رؤى

مينا ناجي

20 عامًا من الأجورافوبيا ماذا تعلمت من رُهابي الشخصي؟

2024.03.26

تصوير آخرون

20 عامًا من الأجورافوبيا ماذا تعلمت من رُهابي الشخصي؟

منذ بضعة أيام ركبتُ المصعد، كان هناك شخص ضخم بداخله، لمَّا أُغلق المصعد على ثلاثة أفراد بدا أنه لا يستطيع حمل كل هذا الوزن، صرَّ قليلًا ثم توقف في منتصف المسافة إلى الطابق الأول، ضغطنا على الأرقام، على زر التوقف، رقم صفر، لم يحدث شيء.

بدأتُ في الصراخ، ركلتُ الباب بعنف عدَّة مرَّات، من معي أخبرني بعدها بأني كنتُ أقفز في مكاني، حطمتُ النظارة الشمسيّة التي كنتُ أمسك بها، حين سُحب المصعد لأسفل، كان هناك حراس الأمن، وأناس تجمعوا من الشارع، يتطلعون جميعهم في فضول، فور خروجي هدأت، تمالكت أعصابي وتصرفت بروية، رحل الناس، سخر مني حارس الأمن، جاء الرجل الضخم ليهدئني قائلًا: إنه يتفهمني؛ فزوجته عندها نفس الخوف، ربَّتُّ على كتفه واعتذرتُ أني وضعته في هذا الموقف، اعتذرتُ لمن معي. بعد أن صعد الرجل الضخم طلبت المصعد، ألحَّ مرافقي على استخدام السُلَّم، رفضتُ، فلو لم أستخدم الآن المصعد ربما أبقى لشهور طويلة لا أستخدمه، وأنا أريد أن أحافظ على تقدمي في هذا الأمر. 

قضيتُ الأيام الماضية أتذكر تفاصيل من هذا الموقف وأحسُّ بالإحراج يَخِزُني بحدَّة، أطقطق وأشتم وأهز رأسي في محاولة لطرد التفاصيل، ليس عندي مشكلة مع المواقف المُحرجة في حد ذاتها، عندي مشكلة في أن تفاصيلها تستمر لفترة بعدها تَخِزُني مثل الإبر.

***

هذا الموقف وغيره من المواقف المماثلة جزء من مخاوفي المرضيّة العديدة التي تعايشت معها مدّة 20 عامًا، من سن السادسة عشرة تقريبًا وأنا عندي خوف من السفر، الذهاب إلى أماكن بعيدة، الانحباس داخل أماكن لا أستطيع الخروج منها، والصعود إلى أماكن عالية. منعني هذا الأمر من أشياء عدّة في حياتي، لنقل باختصار: منعني من عيش حياة "طبيعيَّة". لا أعرف أحدًا قد عاش مثل هذه الحياة كي أقلِّدَه، أو أعرف ما المفترض توقعه منها ومن نفسي، كان هذا مربكًا للغاية لفترة طويلة.

لا أريد التحدث هنا عن الأسباب أو التفاصيل العلميّة أو تاريخي الشخصي مع الأجورافوبيا؛ فقد تحدثت عن هذا كله في موضع آخر ، أريد التحدث عمّا تعلمته خلال عشرين عامًا من معايشة هذه المخاوف، أو بالأحرى ما تعلمته من مقاومتها والتعامل معها، وكيف شكلتني كإنسان وجد حياته قد اتخذت منحًى غير متوقع أو مألوف. تَحدُثُ بالتأكيد لحظات ضعف، حيث تسقط مؤقتًا إحدى هذه القناعات، لكنها ما أتمثَّله أمام عيني دائمًا، وأراه كمبادئ أود مشاركتها، لعلها تفيد أحدًا في التعامل مع أزمة طويلة المدى، سواء كانت نفسيَّة أو غير ذلك. 

الإفلات من صورة الضحيّة

في نقطة ما من حياتي قررتُ ألا أعتبر نفسي مريضًا وأتعامل على هذا الأساس، هناك ما يسمى: "مكتسبات ثانوية" للمرض، فالمريض يجد الاهتمام والرعاية أكثر من الشخص المعافي، ويجد أعذارًا لأفعاله وأحيانًا مسؤولياته، حتى أمام نفسه. لحُسنِ الحظ -كما استوعبتُ بعدها- لم تُتِحِ الظروف هذا، كان لا بد أن أعتمد على نفسي كي أسيِّر حياتي، وقررتُ وقتها أني لن ألعب دور المريض. 

جعلني هذا الأمر أرى بوضوح موضة المرض النفسي وأناقة التشخيص المرضي في السنوات الأخيرة كموضة مؤذية، فالقناع الذي تلبسه طويلًا يصبح في النهاية أنتَ؛ أي: تصبح بالفعل مريضًا وعاجزًا؛ لأنك رتبت حياتك على ذلك.

