دراسات

موريس عايق

في عجز الشعبوية العربية

2018.10.01

في عجز الشعبوية العربية

مقدمة

خلال الموجة الأولى للربيع العربي برزت محاولة لتطوير سياسات شعبوية مع ظهور «الشعب» في مواجهة النظام. لكن لم يقيض لها النجاح والاستدامة بعد الموجة الأولى ونجاح التوانسة والمصريين بالإطاحة برموز النظام السياسي وخلع رؤسائهم. فتزايد انسحاب الجمهور والترفع عن العمل السياسي، حيث لم يرغب «شباب الثورة» بلعب دور سياسي؛ وجنحوا لاعتبار أنفسهم قوة أخلاقية ومعنوية، مما سمح للنظام باستعادة توازنه وقوته والعودة للسلطة مرة أخرى من داخل عباءة الثورة نفسها. وفي سوريا واليمن والعراق وليبيا فشلت هذه المحاولات منذ البداية وانتكست الأحوال فيها إلى حروب أهلية. لماذا عجزت الثورات العربية ونخبها السياسية عن تطوير استراتيجيات شعبوية، تسمح بفتح الباب لتحالفات سياسية واسعة وعريضة تدخل إلى المجال العام وتتحدى النظام السياسي، أو حتى البنية المؤسساتية العميقة والراسخة له، وتحافظ على قوة ثورية جاهزة ومعبأة لحماية الثورة وتعميق إنجازاتها؟ لماذا لم نكن قادرين على بناء مثل هذه التحالفات الواسعة التي تعتمد بشكل أساسي على تمثيل الشعب، وسعتها هي ما يسمح لها بمثل هذه الادعاء.

للإجابة على مثل هذ السؤال فإننا نحتاج إلى إطار نظري يشرح الاستراتيجيات الشعبوية وتكوينها، بما يسمح بمقاربة سؤال الشعبوية العربية وتعثرها. قدم ارنستو لاكلاو (Laclau, 2005) في عمله «العقل الشعبوي» إطارًا نظريًّا يسمح بفحص الشعبوية، وسأحاول تلخيص هذه النظرية بما يعنينا فيما يتعلق بسؤال الشعبوية العربية.

منطق الشعبوية - لاكلاو

يفهم لاكلاو الشعبوية لا بوصفها نمط لحركات سياسية، بل بوصفها منطق تجييش وتعبئة، بوصفها منطق السياسة نفسه. فالشعبوية لا تحيل إلى مجموعة من الحركات والأحزاب أو إلى إطار أيديولوجي أو مجموعة من الأفكار المتسقة، بل منطق واستراتيجية سياسية. يستند منطق الشعبوية إلى الانقسام إلى معسكرين متنازعين، بحيث يتم تشكيل الهوية السياسية حول خط المنازعة بينهما، الشعب في مواجهة النظام والنخب الحاكمة ومؤسساتها. فمنطق الشعبوية يفسر الاستراتيجية الكامنة خلف عملية تشكيل «الشعب» في مواجهة النظام. إن المجتمع متنوع بطبيعته، فالعديد من الجماعات تملك مطالب متنوعة ومختلفة فيما بينها، مثل سكان الأحياء الهامشية الذين يعانون من سوء الخدمات والتهميش فتتمحور مطالبهم حول تأمين شروط سكن صحية، أو العمال الذين يعانون من ظروف عمل صعبة ولمدد طويلة ويهدفون بالتالي إلى تحسين شروط عملهم وزيادة أجورهم، أو مجموعة من أبناء الطبقة الوسطى تعاني من الوصول إلى فرص تعليمية تسمح لها بتحسين مواقعها وبالتالي تهدف إلى تعديل سياسات التعليم بما يؤمن لها فرص أكبر بالوصول إلى هذه الخدمات التعليمية بما يؤمن لها فرصة أكبر للترقي الوظيفي، وصولاً إلى حركات نسوية أو مثليين أو حركات بيئة. هناك عدد متنوع وهائل من المطالب التي يمكن لجماعات مختلفة أن تتمحور حولها في بناء مطالبها وتحديد سياساتها انطلاقًا منها. تظهر إمكانان أساسيان كاستراتيجيات سياسية تؤطران آلية التعامل مع هذه المطالب. يتعلق هاتان الإمكانان بالنظام نفسه وحدوده وما يسمح به من ناحية، وبالاستراتيجية التي يتبعها أصحاب هذه المطالب من ناحية أخرى.  نشهد الإمكان الأول عندما يكون النظام قائم على بيئة مؤسساتية فعالة تسمح لهذه المطالب بالحضور المؤسسي داخل النظام بحيث يمكن لها التعبير عن نفسه، ويؤمن النظام لهذه المطالب إمكان الإشباع من داخل المؤسسة مع حفظ تفردها واختلافاتها فيما بينها. يسمي لاكلاو هذه المطالب مطالب مؤسسية مع إمكان تمثيلها بشكل مؤسساتي داخل بنية النظام، وهو ما نراه مثالاً في الأنظمة الديموقراطية الليبرالية التي تمنح المجال لجماعات متنوعة بالوصول إلى منافذ مؤسساتية داخل مؤسسات النظام للتعبير عن مطالبها والسعي إلى تأمين تحقيقها. في هذه الحالة لن تنجح الشعبوية، بل وحتى لن تنجح السياسة نفسها في التبلور، فالخلاف سيأخذ أشكالًا مؤسساتية وإدارية متزايدة بحيث تصبح السياسة وبشكل متزايد مع الوقت شكلاً من أشكال الإدارة التقنية للأشياء. تتمثل الحالة الأخرى، التي تهمنا، في عدم قدرة النظام -وبشكل متزايد- على تأمين أشكال تعبير مؤسساتية تسمح بتلبية مطالب هذه الجماعات، عندها تبدو هذه الجماعات وكأنها مقصاة إلى خارج النظام وبنيته المؤسساتية، وتصبح مطالبها الفئوية متداخلة مع الرغبة بتوسيع النظام وقاعدته المؤسساتية من خلال مواجهة بنيته ونخبه المؤسساتية. يسمي لاكلاو هذه المطالب مطالب ديموقراطية وهي الخطوة الأولى والضرورية في عملية بناء الهوية الشعبوية.

يمكن للأنظمة الديموقراطية الليبرالية نفسها أن تصل إلى هذه الحالة عندما يعجز النظام وبشكل متزايد عن تمثيل هذه المطالب بشكل فعال من خلال تقديم منافذ حقيقية لها تسمح بتوصيل صوتها والتأثير على القرار بالحد الأدنى فيما يمسها، حيث نشهد ذلك في العزوف عن السياسة والاغتراب عنها والشعور بالعجز أمامها المرافق لتحولها المتزايد إلى عملية بيروقراطية إدارية لنخبة معزولة عن أي تأثير شعبي. ويمكن أن نشهد حالات يقوم النظام الليبرالي بإقصاء جماعات محددة من الوصول إلى تمثيل حقيقي لها، مثلًا السود في أمريكا. لكن لا نشهد في هذه الحالة تشكل هوية شعبية، طالما أن الجماعة-الضحية المنازعة للنظام هي أقلية. حيث تسعى الاستراتيجية السياسية لهذه الجماعة إلى تحقيق المساواة في التمثيل داخل النظام، أي النضال للدخول إلى النظام وليس ضده، توسيع قاعدته وليس تغييره، فتقتصر هذه المطالب على البعد الديموقراطي دون التطور إلى سياسة شعبوية.

