وسطهمعاليةجدًا، وأن السبب هو أنالرجال "الزنوج"أقل ذكاءً وأكثر عنفاً من الناحية الجينية من البيض ولايستطيعون -مهما حاولوا- التحكم في رغباتهم الجنسية، ولذلك فإن فكرة القضاء على انتشار الزهري وسطهم من خلال علاجه محكوم عليها بالفشل، لأنهم سيصابون به مرةأخرى، هذا بالإضافة إلى أنهم غير راغبين في العلاج من الأساس.

بناء على هذه القناعات "العلمية"، قدّر الأطباء أن منطقه "زنجية"فقيرة وبها نسبه عالية من البطالة مثل توسكاجى فيولايةألاباما تعتبر بيئةمثاليةلتجربة "على الطبيعة" تدرس تطور الزهري بدون علاج، لأن "الزنوج" هناك غالبًا مصابون بالزهري (قدروا نسبةالإصابة قبل بدء التجربة بتسعين فيالمائة) وأفقر من أن يتمكنوا من العلاج وغير راغبين في العلاج.

استمرت الدراسة بالرغم من أن النتائج الأولى أثبتت خطأ الافتراضات التي بنيت عليها، إذ أوضحت أن نسبةالإصابة كانت أقل بكثير من المتوقع، وأن المتطوعين من "الزنوج" كانوا يبحثون عن علاج،وأن هذا كان الحافز الحقيقي وراء اشتراكهم في الدراسة.

بعد الحرب العالميةالثانية وبعد اكتشاف التجارب المرعبة للأطباء النازيين على البشر بحجة العلم، تمتصياغة قوانين نورمبرج ولوائح أخرى لتنظيم

قواعد البحث العلمي على البشر وأخلاقيات الأبحاث وحقوق المرضى المشاركين في الدراسات الإكلينيكية. المنطقيأن هذا كان من المفترض أن يؤدى إلى إيقاف الدراسة أو إعادة النظر فيها، لكن هذا لم يحدث. استمر أطباء دراسةالزهري المذكورةفيالتجربة وفى خداع المرضى لمدةأربعين عامًا، حتى بعد اكتشاف أن البنسيلين علاج ناجح وفعال للزهري.

حاول أكثر من طبيب إنهاء التجربة لعدم أخلاقيتها وعنصريتها عن طريق مخاطبة الأطباء المسؤولين أو الجهات والجمعيات الطبيةالمعنية، ولكن بدون نتيجة. وفى النهاية سرّب أحد الأطباء تفاصيل البحث للجرائد سنة1972، فتم إيقاف الدراسة وظهر للعالم كلفتها البشرية. أكثر من مائه مريض قضوا نحبهم من الزهري ومضاعفاته دون أن يتلقوا أي علاج، هذا غير معاناة لايمكن حسابها أو قياسها تعرض لها باقي المبحوثين، وغير حواليأربعين سيدة أصبن من أزواجهن بالمرض، وعشرات الأطفال ولدوا مصابين بهذا الداء.

الأهم من ذلك كله أن فريق البحث العامل بهذه الدراسةنشر حوالي16 بحثًابناءً على نتائجهافي أهم المجلات العلميةالأمريكيةوالعالمية حتى منتصف ستينات القرن الماضي بدون أن يستثير هذا غضب أو استهجان أي من المعنيين في المجتمع الطبي، مما يعنى أن العنصريةكانت متغلغلةفيالعقل الباطن الجمعيللمجتمع الطبي العالمي، وللمجتمع كله، بطريقة قد تجعلنا لانرى بشاعة ولا إنسانية فعل ما، بل ونتواطأجميعًا على استمراره "لو تنكر في شكل علمي".

نظرية الشتاء الطويل والداروينيةالثقافية

هناك اعتقاد سائد في الغرب أن  هزيمةالنازيةوالفاشية في الحرب العالمية الثانية وافتضاح أهوال سياساتهماالعنصرية قد قضى على هذه النوعية من الأفكار إلى الأبد. غير أن الواقع السياسيالحاليفيأمريكا وأوروبا يكذب هذه الفكرة. حيث أن دونالد ترامب يجلس الآن في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، ومارى لوبان تنافس على رئاسة فرنسا، بينما يحصل حزب له ميول نازية على 13% من الأصوات في الانتخابات الألمانية

مع تصاعد شعبية اليمين ووصوله إلى الحكم في بعض البلدان الأوروبية، تظهر على السطح مرة أخرى أدلة "علمية" جديدة تؤكد أحقية البيض الأصليين في الحصول على النصيب الأكبر من ثروات العالم ومن كعكة السلطة والنفوذ فيه.

