دراسات

شريف إمام

مراسلات قراء مجلة الهلال (1892-1906) الجزء الأول

2024.02.27

مصدر الصورة : آخرون

(دراسة من خمسة أجزاء-الجزء الأول)

 

مراسلات القُرَّاء كمصدر للمعرفة التاريخية 
قراءة إستوغرافية للظاهرة

 

كان المؤرخ روبرت ماكيلفين Robert McElvaine مُحقًّا عندما قال: "إنَّ كتابة تاريخ شعب ما في فترة زمنية معينة لا بد أن تبدأ بشهادة الشعب نفسه، فينبغي للمؤرخين أن يسمحوا للناس العاديين بالتحدث عن أنفسهم". من هنا تكمن أهمية رسائل القُرّاء للصحف والمجلات باعتبارها أداة للبحث عن شهادة للناس عن الفترة التي عاشوها. ودائمًا ما جاءت المراسلات إلى الصحف - والتي عادة ما توجه إلى رئيس تحريرها - في صورة استجابة عفوية من القُرّاء لما تنشره من مقالات. بينما استجلب البعض تلك المراسلات، من خلال طرح قضايا – عادة ما تكون جدلية – على القُرّاء، مستهدفةً تفاعلهم النشط معها.

مراسلات القُرّاء في التجربة الغربية

عرفت رسائل القُرّاء طريقها إلى الصحف منذ أوائل القرن الثامن عشر، ونمت وأُفرِد لها بابٌ في القرن التاسع عشر، بل إنَّ بعض الصحف الإنجليزية قامت كلها على مراسلات إلى هيئة التحرير، بينما جعلت بعضها الجزء الأكثر مركزية فيها - وهو مقال الرأي - في شكل مراسلة إلى المحرر كما في صحيفة المُشاهد  The spectator. وقد نال هذا الباب اهتمام فريقٍ من المؤرخين، فعملوا جاهدين على استنطاقه؛ من أجل معرفة ما أخفاه صخب الأحداث التاريخية البارزة والحوادث البراقة التي استأثرت بالنصيب الأكبر في الصحف، فقدم ألد جونز Aled Jones دراسته "الصحف والسلطة والجمهور في إنجلترا في القرن التاسع عشر"، والتي أكد فيها على هشاشة الروايات التاريخية القديمة التي تعاملت مع رسائل القُرّاء؛ باعتبارها مجرد مساحة من الحشو الرخيص الذي يُكتَب بشكل عبثي وانفعالي، واصفًا إياها بالعنصر الصحي الحقيقي في الصحف الإنجليزية، والمُعبر الأساسي عن النبض الشعبي، بل والتجسيد الحي لشكلٍ من أشكال التمثيل السياسي.

لكن منطِق جونز لم يُقنع بعض المُهتمِّين بتاريخ الصحافة، فحاجَّته كارين وال يورجنسن K. Wahl-Jorgensen في حجم الثقة التي يمكن أن يتعامل بها المؤرخ مع رسائل القُرّاء؛ باعتبارها مصدرًا تاريخيًّا، ووصلت إلى نتيجة صادمة مُفادها: "إنَّ الرسائل المُوجَّهة إلى المحرر في الصحف المحلية الإنجليزية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحملُ أسلوب الصحفيين، على الرغم من تقديمها كما لو كان كُتَّابها غير صحفيين. إن اختيار مثل هذه الرسائل وتحريرها بل وكتابتها تمت بمعرفة الصحفيين، ممَّا يَحدُّ من قدرة استخدام تلك الرسائل في تقييم الرأي العام".  