 ما ينقص المطالب الديموقراطية حتى تتحول إلى هوية شعبوية هو ربطها بعضها ببعض في سلسلة تكافؤ جامعة. بقاء مطالب سكان الضواحي بخدمات أفضل في مواجهة التهميش وضد النخبة والمؤسسات التي تُقصيهم هو أساس لأي سياسة واستراتيجية ديموقراطية، غير أن بقائها معزولة عن مطالب جماعات أخرى لن يجعل منها أساسًا لهوية شعبية. تحتاج مطالب سكان الضواحي، الذين يُعرفون أنفسهم من خلالها، أن تلتقي مع جماعات أخرى مثل العمال المطالبون بظروف عمل أفضل أو مجموعات إثنية أو عرقية أخرى. نشوء سلسلة التكافؤ بين مطالب المجموعات المختلفة يسمح بتوحيدها في مواجهة النظام ومؤسساته لتشكيل هوية شعبية، الشعب، في مواجهة النظام والنخبة. الآن لدينا مجموعتان، الأولى هي النظام ونخبته والثانية هي الشعب الذي تشكل على أساس مجموعات متنوعة لها مطالب ديموقراطية تقوم بينها سلسلة تكافؤ. هذا يجعل من الشعب تشكيل خطابي، أي نتاج المنازعة السياسية واللغة التي نصوغ من خلالها هذه المنازعة. فالشعب ليس له وجود موضوعي مستقل عن المنازعة نفسها، ولا يُنتظر منه إلا أن يكشف عن نفسه كما تدعي الأيديولوجيات الشعبوية نفسها. حدود المنازعة السياسية مع النظام هي التي تحدد ماهية الشعب، أي الجماعات التي تشكل هذا الشعب من خلال إيجاد سلسلة تكافؤ بين مطالبها. ينظر لاكلاو إلى الشعب بوصفه عملية تسمية تتحقق خلال هذه المنازعة مع النظام، حيث تنجح الحركة الشعبوية في إطلاق اسم „الشعب“ على تحالف الجماعات التي تنازع النظام، مثالاً إذا كان لدينا حركة شعبوية يمينية، فإن المنحدرين من أصول إثنية مختلفة (المهاجرون) أو من أصول عرقية مختلفة (السود) لن يكونوا جزءًا من الشعب، بينما إذا كانت لدينا حركة شعبوية يسارية فإن هاتين الجماعتين ستعتبران جزء طبيعي من الشعب.

إن شرط تحقيق سلسلة التكافؤ لتحالف الجماعات ذات المطالب الديموقراطية هو قدرة إحدى هذه الجماعات على تحقيق الهيمنة بشكل تصبح معه مطالبها ورموزها وصياغتها للنزاع هي السردية المهيمنة التي يتم من خلالها تعريف النزاع والنجاح في ربط المطالب الأخرى في سلسلة التكافؤ نفسها. تقدم الحركة العمالية مثالاً ممتازًا لمثل هذه الهيمنة التي نجحت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في بناء سلاسل التكافؤ التي شكلت الهويات الشعبية. فالبروليتاريا نجحت في تقديم سرديتها للنزاع مع النظام، الصراع الطبقي كمحدد للصراع في النظام الرأسمالي، باعتبارها السردية المركزية التي يتم خوض الصراع على أساسها، بحيث نجحت في ربط المطالب الديموقراطية لجماعات أخرى من خارج البروليتاريا مع مطالبها داخل سلسلة التكافؤ يتم دمجها في استراتيجيات النضال التي خاضتها الحركات والأحزاب الاشتراكية. هكذا وجد الفلاحون أنفسهم جزءًا من النضال الطبقي، كما سعت الحركات النسوية للتعبير عن مطالبها من داخل سردية الصراع مع النظام الرأسمالي باعتبار استغلال المرأة والتمييز ضدها يمكن فهمه من داخل الخطاب الطبقي بوصفه شكلاً من أشكال الاستغلال الطبقي بحيث يرتبط تحرير المرأة بالتحرر من الشكل السلعي للعلاقات الإنسانية. نجحت الحركات والأحزاب الاشتراكية في بناء سلسلة تكافؤ بين جماعات لها مطالب متنوعة، ووحدت هذه المطالب بفضل هيمنتها داخل بنيتها الخطابية بحيث أصبحت روايتها للنزاع هي الرواية المهيمنة والقاعدية المستخدمة من قبل أي جماعة أخرى لإعادة صياغة مطالبها الخاصة داخل البنية الخطابية المهيمنة.

طبعًا، لا تعني الهيمنة أن هذه المطالب أصبحت متماثلة، بل إن الاختلاف بينها قد يصل لاحقًا -إن بحكم تطورات المنازعة نفسها أو بعد تولي السلطة- إلى مرحلة من التناقض بشكل لا يمكن معه الحفاظ على سلسلة التكافؤ هذه وصيانتها. قد نرى مثل هذا مع الحركات النسوية، فعلى الرغم من ارتباطها الأولي -وإن ليس بدون توترات- بالحركات الاشتراكية انفكت عنها لاحقًا لمصلحة مطالب تركز على المساواة بين الجنسين ومن داخل النظام نفسه، فتحولت وبشكل متزايد إلى مطلب مؤسساتي، أصبح مُهيمنًا مع توجه النظام إلى تبني أيديولوجيا ليبرالية تركز على التنوع والاختلاف.

ينظر لاكلاو إلى اسم «الشعب“ بوصفه دال فارغ وأيضًا دال غائم. دال فارغ بمعنى أن الشعب لا يحيل إلى موضوع محدد يأخذ الاسم معناه من الإحالة إليه. مثلًا أن نحيل إلى شيء خارجي مثل الكرسي، فإن معنى اسم «كرسي» يتحدد على أساس هذه الإحالة، فالمعنى هو الصورة التي نشكلها في أذهاننا للكرسي والتي تشمل صفاته الأساسية. العلاقة بين الاسم (معناه) والشيء الذي يحيل إليه هي علاقة تمثيل. في حالة الدال الفارغ، فإنه لا يوجد شيء خارجي (موضوع، شيء) يتم على أساسه تحديد معنى الاسم. على العكس إن معنى الاسم يتحدد من خلال الدور الذي يلعبه في الخطاب، هنا في المنازعة السياسية مع النظام، وعلى هذا الأساس يتم تحديد (تشكيل) الشيء الذي يحيل إليه الاسم، وهو ما قد يتغير مع تطور المنازعة. لا يأخذ اسم «الشعب» معناه من كونه يحيل إلى الشعب، بل أن الشعب (الموضوع الخارجي) يتحدد من خلال المعنى المعطى لاسم الشعب داخل الخطاب وفي إطار النزاع نفسه. لنأخذ مثالًا بسيطًا، عندما يكون النزاع ضد النظام قائم على أساس السعي إلى تحقيق مساواة بين جميع الجماعات العرقية المتباينة وتوسيع القاعدة الديموقراطية للنظام أمام المقصين منها لأسباب عرقية واقتصادية، كما كان الحال في الولايات المتحدة خلال فترة النضال المدني والنضال ضد حرب فيتنام، فإن الشعب يتكون من السود والطلبة والهسبانيين والعمال. لكن مع التحول الحالي للمنازعة ضد نظام النخبة انطلاقًا من الدفاع عن العمال البيض الذين يتعرضون لإقصاء منتظم وتهديد بالسياسات الاقتصادية المعولمة، فإن الشعب يصبح الجماعة البيضاء البروتستانتية بحيث يخرج السود والهيسبانيون منه. في الحالتين واجه الشعبُ النظامَ، ولكن في كل مرة كان الشعب يحيل إلى تصور مختلف وجماعات مختلفة بحسب الخطاب السياسي المستخدم في المنازعة مع النظام، بما يعني أن معنى الشعب لم يأخذ تحديده من الشيء الخارجي الذي يُحيل إليه، بل من بنية الخطاب السياسي الذي يُستخدم فيه اسم الشعب. بالنسبة إلى لاكلاو، لا يعني الدال الفارغ دال دون مدلول، دون مرجع مثل „بابا نويل“، بل يعني أن المرجع يتم تحديده من داخل الخطاب الذي يعطي الاسم معنى وليس من خلال علاقة تمثيلية بين الاسم ومرجعه. الشعب ليس له وجود أنطولوجي مستقل عن الخطاب الذي ينتجه، لكن اسم الشعب يحيل دومًا إلى شيء ما هناك.

يحيل لاكلاو أيضًا إلى الشعب بوصفه دال غائم، وهذه تعني أن حدود الشعب غائمة وغير محددة بدقة وثابتة، بل متحركة وغير واضحة ويمكن أن تنزاح خلال النزاع السياسي بما يسمح بدخول جماعات أو خروجها من الشعب. مثلًا جماعة ضمن التحالف المعارض للنظام، ولكن النظام ينجح عبر سلسلة من العمليات السياسية بإرضائها وعزلها عن التحالف المعادي له وسحبها إلى معسكره، بما يغير حدود الشعب بحيث تصبح هذه الجماعة خارجه.