في شهر فبراير الماضي نشرت واحدة من كبريات الصحف اليومية في الدنمارك مقال رأى لأستاذ جامعة دنماركي يشرح فيه أن سبب فشل سياسات إدماج الأجانب في الدنمارك هي أن هؤلاء لا يمتلكون الجينات المناسبة للاندماج في المجتمع الأوروبي المتحضر.كرر هذا الأستاذ الجامعي أدلة "علمية"تشبه نفس الكلام القديم عن "الزنوج"، ومقولات تشبه كلام النازيين على الأجناس غير الآريةالأقل ذكاءً والأكثر عنفًا.

الفرق أن هذا الأستاذ الدنماركي لايتحدث عن الأجناس، بل عن "الأجانب"و"المسلمين"و"غير الأوروبيين"، أي عن مجموعات من البشر قد تكون مختلفة عرقيًا لكنه يتصور أن "ثقافة" واحده تجمعهم؛ إنها الداروينية الثقافية التي تجتمع عليها كل أحزاب أقصى اليمين الأوروبي والأمريكي.

هذا الأستاذ الدنماركي لا يستخدم علم الفرينولوجى القديم، وإنما يعتمد على واحد من عدة كتب جديدة ظهرت في التسعينات من القرن الماضي لتعيد إنتاج الأفكار القديمة في قالب جديد وباستخدام معلومات جديدة. أحد هذه الكتب هو كتاب فيليب رشتون "الأجناس والتطور والسلوك" (Race, Evolution & Behavior). الكتاب مبنى على مجموعة واسعة من البيانات الفكرية والشخصية والإنجابية والفسيولوجية عن الأجناس الرئيسية الثلاثة -المنغولية والقوقازية والزنجية- جمعها رشتون من مصادر متعددة وواسعة النطاق، وطبق عليها نظريات في علم الأحياء التطوري لشرح كيف طوّرت هذه الأجناس الثلاث استراتيجيات الإنجاب والتنظيم الاجتماعي المختلفة.

أطروحة رشتون هي أنه عندما هاجر البشر الحديثون من أفريقيا، ربما قبل حوالي مئة ألف سنة، فإن المناخ اليورو-أسيوي الأكثر برودة كان ملائمًا للجنس القوقازي، صاحب الأدمغة الأكبر القادرة على التخطيط الاستباقي، وأدى تفاعل البشر مع ذلك "الشتاء الطويل" إلى سياق اجتماعي يتميز بالاستقرار الأسري وطول العمر، مع ما يصحب ذلك من انخفاض في هرمونات الجنس والعدوانية، على عكس المجموعات التي استوطنت المناطق الحارة.

يستخدم الأستاذ الجامعي الدنماركي هذه المعلومات، ثم يزيد عليهاأنالسياق الاجتماعي الذي أنتجه المناخ البارد قد خلق سياق ثقافي تشاركي تعاقدي وديمقراطي، هو سياق لا يتناسب مع المهاجرين الجدد من المناطق الحارة، ببساطة لأنهم ليسوا مؤهلين لاجينيًا ولا ثقافيًا للديمقراطية.

نقد وتفنيد هذه الأفكار ليس بالأمر العسير.ذلك أنها تعتمد على ارتباطات إحصائية وليس على تجارب دقيقة،وعلى معلومات تم جمعها لأسباب أخرى غير موضوع البحث (مثل أن تجمع معلومات من وزارة الاقتصاد عن قيمة تصدير محصول البطاطس على مدى عشرة أعوام، ثم تحاول استخدامها لتقدير زيادة أو انخفاض مستوى خصوبة الأرض الزراعية). فعلى الرغم من أنه قد تكون هناك بالفعل علاقة بين المتغيرين، إلا ان الربط المباشر بينهما يشوبه العوار. الأهم أن تحليل المعلومات يظهر أن التنوع داخل الجنس الواحد (في معدلات الذكاء مثلًا) أكبر من التنوع بين الأجناس.

إذن فالمشكلة ليست في نقد تلك الأفكار، المشكلة أننا -بالتزامن مع تلك المقولات والتحولات السياسية- على أعتاب مرحلة جديدة من مراحل العلم ستضع البشرية أمام امتحان حقيقي واختبار جديد.