لكن شكوك يورجنسن التي أطلقتها كاليقين، لم تصرف أندرو هوبز Andrew Hobbs عن تقديم – ما دعاها - أول دراسة منهجية لرسائل القُرّاء في صحافة العصر الفيكتوري، وبالنسبة له: فإنَّ التحليل الكمي لرسائل هذا العصر يشير إلى تفشِّي ظاهرة التوقيع عليها من قبل أصحابها، ممَّا أماط اللِّثام عن هوية المُرسلين وطبيعة انتمائهم الطبقي والحزبي، وسمح للمؤرخين بنيل أوطارهم منها. بل إن هوبز أكد بالنماذج على قيام بعض النساء باستخدام باب المراسلات للذَّوْد عن حق المرأة في التصويت والتنديد بكل أوجه التمييز الذكوري ضدهنَّ، وهو يدحض النتيجة المتعجلة لباتريشيا هوليس Patricia Hollis من إغفال باب المراسلات لمشكلات نساء العصر الفيكتوري. وإن كان هوبز عزز فكرة تدخل فريق عمل الصحيفة في باب المراسلات، ليس من خلال تحريرها فقط، وإنما عبر كتابة بعضها بصفتهم قُرّاءً عاديين، وهو أمر يستدعي مزيدًا من الحذر والتمييز وليس إيصاد الباب بالكلية أمام الاستفادة من هذا المصدر التاريخي. وتبع هوبز آخرين، منهم على سبيل المثال المؤرخ ديفيد نورد David Nord الذي رسم لنا صورةً لمجتمع فيلادلفيا في الولايات المتحدة، أواخر القرن الثامن عشر، أبان تفشي وباء الحمى الصفراء؛ من خلال رسائل السكان المحليين للصحافة الفيدرالية، فنقل المواطنون العاديون تجربتهم مع الوباء بصورة صادقة، حيث كان غرضهم محاربة الشائعات ونقل تجارب حقيقة عن طرق العلاج.

مسيرة الصحافة المصرية قبل ميلاد باب مراسلات القُرَّاء

 وإذا انتقلنا إلى تجربة الصحافة المصرية - نقصد بها الصحف الصادرة أيًّا كان مصدرها - مع باب المراسلات، فإنه يجدر بنا – في البداية - التعرف على اللحظة التاريخية التي شهدت ميلاد هذا الباب؛ ففي ستينيات القرن التاسع عشر، عرفت مصر الصحافة الشعبية والدوريات المتخصصة، فصدرت مجلة «يعسوب الطب» بإشراف الحكومة المصرية، وأوحى الخديو إسماعيل إلى أحد أعوانه عبد الله أبو السعود بتأسيس صحيفة "وادي النيل" عام 1866 لتكون منبرًا للدفاع عنه ضد جريدة "الجوانب" التي تصدر في القسطنطينية. وهكذا وُلِدت الصحافة المصرية في كنف الحكام وخضعت لتوجيهاتهم، لكن سرعان ما شبت عن طوق وصايتهم، فأنشأ إبراهيم المويلحي وعثمان جلال مجلة "نزهة الأفكار"، وجاءت حرة في أفكارها، قوية في طرحها، فما استطاع إسماعيل معها صبرًا، وعمد إلى إلغائها بتهمة - أمست مبررًا تاريخيًّا لتقييد حرية الرأي - تهييج الخواطر، وبعث الفتن.

ولقد تلقت الصحافة الشعبية المصرية معينًا لا ينضب من العقول الشامية، التي فرت إليها بعد أحداث لبنان عام 1860 وتعقد العلاقة مع السلطنة العثمانية ووُلَاتها، فأقبل طائفة منهم على اصطناع القلم، واتخذوا الصحافة حرفةً لهم، فصدرت "الكوكب الشرقي" عام 1873 أول صحيفة عربية يصدرها اللبنانيون في مصر، وكلما عزَّت الحرية في الولايات العثمانية وجد صحفيو الشام في مصر مَرفأً. فقد أمسى إسماعيل - في آخر عصره - حفيًّا بالصحف على اختلاف جنسياتها وأمدَّ بعضَها بإعانات، وقام موظفو حكومته بمساعدتها في تحصيل اشتراكاتها من الأهالي، بل من بينهم من فرضت عليه هذه الاشتراكات مع جهله بالقراءة والكتابة، فأصدر الشوام قلعة الصحافة اليومية "جريدة الأهرام" لصاحبها سليم تقلا عام 1876، تلتها جريدة "مصر" لأديب إسحاق، ثم دشن يعقوب صنوع أُولى الصحف الساخرة في الشرق "أبو نظارة زرقاء".