المسؤوليّة الجذريّة 

يطرح ذلك، عمليًّا ونظريًّا، مُساءلة حقيقيَّة حول فكرة المسؤوليّة، مسؤوليّة الإنسان عن حياته ومصيره. إذا أردت أن تلعب دور الضحيّة: "أنا حزين وبائس، وهناك من كان سببًا في ذلك"، سواء كان هذا شخصًا، أو المجتمع، أو الحياة نفسها، يمكنك فعل ذلك، لكن ستكون النتيجة هي خسارة حياتك نفسها، لن يقوم أحد بإصلاح حياتك نيابةً عنك، خاصة من كنت تراه سببًا. 

يعني هذا: المسؤولية الكاملة عن معرفة حقيقة الأشياء وجدواها، وعمَّا يمكن فعله ولا يمكن، وعن القرارات المتَّخَذة، وعن تنفيذها. يبدو ذلك كأمر بديهي، لكنه يكتسب ضرورة أضخم في حياة الأجورافوبي، فهو لن يستطيع عيش حياة مقيَّدة وقلقة بشكل زائد، بينما تسيّرها الأعراف العامة والظروف كيفما اتفق، مثلما يمكن لشخص لا يواجه نفس النوع من التحديات في حياته.

العقلانيَّة 

لذلك، أفهم الكاتب الأجورافوبي جراهام كِيفني حين يتكلم بلسان الأجورافوبيين في قوله: "نحن نصنِّم العقلانيّة، نشتهي كميات فاحشة منها". تعتمد فكرة العلاج النفسيّ بالأساس على قدرة العقل وما يرتبط به من منطق ووعي على تجاوز اضطرابه، وتصحيح نفسه، وإنقاذه من المعاناة، وتقليل الألم. يمكنك معرفة مَن مرَّ برحلة العلاج النفسي حين تراه يثمِّن دور العقل والمنطق في معاملاته وتفكيره وردود أفعاله، ويحرص على إعادة ضبط مفاهيمه، وتصوراته، واستخدامه للتعبيرات والكلمات؛ لأنه يدرك مدى تأثيرها على حالته النفسيّة والمزاجيّة واستيعابه للمواقف، وبالتالي جودة حياته نفسها. 

التفهم والقبول

حين تعيش حياة قاصرة ومحدودة، وتُقارن وتُلام باستمرار ممن حولك أو من داخلك، تتعلَّم بشكل أساسي أن تتفهَّم ظروفك الخاصة التي لا يطَّلع عليها أو يفهمها الآخرون، وتقبَل نفسك على ما هي عليها، كخطوة أساسيّة كي تستطيع التعامل مع مشكلاتك وحلَّها، وهو ما ينعكس بقوة على تفهُّم وتقبُّل جوانب ضَعف وقصور الآخرين. 

أرى بوضوح كيف غيرتني تجربتي مع الأجورافوبيا في هذا الصدد: ليس عيبًا ولا مهينًا أن تكون ضعيفًا أمام مخاوفك، فالكل ضعيف أمام شيء ما، لا يقلل من قَدْرك أنك تحاول ولا تستطيع؛ فالشرف يكمن في المحاولة نفسها، ليس من المهم تحقيق نفس النجاحات التي ينتظرها الآخرون لأنفسهم أو لك؛ ففي النهاية كل شخص له احتياجات مختلفة، والمهم أن تكون راضيًا. يبدو الكلام بسيطًا، لكن "احتقار الذات" عُنصر رئيس وشائع في معاناة الأجورافوبيا، وعادة ما يكون مُحطِّمًا لصاحبه، والتعامل معه في هذه الحالة ليس بسيطًا كما يبدو.

مقاومة العدميَّة 

هناك أسباب موضوعيَّة للسقوط في العدميَّة المتغلغلة الآن في مختلِف نواح الحياة، فكريًّا أو واقعيًّا. مع ذلك، أضفت الأجورافوبيا على حياتي، عبر المساءلة الجذرية التي تطرحها المعاناة عمومًا، ضرورة أن أكون مهتمًّا ومرتبطًا بشكل أصيل، بأشياء تجعلني أتحمَّل وطأة، لو فُقِدَت المعاني فيها، كان ذلك بمثابة الغرق. تلك أيضًا هي الفكرة الأساسيَّة التي قدَّمها المفكر والطبيب النفسي فيكتور فرانكل في كتاباته النفس-وجوديَّة. 

هذا الأمر هو ما جعلني في العمق كاتبًا، رغم بُعد ذلك عن نشأتي وخلفيتي؛ لأنني منذ وقت مبكِّر فكرتُ فيما يعنيني في الحياة بالفعل، وربطت نفسي به مهما كان الثمن؛ لأني لن أستطيع احتمال حياتي بغير ذلك. لا أعرف ماذا كنت سأصبح في سياق آخر دون أجورافوبيا؟ بالتأكيد كنتُ سأكون شخصًا آخر إلى حد كبير من هذه الناحية.