هناك أيضًا إمكان لوجود جماعات لا يمكن لمطالبها أن تتمثل من داخل المنازعة نفسها، بحيث تجد نفسها خارج المعسكرين المتنازعين ولا يمكن ربط مطالبها الخاصة بأي من سلسلتي التكافؤ الخاصتين بطرفي النزاع. ربما المثل الكلاسيكي هو البروليتاريا الرثة. فكلا الفصيلين المتنازعين نظر إلى البروليتاريا الرثة بوصفها شيء قديم ومتخلف وبقايا مرحلة تاريخية مفوتة، لن يلبث أن يزول ولهذا لم يكن من الممكن تمثيل مطالب هذه الجماعات داخل أيًّا من هذين المعسكرين. أو مثلًا الجماعات الهامشية في المجتمعات التي تكون مقصاة في جيتوهات خاصة بها وأنماط حياة مرتبطة حصريًّا بها، مثل النَّوَر والقرباط الذين كانوا على هامش الحياة وخارج أية منازعة ولا يمكن تمثيلهم داخل أي معسكر.

لنعيد صياغة ما لدينا؛ عندنا جماعات لها مطالب ديموقراطية في مواجهة النظام. ولكي تنجح هذه الجماعات في تكوين الشعب، فإن عليها بناء سلسلة تكافؤ فيما بينها بحيث تتوحد هذه الجماعات في إطار هوية عامة هي الشعب. سلسلة التكافؤ هذه لا يمكن بنائها إلا بفضل الهيمنة التي تنجح إحدى هذه الجماعات من خلالها بتأمين هيمنة سرديتها من ناحية، وتمكين الجماعات الأخرى من ربط مطالبها وصياغتها على أساس من السردية المهيمنة. هذا المنطق هو ما يسميه لاكلاو بمنطق الشعبوية، وهي استراتيجية تشكيل الشعب بوصفه ممارسة خطابية، يتشكل من داخل المنازعة السياسية واستراتيجياتها. بهذا المعنى تصبح الشعبوية لدى لاكلاو مطابقة للسياسة نفسها، فكل ممارسة للسياسة تفترض ضمنًا الشعبوية، وإن تكن هناك درجات، خصوصًا عندما يكون التحالف واسع بشكل كبير ويتضمن جماعات متنوعة كثيرة، مما يجعل الأيديولوجيا التي توحد هذه الجماعات تبدو خليط غير متسق من الأفكار. وهذا الخليط ليس سمة لالتباس الشعبوية وعدم اتساقها، بل تعبير عن منطق الحشد والتعبئة السياسيين الملازمين لمنطق الشعبوية نفسها.

يضيف لاكلاو ملاحظة مهمة تتعلق بحدود النزاع، جبهة المنازعة. في العرض السابق تبدو الجبهة ثابتة، لكنها ليست بالضرورة كذلك، بل قد تتحرك خلال تطور النزاع نفسه، مما يؤدي إلى انتقال مجموعات من معسكر إلى آخر مع تحرك هذه الجبهة. لنتصور مثلا المطالبة بسياسات ضرائبية أكثر عدالة وموجهة ضد كبار الرأسماليين، ولكن مع نجاح الدفعة الأولى من هذه السياسات الضريبية ارتفعت مطالب بتوسيع هذه السياسات الضريبية مما قد يؤدي إلى شمولها لفئات من الطبقات الوسطى كانت أساسًا في المعسكر الشعبي، لتجد نفسها متضررة من التوسيع الجديد للسياسات الضريبية، فتنتقل إلى التحالف مع المعادين للسياسات الضريبية. أو مثلًا سياسات حماية العمل والحد من قدرة الشركات على الانتقال إلى دول ذات دخول ضعيفة، وهذا ما يتطلب زيادة في قدرة الدولة على التحكم وحماية عمالها، ولكن هذه السياسات قد تتداخل بشكل متزايد مع سياسات قومية توحد بين العمال وأصولهم القومية، بحيث تجعل من العمال ذوي الأصول المهاجرة مستهدفين، وهكذا بتحول خط المنازعة من ضبط الشركات إلى فكرة قومية عن حماية العمل، فإن جماعة مثل العمال من أصول مهاجرة سيجدون أنفسهم وقد انتقلوا للدفاع عن سياسات مضادة للتدخل المتزايد للدولة في شؤونهم.

الإطار النظري الذي يعنينا في نقاشنا اللاحق هو الملاحظات التالية:

الشعبوية تتشكل على أساس معسكرين، بحيث تكون حدود النزاع هي الحدود التي تسمح بتكوين هوية الشعب.

الشعب هو جماعات متنوعة لها مطالب مختلفة، ولكنها قادرة على تشكيل سلسلة تكافؤ بين هذه المطالب.

قدرة إحدى الجماعات على الهيمنة بحيث تقدم، بفضل هذه الهيمنة، الإطار الخطابي الذي يسمح لسلسلة التكافؤ بالتشكل، من خلال توفير فرصة لمطالب الجماعات الأخرى بربط مطالبهم وصوغها داخل السردية التي تقدمها الجماعة المهيمنة والتي بدورها تقدم الذخيرة الرمزية لهوية الشعب.

الشعبوية عربيًّا: الشعبوية العربية على المستوى النظري - غليون

قبل مناقشة السياق العربي أود تقديم مناقشة سريعة لما يمكن اعتباره محاولة عربية في بناء سياسة شعبوية، وهي تتمثل بالعمل النظري لبرهان غليون، وعمل غليون هو تعبير مكثف عن محاولات العديد من الحركات الديموقراطية العربية والمثقفين العرب الديموقراطيين لبناء استراتيجيات سياسية وثقافية ديموقراطية تسمح بتكوين تحالفات شعبية ذات مطالب ورؤى تغيرية ديموقراطية.

سأحاول تقديم تلخيص لقراءتي لعمل غليون «نقد السياسة: الدولة والدين» (غليون، 2007) والمنطق الذي يحكمه. هناك معضلة عربية تتمثل في نزاع بين الدولة العربية الحديثة والمستبدة من جهة وحركات إسلامية رجعية واستبدادية ذات امتداد شعبي من جهة أخرى. تقوم المحاولة على إظهار أن هذه المنازعة في جوهرها منازعة مزيفة، فهي لا تتمركز حول مطالب الشعب الديموقراطية، على العكس تقصي الشعب وتخرجه، لأنها في أساسها تدور بين قطبين مستبدين ومعاديين للسياسة والديموقراطية. يحاول غليون كشف هذا الزيف الخاص بهذه المنازعة من خلال كشف زيف ادعاءات القطبين أساسًا وتفكيكها. فالدولة التي تتبنى الحداثة والعقلانية لتبرير وتأسيس شرعيتها، لا تمت بصلة في الواقع إلى الحداثة والعقلانية، بل هي دولة مستبدة تحكمها طغمة فاسدة، تستخدم الحداثة مثلما تستخدم الدين نفسه في سياقات أخرى، من أجل تبرير سلطتها والحفاظ عليها. هكذا تحول الدولة العربية العلمانية إلى أيديولوجيا، من خلال إفساد معناها، وذلك لخدمة أغراضها المتمثلة بتبرير تسلطها وقمعها باسم العلمانية. وهذه العلمانية لا تمنع الدولة العربية من التدخل في الشأن الديني والسعي إلى التحكم به وضبطه وضبط تأويلاته بما يصب في مصلحتها. باسم العلمانية، تنجح هذه الدولة في الاستفادة من خدمات نخب ثقافية حديثة بالإضافة جماعات أخرى يجمعها الخوف من الإسلاميين.