وما كاد عصر إسماعيل يبلغ ضحاه، حتى بلغ عدد الصحف في القطر المصري ثلاثًا وعشرين صحيفة ومجلة، أَكْثرها انتقل إلى مصافِّ صحف الرأي، فعمدت جريدتا "الوطن" و"مصر" إلى التأكيد على شعار "مصر للمصريين"، وشرع يعقوب صنوع في نثر بذور الثورة في نفوس العامة عبر استخدام العامية لغةً لمقالته، ومع هبوب نسائم الثورة العربية، عرفت مصر أعلى درجات المواجهة بين الصحافة والسلطة بمستوياتها الثلاث – خديوية، وعثمانية، وأوروبية - وبلغ الخوف بخليفة إسماعيل توفيق أن يشترط على الراغبين في إنشاء صحف جديدة البعد عن السياسة وأدرانها، ثم تفتق ذهن نظاره على وضع قانون للمطبوعات عام 1881، خول بمقتضاه نظارة الداخلية بإصدار التراخيص والإنذارات والتأجيلات وعمليات التعطيل والإغلاق للجرائد.  

طويت صفحة الثورة العرابية، وولى عصر حرية الصحافة، ونُفي كبار الصحفيين كعبد الله النديم ومحمد عبده، وأمست مصر في قبضة المحتل البريطاني، فعوقب بالوقف والمصادرة والإلغاء والإنذار أكثر من تسعين في المئة من صحافة مصر، وأغلق نهائيًّا أو إلى أمد معلوم صحف الوطن، والزمان، والسفير، والبرهان، والإجبشيان جازيت، وغيرها... وكان على الصحف أن تحتجب أو أن تغير لهجتها، فأنست غالبيتها إلى الثانية، وقبلت أن تكيل الإساءة والتشنيع لرجال الثورة، وصار للاحتلال منبرٌ يعبر عنه عبر جريدة "المقطم"، التي كانت إنجليزية لحمًا ودمًا، بل إن دار الوكالة البريطانية حالت دون أن يمتدَّ إليها سلطان الحكومة الخديوية، عندما استخدمت التلميح والتصريح في نقد الخديو. ولقد شرعت طائفة أخرى من الصحافة في النأْي عما هو سياسي، خصوصًا إذا كان أصحابها من أهل الهوى الثوري، ممَّن تعرضوا لهزيمة نفسية على أثر إخفاق الثورة العربية، فأعلنوا تطليق السياسية والتسييس طلاقًا بائنًا؛ فمثلًا: أسس عبد الله النديم صحيفة "الأستاذ" عام 1892 وأعلن أنها "علمية تهذيبية فكاهية"، كان هذا هو المناخ الذي عرفت فيه الصحافة المصرية الطريق إلى إفراد باب للمراسلات.   

ظهور باب مراسلات القُرّاء في الصحافة المصرية

يمكننا أن نُؤرخ لباب المراسلة في الصحف المصرية من خلال ظهوره في مجلة "المقتطف"؛ فقد أَفرَدت بابًا للمراسلة والمناظرة في العدد الأول لظهورها الثاني في يونيو 1882 وافتتحته بالقول: "قد رأينا بعد الاختبار وجوب فتح هذا الباب، ففتحناه ترغيبًا في المعارف، وإنهاضًا للهمم، وتشحيذًا للأذهان، ولكن العهدة فيما يُدرَج فيه على أصحابه؛ فنحن براء منه كله، ولا ندرج ما خرج عن موضوع "المقتطف"، ونراعي في الإدراج وعدمه أن تكون المراسلات لها طابع التناظر، فمناظرك نظيرك، إنما الغرض الوصول للحقيقة، فإذا كان كاشف أغلاط غيره عظيمًا، كان المعترف بأغلاطه أعظم، وأخيرًا خير الكلام ما قل ودل". 

وفي 1892 أعطَّت مجلة "الهلال" لجرجي زيدان بابًا للمراسلات، محاكاة لمجلة "المقتطف"، ولعل الباعث على هذا الظن أن زيدان قُبَيل صدور مجلته بأشهر، وبالتحديد في مارس 1892، كان مدعوًّا للمناظرة في "المقتطف" بعد صدور أُولى رواياته "المملوك الشارد"، حيث تقاطرت الرسائل على المجلة بين مادحٍ وقادحٍ في الرواية وصاحبها، مما اضطره للرد على منتقديه بليِّن الكلام، فقال في صدر رسالته: "قلت في مقدمة رواية "المملوك الشارد": وأرغب إلى من يطلع على هذا الكتاب من أهل الآداب أن ينتهي إلى موضوع النقص، فأصلحه في طبعة ثانية، أو أتجنبه في كتاب آخر". وسنحاول أن نخص باب المراسلات في الهلال بالبحث والتفصيل. 