الجينات والسلوك الاجتماعي

في منتصف التسعينات تقريبًا أصبح من الممكن للعلماء إحداث طفرات توقف عمل أي جين وراثي يحتاجون إلى دارسته و"إنتاج" أو "خلق" فئران تجارب تفتقر لوظيفة هذا الجين حتى يمكن دراسته. ففي سنه 1996 نشر مجموعة من الباحثين الأمريكيين في جامعةماساشوستس دراسة هامة في مجلة "الخلية" (Cell)،وهي واحدة من أهم الدوريات العلمية في العالم،قالوا فيها إنهم أوقفوا عمل الجين المسمى "فوس ب" وراقبوا الفئران فوجدوها طبيعية تمامًا في كل الصفات الجسدية الظاهرة وفي القدرات العقلية، غير أنهم حين زاوجوا بين هذه الفئران اكتشفوا أن إناث الفئران لا تقوم برعاية أبنائها فلاتدفئهم بجسدها ولاترضعهم حتى تموت هذه الفئران الصغيرة من الإهمال.بناء على ذلك قام العلماء بأبحاث دقيقةاكتشفوامن خلالها مكان المركز في المخ الذي تأثر بغياب وظيفة الجين الوراثي الذي أدى لأن تفقد إناث الفئران "أمومتها" أو قدرتها على "الرعاية". أثبتت هذهالدراسة-لأول مرة- أن سلوكًا اجتماعيًا معقدًا كرعاية الأبناء يمكن أن يعتمد في الثدييات على وظيفةجين وراثي واحد.

شيء من الخوف

في سنة 2014 نشرت مجموعه أخرى من الباحثين الأمريكيين دراسة أخرى مهمة وفريدة من نوعها. عرّض الباحثون مجموعة من الفئران لرائحة عطرية لنبات معين، وكلما نشروا الرائحة في المكان عرّضوا الفئران لصدمات كهربائية. النتيجة المتوقعة للتجربة كانت أن الفئران أصبحت تخاف من الرائحة، وكلما عرّضوها لها أصيبت بالفزع. ثم اكتشف العلماء أن الفئران أصبح لديها عدد أكبر من المستقبلات في أنوفها لتلك الرائحة تحديدًا، وعدد أكبر من الوصلات العصبية لإدراك الرائحة في المخ. إذنفالفئران أصبحت أكثر حساسية وقدرة على اكتشاف هذه الرائحة المخيفة وتمييزها. المدهش والجديد هنا أن الخوف المكتسب يستطيع أن يغير في طبيعة الجسم وصفاته البيولوجية.

على أن الأهم والأخطر هو أن العلماء بعدما عرّضوا تلك الفئران للتجربة السابقة لمده 8 أيام متصلة، تركوها لمدة3 أيام، ثم سمحوا لها بالتزاوج، فاكتشفوا أن الفئران المولودةتظهر عليها نفس علامات الفزع إذا ماتعرضت للرائحة، برغم أنها لم تتعرض أبدًا للصدمات الكهربائيةالمصاحبة لها. كذلك وجد العلماء عند هذا الجيل الثاني من الفئران نفس العدد الكبير من مستقبلات الرائحة في الأنف والمخ.

الفئران ورّثت أبناءها الخوف.

حتى الجيل التالي من الفئران (أحفاد الفئران الخائفة) ورث نفس الخوف.

الخوف ينتقل عبر الأجيال.

دقه التجربة لاتدع مجالًا للشك في النتائج. ولكن يظل السؤال: كيف يتحول الخوف المكتسب لخوف غريزي ينتقل عبر الأجيال؟

المكتسب والموروث بين الجينات ومافوقها

النظرية العلمية التي تفسر تلك الظاهرة المدهشة هي أن للجينات الوراثية مفاتيح تشبه مفاتيح فيشة الكهرباءوتسمى مؤثرات "فوق جينية" (Epigenetic)، وعن طريقها يتم تشغيل الجينات أو إيقافها.

معروف أن التجارب الحياتية القاسية تؤثر سلبيًا على أعضاء الجسم، فمثلًا يصاب الإنسان بمرض السكري أو الضغط أو القلب بسبب تعرض جسمه لجرعات عالية من هرمونات ومواد كيميائية معينة يفرزها الجسم كرد فعل على التوتر والضغوط.ما تشير إليه التجربة هو أن تلك الهرمونات يمكن أن تستحدث مؤثر "فوق جينى" يؤثر على الجينات في البويضات أو الحيوانات المنوية وبالتالي يتم توريثه.