من جهة أخرى تظهر حركات ذات أيديولوجيا إسلامية مناهضة للدولة باسم الدين، حركات تتبنى أيديولوجيات رجعية وثيوقراطية تسعى لإخضاع السياسي للديني. كذلك يسعى غليون لتفكيك خطابها، بالتدليل على أنها لا تعبر عن القيم الأساسية للدين، مثلما الدولة الحديثة لا تعبر عن القيم الحقيقية للحداثة، بل على العكس تشكل خيانة لهذه القيم بإهدارها البعد المتعالي للتجربة الدينية الإسلامية الذي فصل بين الله (المتعال بشكل كامل) والواقعي المعاش (السياسي) بما يمنع الاستبداد الديني وتبرير السلطة السياسية بكونها إلهية أو دينية الطابع. على الجانب الآخر سعى غليون إلى التدليل على الطبيعة الحديثة للحركات الإسلامية الكامنة خلف شعاراتها التراثية. فالحركات الإسلامية متورطة في النزاع السياسي على السيطرة على الدولة الحديثة وأجهزتها واخضاعها لمصلحتها، فتصورها عن الدولة مماثل في النهاية لفكرة الدولة الحديثة نفسها وإن صبغتها بصبغة إسلامية. كذلك تبدو أيديولوجيات هذه الحركات مشابهة للأيديولوجيات الحديثة معتمدة على أشكال حديثة من التعبئة والتنظيم السياسيين. في نزاعها مع الدولة المستبدة، تسعى الحركات الإسلامية لتسييس القيم الأخلاقية والتقاليد الخاصة بالشعب (الإسلام) ولكن انطلاقها من مصلحتها وأهدافها الخاضعة لمنطق السلطة. مهدرة خبرة الإسلام السياسية التاريخية القائمة على تعالي الديني وتمايزه عن السياسي ورهاناته المباشرة.

النزاع بين الدولة والحركات الإسلامية مزيف، لأن علاقة كل من الدولة والحركات الإسلامية بما يدعيه هي علاقة مزيفة ولا تقوم على القيم الأساسية للحداثة والدين، وهي قيم لا يوجد فيما بينها أي تناقض. وهي منازعة مزيفة لأنها تقوم بين فاعلين معادين للقيم الديموقراطية التي تقوم على سيادة الشعب تحرره وتحرر مواطنيه. فالنزاع في النهاية ليس نزاعًا بين العلمانية والدين، بين الحداثة والتراث، بل هو شكل مزيف من النزاع الذي يخدم أغراض الدولة والحركات الإسلامية، وفي الوقت نفسه يقصي الشعب ومطالبه الديموقراطية.

أول ما نلاحظه في المنطق الذي يحكم مقاربة غليون أنها ثلاثية الأقطاب: الدولة والحركات الإسلامية والشعب، عوضا عن قطبين كما لدى لاكلاو. القطب الثالث، الشعب، لا يُعرف -لدى غليون- بواسطة مطالب ديموقراطية تحملها جماعات محددة، بما يسمح بتحديدها بشكل عملي وبناء تحالفات على أساسها. على العكس يُعرف „الشعب“ بشكل سلبي، ليس الدولة وليس الحركة الإسلامية، بل هو خارج النزاع بين الدولة والحركة الإسلامية. كونه خارج النزاع يجعل من الشعب لا يحمل قيمة ايجابية في تعريفه وتحديده. أما الديموقراطية فهي إطار واسع وغائم ولا يمكن تعريفه بشكل عيني من خلالها. إن المنطق الثلاثي الذي نجده في أساس الإطار التحليلي لغليون لا يمكن أن يخدم بوصفه أساسًا في بناء الشعبوية، وهذا ما يجعلنا أمام مفارقة، خصوصًا وأن هذا الإطار لا يقتصر على غليون، بل هو قاعدة مشتركة وعامة تجد تعبيرها الأبرز في صياغة المعضلة العربية بوصفها حلقة محكمة الإغلاق بين الدولة والإسلاميين.

المفارقة ليست خللاً نظريًّا، بل تكمن في الواقع العربي نفسه. إن السعي لرد الأقطاب الثلاثة إلى معادلة القطبين المركزية للمنطق الشعبوي يمكن تصوره من خلال إمكانين. الأول هو محاولة غليون نفسها في جمع الدولة والحركات الإسلامية في معسكر و»تحديد» الشعب في المعسكر الآخر. وعليه يجب أن نفهم مقاربة غليون بوصفها مقاربة سياسية لا تسعى وحسب للشرح، بل إلى أن تكون أساس لمشروع سياسي. مشروع سياسي يسعى إلى كسر الحلقة المستعصية بين الدولة والحركة الإسلامية عبر تشكيل منازعة مغايرة حول المطالب الديموقراطية، بوصفها منازعة جديدة ناظمة للشأن السياسي العربي، وعلى الأساس منها يتم تحديد موقع الفاعلين السياسيين والسياسات التي يجب اتباعها، أي خلق المجال السياسي خلقًا جديدًا يسمح بظهور «الشعب» كمشروع ديموقراطي في مواجهة النظام. لكن هذا لا يمكن أن يتم إلا على أساس كسر الحلقة المغلقة بين الدولة والحركة الإسلامية، لهذا يجب تفريغ هذه المنازعة من معناها عبر كشف زيفها، من حيث كونها منازعة لا تمت إلى الشعب ومشروعه الديموقراطي بصلة، بل منازعة تقوم بين فريقين يهدفان إلى إقصاء الشعب وتغييبه والإمساك بشكل استبدادي بالسلطة عبر تزييف معنى العلمانية والدين وتحويلهما إلى أدوات أيديولوجية تخدم أغراضهما المتمثلة بالاستيلاء على السلطة والحفاظ عليها، وليس بوصفها قواعد وأطرًا متمايزة وناظمة للشأن العام والأخلاقي بما يسمح بمجال أوسع من الحريات والديموقراطية.

من الواضح أن هناك إشكال في وصف غليون بالشعبوية. من ناحية لا يبدو شعبويًا إذا اعتمدنا المنطق الثنائي للمنازعة، فغليون يهدف إلى تفكيك المنازعة التي تنظم الشأن السياسي العربي، أي أنه يفكك ادعاءات الإسلاميين بتمثيليتهم للشعب. من ناحية أخرى يبدو غليون شعبوي بإحالته إلى الشعب بوصفه حامل وصاحب المصلحة في المشروع الديموقراطي. „الشعب“ هكذا، ليس طبقة أو جماعة محددة، بل هو الشعب بكل تنوعه واختلافاته. الإشكالية في وصف غليون بالشعبوي هي مرآة لإشكالية الشعبوية العربية نفسها.

عجز الإسلام السياسي كخيار شعبوي

الإمكان الثاني يقوم على اعتبار المنازعة بين الدولة والحركات الإسلامية المنازعة المركزية، بحيث يُنظر إلى الحركات الإسلامية باعتبارها حركات شعبوية يمينية النزعة تسعى إلى تشكيل «الشعب» في مواجهة النظام ونخبه ومؤسساته. في هذا السياق لا يمكن نكران قوة الحركات الإسلامية وهيمنتها الواسعة في الشارع واحتكارها ساحة المواجهة مع الدولة والنظام معتمدةً على تسييس التراث الديني للجمهور، بوصفه التراث الرمزي المعبر عن هوية «الشعب» الحقيقية في مواجهة النظام ونخبته. هذه المنازعة التي أسستها الحركات الإسلامية تبدو مثالية كمنازعة شعبوية، فهي تقوم على أساس انقسام واضح بين معسكرين، النظام ونخبته من جهة في مواجهة الشعب من جهة أخرى. نظام ونخبة خائنان للتراث الروحي للشعب، خيانة موجودة في صلب اغتراب الدولة ونخبتها عن هذا الشعب بسبب النشأة الاستعمارية لها، وارتباطها اللاحق مع التراث الغربي المغاير، بل المعادي، للتراث الشعبي. في المقابل تستند الحركات الإسلامية على التقليد الديني «الأصيل» للشعب وتستثمر رموز هذا التقليد في تشكيل هوية سياسية مغايرة ومعارضة للنظام. هنا لدينا قطبا منازعة، وكل قطب لديه رموزه وتقاليده الخاصة التي تشكل هوية مغايرة لهوية القطب الآخر. يعزز هذه المغايرة أنماط حياة مختلفة، وحتى -في حال النخبة المتغربة- أنماط تعليم متباينة في بعض الأحيان. فالهيمنة التي تعتمدها الحركات الإسلامية لتشكيل الشعب تعتمد على تحويل رموز التقليد الديني إلى رموز سياسية تعبر عن هوية الشعب في مواجهة «تقاليد» غريبة وخارجية وحتى ذات أصول استعمارية يتبناها النظام ونخبته. وفيما يخص هيمنة الحركات الإسلامية، فهي تتمثل في النجاح الذي لاقته الحركات الإسلامية في تسييس التقليد الديني وتحويله لأساس في تشكيل «الشعب» كهوية سياسية مواجهة ومعارضة للنظام ونخبته.