ففي شهر سبتمبر سنة 1892، ظهر العدد الأول من مجلة "الهلال"، وفي فاتحتها ذكرت أن لها خمسة أبواب، لكل منها شكل مرسوم، فباب "أشهر الحوادث وأعظم الرجال" يتناول تاريخ حادثة شهيرة أو رجل عظيم، ثم "باب المقالات" من قريحة كُتَّاب الهلال أو أقلام الكتاب المعاصرين، أمَّا "باب الروايات" فقد عُنِيَ بنشر الروايات التي تختص بعادات الشرقيين وتاريخهم. ورابع الأبواب "تاريخ الشهر" ويشتمل على ما حدث في سائر أنحاء العالم وخاصة مصر وسوريا ملخصًا ومرتبًا حسب زمن حدوثه. وأخيرًا منتخبات من الأخبار والتقريظ والانتقاد وغير ذلك. ولم يأتِ التقسيم على ذكر باب للمراسلات، خلال العددان الأولان، وإن كانت عبارة "غير ذلك" التي أنهى بها زيدان حديثه تركت الباب مواربًا لإنشاء المزيد وتوسُّع أقسام المجلة، بل إنَّ صاحب "الهلال" طرح على قرائه في العدد الأول مجموعة من المسائل التي تحتمل – من وجهة نظره - وجهين وفيها مجال للبحث، دون أن يطلب من أحد أن يَدلوَ بدلوه، فقدم ثلاثين مسألة في التربية والتعليم والحداثة وحقوق المرأة والآداب. وفى العدد الثاني أَوْمَأ زيدان إلى أنه تلقى رسائل من القُرّاء - لكنها بعيدة عما طرحته المسائل الثلاثون - تطالبه بإعادة طبع روايته "أرمانوسة المصرية"؛ حيث وجدوا فيه توضيح فتح مصر في صدر الإسلام إيضاحًا لا يستطيعه التاريخ.  

وما لبثت "الهلال" غير بعيد، حتى راسلها مجيب عن مسائلها الثلاثين، فأفردت لجوابه بابًا، سمته: "باب المراسلات"، وظل هذا الباب موجودًا حتى عام 1906، وكان المجيب شابًّا يافعًا وهو أسبريدون أبو الروس من بيروت، كان مغرمًا بالآداب، ولم يصرفه التحاقه بكلية الطب عن اهتمامه، وراسل غير "الهلال" كمجلات "المشرق" و"المقتطف". وكان السؤال هو: "هل الآداب بالطبع أم بالوضع؟" وكانت المراسلة إلى صاحب الامتياز جرجي زيدان، وجاء الجواب مُسهبًا في ثلاث صفحات، ومذيلًا بتوقيع صاحبه وبيان موطنه. 

هكذا وُلِد باب "المراسلات" في العدد الثالث لـ"الهلال" الصادر في نوفمبر 1892، وظل موجودًا حتى العدد السابع للسنة الرابعة عشرة من صدور الهلال، وقد جاء الباب متنفَّسًا للقُرّاء ولصاحب الامتياز جرجي زيدان، فسمح لكليهما بالخوض فيما مُنع عليهما الخوض فيه، من أمور الحداثة وإشكالية التراث، وكذلك حقوق المرأة، وثقافة المجتمع وغيره، ووجدا فيه مادة للسجال الفعال بين أصحاب الرأي، ووعاءً للنقاش الثري المتنوع.

تطور باب المراسلات في مجلة "الهلال" (1892/1906)

السنة (تبدأ من سبتمبر)

ع الأعداد

ع ورود باب المراسلات

ع المراسلات

الأول 93/1892

12

10

27

الثانية 94/1893

24

22

52

الثالثة 95/1894

24

24

60

الرابعة 96/1895

24

21

32

الخامسة 97/1896

24

17

24

السادسة 98/1897

24

18

33

السابعة 99/1898

24

8

12

الثامنة 1900/1899

24

16

30

التاسعة 01/1900

20

9

12

العاشرة 02/1901

20

4

4

الحادية عشرة 03/1902

20

1

1

الثانية عشرة 04/1903

20

1

1

الثالثة عشرة 05/1904

20

3

4

الرابعة عشرة 06/1905

20

4

5