هل ينطبق هذا أيضًا على البشر؟

أثبتت دراسة دنماركيةالعام الماضي أن فقدان الوزن الناجم عن عمليةربط المعدة التي يجريها مرضى البدانة المفرطة من الرجال،يؤدي إلى اختلاف نوعي في الصفات الجينية للحيوانات المنوية، ولاسيما في المواقع الخاصة بالسيطرة المركزية على الشهية، مما يثبت أن هناك طريقة بيولوجية تسمح للعوامل البيئية الخارجيةبالتأثيرعلى الصفات الموروثة للأبناء، وهو ما يعني أن المكتسب ممكن أن يتحول بيولوجيًا وجينيًا إلى موروث.

رجال وفئران

كباحث في الطب لا أستطيع إخفاء إعجابي وانبهاري بتلك النتائج، وحماسي لما ستفتحه من آفاق لفهم الطبيعة البشرية والعلاقة المعقدة بين المكتسب والموروث.

لكن كمهتم بالسياسة ومنتم لأقلية عرقية ودينية في الغرب، لا أستطيع أن أخفي خوفي أو أن أتجاهل احتمال استخدام هذه النتائج لخدمة اتجاه عنصري متصاعد انتقل الآن من مرحلة الداروينية الاجتماعية التي حكمت على أجناس معينة بأن تكون أبدًا على هامش الحضارة، إلى مرحلة الداروينية الثقافية التي تصم المنتمين لثقافات معينة بصفات التأخر والهمجية. يمكنني أن أتخيل ما يمكن أن يحدث لو أن هناك شبهة دعم علميللمقولات التي تدعى أن "ثقافه القهر والديكتاتورية والتطرف الديني" تورّث وأن المهاجرين من تلك المجتمعات والثقافات، وكذلك أبناءهم، لا يمكن دمجهم في الديمقراطيات الغربية. كلامًا يشبه ذلك يقال حاليًا بالفعل وتبنى عليه قوانين مجحفة بحق المهاجرين، فما بالنا لو ظهرت شبهة الدعم العلمي تلك.

من الناحية العلمية البحتة، تثبت هذه التجارب عكس ما يزعم اليمين السياسي. فهي تثبت قدرة الكائنات -الإنسان تحديدًا- غير المحدودة على التأقلم، ويمكن استخدام منطقها لإثبات أن تحسين الظروف والمؤثرات البيئية والتعليم يمكن أن يؤدوا إلى تغلب الإنسان على بعض الموروثات الجينية السلبية. المشكلة أن العلم كالسياسية به نزعات تقدميةوأخرى رجعية أو محافظة، وأن صعود اليمن السياسي قد يصاحبه صعود لنفس الاتجاه في العلم.

عمومًا ما زالت نتائج تلك الأبحاث جنينية، ولا نستطيع الآن تكوين فكرة واضحة بعد عما ستكشف عنه في المستقبل. لكنى لا أستبعد أبدًا أن يتم تأييد هذه الكشوفات العلمية الأولية بمرور الزمن؛ لا أستبعد أن أبناء المجتمعات التيرزحت لعقود طويلة تحت دكتاتوريات قمعية وسلطات مستبدة يمكن أن يوّرثوا أبناءهم خوفهم من السلطة وضابط الشرطة، ولاأستبعد كذلكتوريثهم لذريتهمالنفاق للسلطة كأسلوب ناجح من أساليب التأقلم والتعايش. لم لا؟ فمن وجهه نظر تطورية بحتة، النفاق أسلوب أنجح للبقاء وأضمن لحفظ النوع من مخاطر مواجهة السلطة الغاشمة.

لكنى أيضًا أدرك أن الفئران -على عكس البشر- لاتثور ضد الظلم ولاتبحث عن العدل ولا تحارب من أجل المساواة ولا تضحي بحريتها من أجل سعادة باقي الفئران.  لم تخلق الطبيعةجين للعدل. هذا ميراث صنعه البشر. قانون الانتخاب الطبيعي في الفئران هو "البقاء للأصلح"، أما امتحان البشرية الحقيقيفهو أن تنجح في أن تجعل "الأصلح" هو "الأعدل والأحكم".