على الرغم من نجاح الهيمنة الخاصة بالحركات الإسلامية في جعل منازعتها السياسية مع النظام التناقض الأساسي الذي يدور حوله المجال السياسي العربي، بحيث أن موقع أي فاعل سياسي يتحدد بالإحالة إلى منازعة الدولة والإسلاميين، تبقى هذه الهيمنة ذات نجاح نسبي ومقيدة بحدود لا يمكن لها تخطيها. شعب „الإسلاميين» هو دومًا جزء محدود من الشعب «الممكن»، من المجتمع الفعلي. العطب الأساسي للحركات الإسلامية هو عجزها عن توسيع هيمنتها وتشكيل سلسلة تكافؤ واسعة يمكن من خلالها لجماعات متنوعة ومتباينة أن تتوحد في المنازعة مع الدولة، بما يسمح بتحويل «الشعب» إلى أغلبية حاسمة قادرة ومتوحدة حول مشروع سياسي في مواجهة الدولة، أغلبية تخترق الطبقات الوسطى بمجمل شرائحها. الأقليات الدينية والمذهبية وحتى الإثنية تجد نفسها وبشكل تلقائي خارج هذا الخطاب العاجز عن تمثيلها، هذا إن لم تجد نفسها، فعليًّا أو في تصورها، مُستهدَفة ومُهدَدة من هذا الخطاب بشكل مباشر. يُضاف إليها فئات واسعة من الطبقة الوسطى التي ترى نفسها خارج هذا الشعب، ومهدَدة بدورها من قبل خطاب الجماعات الإسلامية، بسبب نمط عيشها والثقافة التي نشأت عليها.

إن تسييس الاعتقاد الديني في بناء هوية الشعب لدى الحركات الإسلامية يضع غير المنتمين إلى هذا الاعتقاد خارج هذا الشعب وفي معارضته. كذلك فإن هذا التسييس يعيد موضعة القضايا الأخلاقية، التي تنتمي إلى المجال الخاص، في داخل المجال العام ويسييسها، بحيث يأخذ المشروع الإسلامي شكل مشروع شمولي يستهدف التحكم والسيطرة على المجال الفردي الخاص، الأمر الذي يضع شرائح كبيرة من الطبقات الوسطى في مواجهة مباشرة مع هذا الخطاب. كذلك تعيد عملية تسييس الديني خلط الديني بالسياسي، بحيث إن كل خلاف ديني في التراث نفسه يصبح تلقائيًّا أساس لخلاف سياسي (في مواجهة المؤسسة الدينية التقليدية، في مواجهة الشيعة كأمثلة)، أو بالعكس كل خلاف سياسي يتم النظر له باعتباره خلاف ديني (التأصيل الديني للخلافات بين السلفيين والإخوان، بين الدولة الإسلامية والقاعدة). هذه العوامل مجتمعه تضع حدود على قدرة الحركات الإسلامية على تحقيق هيمنة واسعة وتشكيل الشعب في مواجهة الدولة، بحيث يبقى شعب الإسلاميين محدودًا ومحصورًا في قطاعات لا يستطيع تجاوزها. بتعبير آخر إن سلسلة التكافؤ التي تسعى الحركة الإسلامية لتشكيلها وإخضاعها لهيمنتها تبقى دومًا محدودة وعاجزة عن ربط جماعات أخرى بها، بحيث تبقى العديد منها خارجها ولا تجد لنفسها مكان في سلسلة التكافؤ هذه تسمح لها بالتمثيل داخل الشعب.

في تحليله لاستراتيجيات الهيمنة الخاصة بالشعبوية اليمينية الايطالية التي قامت على أساس من الهوية الإثنية للشمال الايطالي، يرصد لاكلاو حالية شبيهة بما يمكن لنا رصده في حالة الحركات الإسلامية، تعثر الهيمنة في مجتمعات متنوعة إثنية أو مذهبيًّا عندما يتم استخدام هذه الهويات في أساس استراتيجيات الهيمنة. فرابطة الشمال الايطالي وإن نجحت في تأمين هيمنة واسعة النطاق في الشمال ضد الدولة المركزية ونظامها، فإنها تعثرت في الوصول إلى قاعدة اجتماعية في وسط ايطاليا وجنوبها، لأنها كانت ضد الدولة الايطالية والوحدة، فوصلت بذلك إلى حدود توسعها بحيث بقيت جماعات كبيرة خارجها أو معادية لها.

المشكلة الأسوأ التي تواجه الحركة الإسلامية في مسعاها إلى الهيمنة، هي أن الجماعات غير الممثلة في سلسلة التكافؤ الخاصة بها لا تبقى خارج المنازعة، بل ينجح النظام ومؤسساته عمومًا في صياغة المنازعة بحيث تجد هذه الجماعات نفسها منضوية في معسكر الدولة لشعورها بالخطر والاستهداف من طرف الإسلاميين، على الرغم من عدم تمثيل مطالبها داخل معسكر النظام. إن انضوائها في معسكر الدولة لا يعود إلى „تمثيلها“، بل إلى الخوف من الحرب الأهلية وما يهددها من الإسلاميين. إن هذا التهديد لا يشترط أن يكون واقعيًّا، بل يتجلى من داخل رؤية هذه الجماعة للعالم (إدراكها له)، سواء أكان هذا التصور للتهديد حقيقيًا أو لا.

هنا يمكن لنا الكلام عن قصور في فكرة الهيمنة لدى لاكلاو وآخرين. يتم التمييز بين السيطرة (Dominance) والهيمنة (Hegemony)، فالأولى تتحقق من خلال استخدام القوة، بينما تحيل الهيمنة إلى سلطة مدعمة بسلطة أخلاقية، بحيث تكون السلطة محل قبول من طرف الخاضعين لها. ترتبط الهيمنة بإنتاج القبول القائم على سلطة أخلاقية. لكن في السياق الذي نتحدث عنه، نشهد وضعية ملفتة وهي أن جزء من المنضوين في معسكر الدولة لا يفعلون هذا فقط بسبب الخوف من قمع الدولة (السيطرة بالإكراه) ولا يفعلونه لاقتناعهم بالسلطة الأخلاقية للدولة (الهيمنة)، بل يدفعهم الخوف من الآخرين، الإسلاميين، إلى الانضواء في معسكر الدولة والدفاع عنه، على الرغم من أنهم مقصون من التمثيل داخل الدولة وربما تقوم الدولة أيضًا باضطهادهم والتمييز ضدهم. هنا يمكن الحديث عن شكل آخر من الهيمنة يمكن وصفه بالهيمنة السلبية، التي يكون القبول بالسلطة فيها ليس بسبب الإكراه أو مُدعم بقبول أخلاقي، بل على أساس الخوف من الآخرين، من الحرب الأهلية. الهيمنة السلبية هي نتيجة للعجز عن تحقيق الهيمنة من قِبَل أي من القوى الاجتماعية المناهضة لسلطة الدولة من جهة، وعجز الدولة نفسها عن تأسيس شرعيتها على أساس أخلاقي من جهة أخرى. الهيمنة السلبية هي الشكل الوحيد الذي تتحقق فيه هيمنة الدولة العربية. فالدولة العربية لا تتمتع بأي سلطة أخلاقية تُشرع سلطتها، على العكس تستند سلطة الدولة على مزيج من القمع والإكراه، ولكن أيضًا على الخوف من الحرب الأهلية، وهذه نقطة سنعود لها لاحقًا. يقدم الأقباط أحد الأمثلة النموذجية عن الهيمنة السلبية. فالأقباط يتعرضون منذ عقود وبشكل منتظم إلى ممارسة تمييزية ضدهم من قبل الدولة المصرية، ويصل التمييز في كثير من الأحيان إلى حد التهاون في حماية أرواحهم. فالأقباط لا يمكن اعتبارهم ممثلين في سلسلة التكافؤ الخاصة بمعسكر الدولة، على الرغم من هذا تجدهم في معسكر الدولة بشكل مضمون الولاء. إن الذي يدفع الأقباط للانضواء في معسكر الدولة ليس قناعتهم الأخلاقية بسلطتها، وليس الخوف من قمعها، وإن يكن هذا الخوف بالتأكيد موجود، بل الخوف من الإسلاميين بوصفهم تهديدًا للأقباط ومصيرهم. ما يصدق على الأقباط يصدق على الأقليات في سوريا أو العراق، هم مع الدولة -أيا تكن- لأنهم بالمقابل يخشون البديل الذي يهددهم بالحرب.