ميزة إعادة البناء 

عادة ما يدور النقاش مع صديق يعيش بالخارج، له رحلته العلاجيَّة أيضًا، حول سنوات عمرنا التي ضاعت في التعب النفسي ومكافحته، ونتبادل التعبير عن الألم المُصاحِب لتفكير أننا لم نعش مباهج الشباب وانطلاقه، وتأخرنا ونحن في منتصف الثلاثينيات عن جيلنا في هذه المرحلة. 

قضيتُ سنواتٍ طويلةً من حياتي الواعية في مقاومة وعلاج ما أُفسد في الطفولة والمراهقة، وإعادة بناء وترميم ذاتي، إلا أن هذه الرحلة، كما في حالة صديقي، وكل من قام برحلة مماثلة، أدت إلى فَهْم أكبر ووعي أوسع. هناك أخبار سعيدة بأن المجهود الذي يُبذَل في إعادة تشكيل ذاتك يجعلك إنسانًا أفضل، وبالتالي تستطيع أن تعيش بطريقة أفضل، فالأشياء لم تؤخَذْ بشكل جاهز، بل كل شيء عُنيَ من أجله، وهذا ما يجعلها أكثر رسوخًا ونضجًا.

لا مكان للتزييف

بمرور الوقت، تزايدت حساسيتي تجاه التدليس أو التزييف في العيش والتفكير؛ لأن هذا معناه في النهاية التأخير في حل المشكلات الطارئة بشكل مستمر. أستخدم، عادةً، تعبير "الجديّة" و"النزاهة" كي أعبِّر عما أقبل التعامل به ومعه في التعاملات الواقعيَّة والفكريَّة، وما فاجأني، ربما لحد الصدمة، هو مدى نُدْرة من يعيشون بنزاهة أو وَفْق ما يرونه بالفعل. كثير من الأفكار والرؤى وطرق العيش فُتحت عيني على زيفها و"تمثيلها"، ربما في سياق آخر لم أكن أعي ذلك أبدًا، لكن مع تكاثف الوطأة وجثومها، لم يعد يُرضيني سوى ما هو "حقيقي"؛ لأنه يعني احتماليَّة أكبر في قدرتي على التفاوض والتعامل مع وضع حياتي.

الأخلاقيَّة كحاجة عمليَّة

هذا ما يطرح مفهوم الضمير، فالضمير يعني: ارتباطًا ما بفكرة الحقيقة، والمسؤوليَّة الجذريَّة المبنيَّة على هذا الارتباط، لكن الضمير في الحياة الأجورافوبيَّة، إذا جاز التعبير، له بُعد عملي، كمرجعيّة أخلاقيّة تحافظ على إنسانيّة الفرد، أو كرامته الإنسانيّة تحديدًا، أمام إملاءات الحياة وقيودها. أفهم الكرامة الإنسانيّة بصفتها الحرية في الفعل الذي يعبر عن إنسانيّة الفاعل؛ أن تفعل ما تريده إنسانيتك في إنماء الحياة الإنسانيّة، دون إجبار يَحطُّ من الإرادة، وبالتالي القَدْر الإنساني إلى مستوى الأشياء. 

الكرامة عند الأجورافوبي مهددة بإملاءات وقيود أعنف، وتنبع الحاجة العمليّة للأخلاق في هذه الحالة من كون الكرامة هي ما يستمد منها مركز ثِقله الإنساني، لا من اجترار المتع والتوسع في المكتسبات التي يفتقد الكثير منها. وهي أيضًا ما تحافظ على المعاني التي، كما تم الإشارة سابقًا، لا يستطيع العيش بدونها، فمعانٍ مثل: "الحب" و"الصداقة" و"التحقق" و"الرضا" و"السعادة"، إلخ... كلها تفقد وزنها إذا فقدت الذات الإنسانيّة التي تتلقى هذه المعاني احترامها لنفسها ومعناها الخاص. 

أهمية المقاومة والأمل

المقاومة والأمل ليسا مجرد شعارين مجرَّدَين، بل استمرارهما صمام أمان للحياة نفسها، فلا يمكن تصوُّر التعامل مع ظرف صعب وممتد دون أمل في تجاوزه والوصول إلى مكان أسعد وأكثر إشباعًا، ولا توجد فرصة لتوقف المقاومة في سبيل الوصول إلى هذا المكان، فحال توقفك تجد أن القصور الذاتي للمعاناة الطويلة يدهسك بوطأته وثقله الذي يتزايد مع زمن حضوره. المقاومة والأمل ليسا رفاهية، بل الاستسلام واليأس. وكما يقول فالتر بنيامين: "علينا أن نراكم الأشياء بصبر؛ لأننا لا نعلم في أي وقت تصبح الأشياء في متناول أيدينا".