عجز الهيمنة المرتبط بتسييس الهوية الدينية والأخلاقية يظهر عند مقارنته بالواقع السياسي في منتصف القرن العشرين، حيث نجحت شعبويات يسارية في تحقيق هيمنة واسعة من خلال خطاب يسيس أبعاد أخرى للهوية، الطبقة والأمة باعتبارها هويات عابرة للمجتمع وأكثر استيعابًا على مستوى التمثيل، بما سمح بتشكيل تحالف واسع من الفلاحين والعمال وفئات واسعة من الطبقة الوسطى الحديثة، تحالف شكل القاعدة الأساسية للأنظمة السلطوية الشعبوية التي ظهرت وقتها.

لماذا نعجز الآن عن استعادة مثل تلك الشعبوية اليسارية القائمة على تسييس البعد الطبقي والقومي، ونبقى مقتصرين على تسييس الديني والأخلاقي في إطار شعبوية يمينية محدودة في قدرتها على تحقيق الهيمنة، بل إنها تسمح للنظام ومؤسساته في تضييق التحالف الشعبي ومحاصرته؟

لعل الإجابة تكمن في سياق تشكيل الأنظمة الشعبوية اليسارية نفسها. فقد قامت هذه الأنظمة بإخضاع مجمل الأنظمة الاجتماعية الفرعية لمنطقها السياسي الهادف إلى تحقيق السيطرة. فالاستراتيجية الاقتصادية مثلًا لم تخضع لعقلانية اقتصادية هدفت إلى تحقيق التنمية، بل خضعت لمنطق يهدف إلى ضمان وصيانة القوة السياسية للنظام وللتحالفات التي تسنده، معتمدة على الطبيعة الريعية للنظام، بما سمح له بإعادة توزيع الثروة على أساس الولاء السياسي، مما جعل الانقسامات الطبقية عاجزة عن أن تكون أساسًا لبناء استراتيجيات سياسية. كذلك حرصت هذه الأنظمة على ضمان وجود قنوات تسمح بتمثيل مطالب الطبقات الشعبية من داخل بنية النظام عبر النقابات التي احتكرتها السلطة لنفسها وتولت التعبير عن مطالب العمال أو الفلاحين، في مقابل منعها من ممارسة السياسة، والتهديد بالقمع في مواجهة أية محاولة لتحويل هذه المطالب إلى مطالب ديموقراطية يمكن ربطها مع مطالب جماعات أخرى في سلسلة تكافؤ مضادة للدولة. الأنظمة الشعبوية منعت السياسة عن المجتمع، غير أنها في المقابل أخضعت كل شيء للسياسي. أيضًا، حاولت الدولة مصادرة النظام الديني لسيطرتها من خلال ضبط المؤسسات الدينية من مساجد ومعاهد شرعية وشبكات العلماء ومصادرة القاعدة الاقتصادية التي سندت هذه الشبكة متمثلة في الأوقاف والمحاكم الشرعية. لكن إخضاع الديني لسيطرة السياسي في السياق الإسلامي يبقى محدودًا لغياب مؤسسة إسلامية -تقابل الكنيسة- تستطيع ادعاء احتكار المعرفة الدينية وتأويلها. هذا الاستقلال النسبي المصان للديني في مواجهة السياسي هو الذي صان إمكان تسييس ما يزال خارج سيطرة الدولة وهيمنتها وقدرتها على التدخل. هذا الاستقلال مكن من ظهور قوة تتحدى محاولة الدولة في السيطرة على الديني وإعادة تأويله، في مقابل العجز عن إعادة تسييس المجالات الأخرى التي نجحت الدولة في ضبطها والسيطرة عليها. هناك جانب آخر، وهو أن الدولة نفسها لم تمانع تمامًا في مثل هذا التسييس، فمثل هذا التسييس يسمح أيضًا للدولة في أن تهدد مجتمعها بالحرب الأهلية.

هوبز: الدولة والحرب الأهلية

يفيدنا توماس هوبز (هوبز، 2011) في تقديم فهم أفضل للمنطق الذي يحكم المجال السياسي المنتظم حول المنازعة بين النظام والإسلاميين، كما يفسر أيضًا خيارات ورهانات الفاعلين السياسيين في هذا المجال السياسي. بالاعتماد على هوبز يمكن القول إن هناك وضعين سياسيين: يتمثل الوضع الأول، الطبيعي، في حرب الجميع ضد الجميع، وضع يتمتع فيه الجميع بالحرية ولكن يعيشون فقدان الأمن. فيما يتمثل الوضع الآخر بالدولة-الوحش (الليفيتان) صاحبة السيادة الكلية والمطلقة، حيث يتخلى البشر عن حرياتهم للدولة مقابل ضمانها الأمن. هذا التخلي عن الحرية والتسليم بالسيطرة التامة للدولة-الوحش مرهون بتحقيق الدولة لوظيفتها الأساسية المتمثلة بمنع الحرب الأهلية.

تكشف ثنائية الدولة - الحركات الإسلامية، وبتعبير أكثر مباشرة: عسكر - إخوان، عن ثنائية أخرى أعمق تَنْظم المجال السياسي العربي، هي «الدولة/الحرب الأهلية». ثنائية «العسكر-الإخوان» هي الشكل الذي تأخذه ثنائية «الدولة - الحرب الأهلية» في سياق تحلل الأنظمة السلطوية الشعبوية العربية. لهذا سأهتم بثنائية „الدولة - الحرب الأهلية» باعتبارها المعضلة العربية التي تواجهنا وعلينا التفكير بها، التي تفسر بدورها عجز الشعبوية العربية.

تجد الحرب الأهلية شروطها في الانقسامات الأهلية للمجتمعات العربية، إثنية ودينية وطائفية، أو الانقسامات حول القيم الأساسية مثل الانقسام الديني - العلماني. انقسامات حول شكل الحياة التي تريدها الجماعات وتتطلع إليها، انقسامات أفقية تقسم المجتمع إلى مجتمعات متباينة ومنفصلة، بحيث يتحول المجتمع معها إلى مجتمعات فرعية تتعايش إلى جوار بعضها البعض دون أن يجمعها رأس مال رمزي مشترك. تظهر الديموقراطية، بوصفها نظام لإدارة الشأن السياسي، عاجزة في مواجهة هذا النوع من الانقسامات والخلافات حول معنى الحياة والقيم الأساسية الناظمة للاجتماع. مع اختلافات حول هذه القيم الأساسية، يمكن رد كل خلاف –مهما كان ثانوي- إلى الخلاف الأساسي حول هويتنا وفكرتنا عن الحياة، مما يجعل من التسويات والاتفاقات أمرًا متعذرًا. ربما كان عنوان كتاب إسماعيل المقدم، أحد مؤسسي الدعوة السلفية في الإسكندرية، «بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب» شديد التعبير، فلا توجد مسائل ثانوية وأخرى مركزية، بل جميعها كلٌ واحد، فلا يجوز التفريط أو الاستهانة بأي منها. ففي حين تقوم الديموقراطية على قواعد متفق عليها لإدارة الاختلافات والوصول إلى اتفاقات في المجال السياسي، يدور الخلاف هنا حول القواعد نفسها. لهذا، وأمام هذه الانقسامات، يتعذر تشكيل مطالب ديموقراطية يمكن ربطها ببعضها في سلسلة تكافؤ لمواجهة الدولة.

بالمقابل، تقدم الدولة العربية نفسها كحامية للسلم الأهلي في وجه الحرب الأهلية. سلم لا يتحقق إلا بانتزاع الحرية من المجتمع واحتكار السلطة كليةً في يد الدولة. وبهدف حماية هذه السلطة الكلية وتكريسها تشن الدولة حربًا أهلية باردة على مجتمعها عبر مخابراتها وعسكرها. تعمل الدولة العربية على تكريس واقع الحرب الأهلية في المجتمع عبر تكريس وترسيخ هذه الانقسامات ورعايتها لضعف قدرتها على الهيمنة واكتساب الشرعية. هكذا فإن أسلمة المجتمع تتم برعاية الدولة، التي تقوم أيضًا برعاية الثقافة العلمانية وحماية القائمين عليها في مواجهة خطر الإسلام الحركي. فالدولة تعزز الانقسام العلماني-الإسلامي وتقدم نفسها بوصفها الضامن لكل فريق في مواجهة الفريق الآخر وخطره. كذلك اعتمدت الدولة العربية على رعاية واستدخال العلاقات الطائفية والقرابية في بنية الدولة إما كعصبية حاكمة أو عبر محاصصات غير مصرح بها أو كمزيج منهما، بحيث تقف هذه العصبيات في مواجهة بعضها البعض في حالة غير معلنة من الحرب الأهلية. برعاية شروط الحرب الأهلية في المجتمعات العربية، تعزز الدولة العربية موقعها وتصون سلطتها بوصفها الضامن الوحيد أمام خطر انفجار الحرب الأهلية، وهو ما يعبر عنه ضمنًا الشعار المركزي للدولة العربية «الأمن والاستقرار». حرب أهلية تبدو ممكنة وحاضرة لدى كل عودة إلى المجتمع المدني لتأسيس المجال السياسي انطلاقًا منه.

عجز الشعبوية العربية مرتبط بالحرب الأهلية „الباردة“ التي تعيشها المجتمعات العربية في انقسامها حول القيم الأساسية التي تريدها لحياتها. في المقابل فإن نجاح المشروع الشعبوي، مشروع يستدعي الشعب كفاعل ديموقراطي كما يطمح غليون، يتوقف على النجاح في تفكيك الحرب الأهلية العربية. نجاح لن يكون ممكنًا دون سحب مصادر النزاع المُسبِبة للحرب الأهلية من المجال السياسي وتحويلها إلى المجال الخاص، عبر إظهار تمايز المجال السياسي والعام عن المجالات الأخرى التي يتعذر التوافق فيها على قيم أساسية وناظمة للاجتماع. بمعنى أن بناء المجال السياسي يقتضي البدء بالتوافقات والاتفاقات بما يؤَمن تأسيس قواعد مشتركة يمكن على أساسها بناء سلاسل تكافؤ، وبتحويل القضايا التي لا يمكن التوافق بصددها إلى المجال الخاص وإخراجها من المجال السياسي حتى لا تكون ذريعة للحرب الأهلية.

هنا يمكن الاستدلال على أهمية الهيمنة السلبية في صيانة سلطة الدولة العربية. حيث تستند سيطرة الدولة على المجال السياسي ليس وحسب على قدرتها على القمع، بل أيضًا على الهيمنة السلبية التي تحوزها، هيمنة مستندة على الخوف من الحرب الأهلية، خوف الجميع من الجميع. لهذا تسعى الدولة إلى صيانة شروط الحرب الأهلية في المجتمع بوصفها شكل الهيمنة الذي يحفظ القبول بسلطتها. يصف نزيه الأيوبي وضعية الدولة العربية هذه بتضخيم الدولة العربية (الأيوبي، 2010)، قدرة لامحدودة على البطش والقمع في مقابل ضمور الشرعية وانعدام أي أساس أخلاقي للسلطة، تضخم الجهاز البيروقراطي والقمعي دون أي كفاءة وقدرة حقيقية على تعبئة الشعب ومصادر الثروة لتحقيق وخدمة أهداف الدولة المنتظرة. يفسر الأيوبي هذه الوضعية بغياب الهيمنة، غياب الطبقة الاجتماعية القادرة على الهيمنة الاجتماعية بحيث تكون الدولة دولتها. بالموافقة على الخط الأساسي لتحليل الأيوبي القائم على غياب القدرة على الهيمنة، فإن التحليل المقدم هنا يسعى إلى لفت النظر إلى الهيمنة السلبية التي تعمل على أساس التهديد بالحرب الأهلية، فعدم القدرة على الهيمنة يقابله خطر الحرب الأهلية، الخطر الذي تستخدمه الدولة العربية الحديثة بأقصى ما يمكنها لضمان استمرار سيطرتها.

إن علة العجز في تأسيس حركة شعبوية عربية قادرة على مواجهة النظام بهدف توسيع المجال السياسي وانتزاع الحقوق الديموقراطية تكمن في العجز عن بناء سلسلة تكافؤ واسعة قادرة على مواجهة النظام ونخبته. فالإسلاميون، بوصفهم القوة السياسية الأكبر، يواجهون معضلة الحدود التي يفرضها عليهم خطابهم السياسي القائم على الاستثمار في التقليد الديني والأخلاقي للغالبية وإعادة دمج السياسي بالديني، حدود تجعل من فئات واسعة من الطبقة الوسطى والأقليات الدينية والمذهبية وحتى المختلفون حول تفسير التقليد الديني تشعر بالتهديد والخطر من الإسلاميين. الانقسامات حول القيم وشكل الحياة، المرتبطة بالتقليد الديني، تظهر بوصفها انقسامات تأسيسية لا يمكن إدارتها بشكل ديموقراطي -وهي تذكر بالانقسامات التي عرفتها أوروبا خلال عصر الحروب الدينية- بحيث تظهر بوصفها الوجه الآخر للحرب الأهلية التي تهدد المجتمع، ووحدها الدولة هي القادرة على منع هذا الخطر. لكن قدرة الدولة لا تتحقق إلا بانتزاع الحريات وحتى السياسة نفسها، هيمنة سلبية تتمتع بها الدولة في غياب أي مصادر للشرعية والهيمنة خاصة بها، مما يدفع الدولة -في سبيل الحفاظ- على سلطتها إلى رعاية شروط الحرب الأهلية والحفاظ عليها.

إن شرط كسر هذه الحلقة التي يقوم عليها المجال السياسي العربي، الدولة - الحرب الأهلية، يتمثل بتفكيك شروط الحرب الأهلية. تُعبر محاولة غليون عن الإمكان الأول لمثل لهذا التفكيك، وذلك من خلال محاولة بناء منازعة بديلة للمنازعة بين الدولة والإسلاميين وكشف زيف هذه الأخيرة فيما يتعلق بالمشروع الديموقراطي الشعبي. نقطة ضعف هذا الخيار متوقفة على مسألة عملية تتمثل بغياب أي نقاط ارتكاز لبناء هوية سياسية بديلة، مثل الطبقة أو الأمة، مع سيطرة الدولة على الاقتصاد وإخضاع الاقتصادي بالكامل إلى السياسي. الاحتمال الآخر، الأكثر واقعية مع ضعف أي أفق راهن لظهور أشكال مغايرة من الهويات السياسية، هو قدرة النخب السياسية الراهنة -وفي مقدمتهم الإسلاميون- في تفكيك شروط الحرب فيما بينها، عبر الاتفاق على حد أدنى من المعايير الديموقراطية التي تصون الحقوق الأسياسية والحد الأساسي من التمثيل وذلك بمعزل عن الاحتكام إلى الغالبية، أي إقرار القواعد والمعايير الأساسية التي تنظم اللعبة الديموقراطية دون أن تكون هي نفسها موضوعًا للغالبية واللعبة الديموقراطية، بما يكفل نزع فتيل الحرب الأهلية ويسمح لاحقًا ببناء سلسلة تكافؤ واسعة تتجاوز الحدود الراهنة لسلسلة التكافؤ التي تتمحور حول الحركة الإسلامية.

حدود مقاربة لاكلاو

في النهاية أود تقديم بعض ملاحظات حول حدود الإطار النظري للاكلاو حول المنطق الشعبوي، بعضها نظري وبعضها يتعلق مباشرة بالسياق العربي.

النزعة الإرادية التي يقوم عليها هذا الإطار النظري، الذي يجعل من السياسي مطلق السلطة في إعادة صياغة الهويات السياسية. هنا تتجلى أهمية العودة إلى جاك لاكان أو إلى كارل شميت بالنسبة للاكلاو، ومحاولة القطع مع المقاربة التأسيسية (Foundationalism) للماركسية، التي تنظر إلى الهويات السياسية باعتبارها مؤسَسة على الهويات الطبقية. إحدى نقاط المناقشة المهمة لدى لاكلاو هي نقاشه لمعنى الاسم ونقده للعلاقة التمثيلية بين الاسم والمرجع الذي يحيل إليه الاسم بالاعتماد على نقد شاول كريبكه وهيلاري بتنام للنظريات الوصفية لمعنى الاسم. يبدو الأمر بالنسبة للاكلاو وكأنه مواجهة بين خيارين حديين، إما إطلاقية السياسي أو مقاربة تأسيسية/ تمثيلية. لكن هذا ليس هو الحال، بل هناك خيارات وسيطة تتجاوز هذا الانقسام الحاد ولا تؤول ضرورة إلى تصور تأسيسي/ تمثيلي أو نزعة سياسية/إرادية. أهم هذه الخيارات يقدمها عمليًّا كل من شاول كريبكه (Kripke, 1980) وهيلاري بتنام (Putnam, 1975) نفسهما، اللذان استعان لاكلاو بنقدهما للنزعة التمثيلية، دون متابعة الخيار الذي اقترحاه، خصوصًا وأن كريبكه واقعي-ميتافيزيقي فلسفيًّا. يقوم هذا الخيار على ربط مرجع الاسم بمعناه من خلال سلسلة سببية. مثلًا يُعطى معنى اسم نابليون بونابرت، بحسب النزعة التمثيلية والتأسيسية، من خلال مجموعة من الصفات الضرورية التي تُمثل نابليون بونابرت. لكن إذا قبلنا نقد كريبكه وبتنام، المُستعاد من قِبَل لاكلاو، بأن هذه الصفات ليست ضرورية بل تتعلق بالسياقات والامكانات التاريخية المتحققة، فإن معنى نابليون بونابرت لا يقوم عندها على رابطة ضرورية بين الاسم ومرجعه من خلال «تمثيل“ الصفات الجوهرية. بالمقابل أظهر كريبكه وجود رابطة سببية بين الاسم ومرجعه، وهي أن أهل نابليون بونابرت قاموا بتسميته، هذا الاسم الذي استخدمه المحيطون به، ومن ثم انتقل إلينا من خلال الرواية التاريخية. علاقة سببية تربط بين المرجع (شخص نابليون بونابرت) والاسم الذي وصلنا وتحدد معنى الاسم. هذه العلاقة السببية في تحديد معنى الاسم تقطع مع العلاقة التمثيلية في المعنى من جهة، دون أن تترك المعنى حرًا للإرادة في داخل الخطاب ولاحقًا للسياسي.

عندها يمكن القبول بوجود علاقة بين الهوية الاجتماعية والسياسية دون الحاجة إلى اعتبار الأولى مؤسِسة للثانية، ودون اعتبار الثانية خلق من قبل السياسي. بما يضع حدود على قدرة السياسي في تشكيل الهوية السياسية والتحالفات التي تسندها.

مناقشة لاكلاو هي مناقشة صورية أساسًا، لا تولي اهتمامًا بالمحتوى. فلاكلاو ينظر إلى الشعبوية بوصفها استراتيجية تقوم على المنازعة، ولكنه لا يهتم بمحتوى المنازعة نفسها، لهذا يمكن له أن يتحدث عن استراتيجية شعبوية يسارية وأخرى يمينية. هنا يمكن تقديم الملاحظة التالية، وهي أن أي تحليل يسعى لفهم حدود الشعبوية لا يمكن له أن يتجاهل المحتوى الخاص بمثل هذه الاستراتيجية. إذا كانت الشعبوية تقوم على منازعة مع النظام ونخبته لتشكيل سلسلة تكافؤ واسعة تُعرف الشعب في هذه المواجهة، فإن التشكيل الأسهل لهذه السلسلة يتم من خلال الاستثمار في التقاليد الثقافية والرمزية الأوسع للجماعة لنفسها، بتعبير آخر الاستثمار بالتقاليد الثقافية والروحية للجماعة الأكبر. لكن القدرة على هذا الاستثمار في مثل هذه التقاليد هو ميزة التيارات المحافظة واليمينية. مما يجعل من الحركات اليمينة الحركات الأقدر على أن تكون قاعدة لحركات شعبوية من الحركات اليسارية.

يُضاف إلى المقاربة الصورية للمنطق الشعبوي، انحصر اهتمام لاكلاو بالشعبوية بوصفها استراتيجة في مواجهة السلطة، لكنه بالمقابل لم يقل شيء بصدد التجارب الشعبوية في السلطة التي عرفها القرن العشرين ونتائجها، خصوصًا اليسارية منها. قدم رايموند هينبوش (Hinnbush, 2010) أطروحة حول الأساس الاجتماعي للتشكل التاريخي للدول في الشرق الأوسط، مهتمًا بشكل خاص بالأنظمة الشعبوية اليسارية. اعتمد تصنيف هينبوش على معيارين لتصنيف الدول: الأول يحيل إلى مجال المنافسة المتاح للنخب، ويحيل الثاني إلى مستوى احتواء الجماهير داخل النظام. امتازت الأنظمة الشعبوية اليسارية بتضييق كبير للتنافس بين النخب وبقدر واسع من احتواء الجماهير داخل النظام. حيث استندت الأنظمة الشعبوية اليسارية على تحالف واسع من العمال والفلاحين وفئات واسعة من الطبقات الوسطى الحديثة المرتبطة بالجهاز البيروقراطي والجيش. اعتمدت الاستراتيجية الاقتصادية لهذه الأنظمة على استراتيجيات توزيعية للثروة من أجل الحفاظ على هذا التحالف الواسع وتحطيم الأساس الاقتصادي لقوة الخصوم. الاستراتيجية الاقتصادية التي اعتمدتها هذه الأنظمة، عبر الإصلاح الزراعي والتوسع في القطاع العام والجهاز البيروقراطي، قامت أساسًا على إخضاع الاقتصادي لمنطق السياسي وحاجاته بشكل كامل. بجوار هذا الإخضاع للاقتصادي، تحولت الأنظمة الشعوية اليسارية مع الوقت إلى أنظمة موناركية تتمحور حول شخص الزعيم والعصبية الحاكمة التي تدعمه. وعادة ما ترافق السعي لتعزيز هذه الموناركية بإضعاف البنى المؤسساتية عبر خلق مراكز قوة ومؤسسات موازية للدولة نفسها (مراكز القوى في مصر، التحالف الاشتراكي كمؤسسة موازية لمؤسسات الدولة المصرية)، بما سمح بتشكيل شبكات زبائنية بين مراكز القوى في الدولة ومؤسساتها، الرسمية والموازية، والمجتمع. هذه العلميات التي اعتمدت على التوزيع وإخضاع الاقتصادي للسياسي والعصبية والفساد أدت مجتمعة إلى فشل مشاريع التنمية الاقتصادية، فعجزت الشعبويات عن تأمين مصادر لإدامة الثروة التي تقوم على توزيعها وتكبيرها، وهو الاختلاف بين هذه الأنظمة الشعبوية وتجارب أنظمة الاشتراكية الواقعية التي نجحت بشكل أكبر في التصنيع وتحقيق تراكم أولي. إن تكتيكات الشعبوية في مواجهة السلطة تحمل بذور انهيارها عندما تتحول إلى سلطة شعبوية، وهو الأمر الذي لم يتطرق إليه لاكلاو.

المراجع:

Hinnbush, R. (2010). Toward a historical sociology of state formation in the middle east. Middle East Critique, 19(3), 201 - 219.

Kripke, S. (1980). Naming and Necessity. Harvard University Press.

Laclau, E. (2005). On Populist Reason. Verso.

Putnam, H. (1975). The Meaning of “Meaning”. In H. Putnam, Mind, Language and Reality. Cambridge University Press.

الأيوبي, ن. (2010). تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط. (أ. الحسين, Trans.) بيروت: المنظمة العربية للترجمة.

غليون, ب. (2007). نقد السياسة: الدولة والدين. المركز الثقافي العربي.

هوبز، ت. (2011). اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة

. (د. ح. حرب, & ب. صعب، Trans.) دار الفارابي وهيئة أوب ظبي للثقافة والتراث (كلمة).