الحركة النسوية المصرية

منى عبد الوهاب

كيف خرجت النساء للعمل في شوارع مصر؟

2024.03.07

تصوير آخرون

كيف خرجت النساء للعمل في شوارع مصر؟

تطورت المهن النسائية في مجتمعنا المصري؛ لتشارك النساء في كل شيء حتى المهن الخطيرة منها، لتساعد أهلها أو زوجها وأبناءها، أو لتتحمل مسؤولية نفسها لكي لا تكون عبئًا على الآخرين، من هنا بدأنا نرى النساء في وظائف ومهن جديدة، أشد قسوة وأخطر كثيرًا كالجزارة والنقاشة والحدادة والسباكة، وتطور المشهد أكثر لنرى مندوبة توصيل طلبات، وسائقة ميكروباص، وتوك توك، وسائقة أوبر على سيارتها الخاصة أو سائقة تاكسي، أو يقفن في الشوارع بعربات الطعام والشاي والقهوة.

لكن متى خرجت النساء للشارع؟ أو بالأحرى ما الدافع وراء هذا الخروج؟

تنقسم النساء في هذا الأمر لقسمين؛ الأول: خرج رغمًا عنه، وآخر: بإرادته. 

فالأولى اضطرتها ظروفها الاقتصادية والاجتماعية لذلك فخرجت للشارع دون سابق تعامل من قبل، والثانية خرجت بنفسها تحديًا وبحثًا عن ذاتها، وإيمانًا باستطاعتها على فعل شيء عظيمٍ وكبيرٍ.

قسمان يبدو اختلافهما واضحًا جليًّا من الخارج، لكنهما متشابهان تمامًا من الداخل؛ نسوة عاديات عشن حياة مضطربة ومتخبطة، جعلت إحداهن مضطرة، والأخرى راضية، لكن في النهاية كلتاهما تواجهان نفس الخطر، وتعيشان نفس القلق والخوف، تختلف ظروفهما وبيوتهما وعيشتهما، وتتضافر همومهما وبحثهما وجهدهما.

من البيت إلى الشارع مخاطر ومخاوف نراها جلية أمامنا حين تتعرض النساء للتحرش بأشكاله، وللتنمر على ما تفعله، وللمزايدة على ما تقوم به، ورغم ذلك تصمم المرأة على مواجهة المجتمع فتُخرج أنيابها وتحارب، تنتصر مرة، وتُهزم مرات، لكنها تستمر في المحاولة بل والمحاربة.

هل تتحمل النساء أعباء الحياة والظروف الاقتصادية كما يتحملها الرجال؟

باتت النساء تحمل على أكتافها أثقالًا فادحة، فتخرج للشارع لتواجه كل ما فيه، تاركة وصيتها مع أحد أفراد أسرتها أو صديقاتها خوفًا مما قد تراه في الشارع، فربما يحدث لها سوءٌ أو يمسها ضر من أحد العابرين، أو ربما لا تعود إلى بيتها مجددًا. ولكن بجانب هذا تحلم وتسعى لأن يصبح لها شأنٌ في يوم ما، تكمل دراستها، تنفق على أسرتها، تساعد زوجها، تتحمل معيشتها كيلا تكون عبئًا على أحد؛ كما تحمل البيت بمن فيه، فتربي الأبناء وتنظم أمور المعيشة، وتصبح زوجة يرضى عنها زوجها، وابنة تُرْضي أهلها، أعباء فوق الأعباء تتحملها النساء وتهيم على وجهها في الشوارع بكل آمالها وأحلامها.

كل هؤلاء النساء غالبًا من الطبقة الفقيرة والمتوسطة بدرجاتها، يتشاركن نفس الهموم والطموحات، ويقابلن نفس المخاطر والمخاوف.

أسرع ديليفري في مصر:

صدفة قادتها للعمل في توصيل الطلبات، تعلمت السواقة من اليوتيوب، وأخفت عن أهلها شراء دراجة نارية، عملت ضحى محمد مندوبة توصيل طلبات منذ عام ٢٠١٩، قبل ذلك عملت سكرتيرة بعيادة جراحات عامة. وتقول عن ذلك: "إن كل مهنة تمتهنها المرأة بها مخاطر، حتى لو كانت داخل مكتب مغلق، فلا يخلو عمل النساء من المخاطر طوال الوقت".

وعندما قررت أن تعمل في توصيل الطلبات، كانت بداية المخاطر هو الرفض الكبير من أهلها والمجتمع الذي لا يألف امرأة تسير بدراجة نارية في الشارع. اشترت ضحى دراجتها قبل أن تخبر أهلها وحافظت عليها في أحد جراچات منطقتها. 

اضطرت ضحى (29 سنة) ابنة الطبقة المتوسطة من منطقة الخصوص، للخروج للشارع حينما سافر الطبيب الذي عملت بعيادته، فوجدت نفسها بلا عمل وصعب عليها إيجاد عمل آخر، فقررت أن تعمل في توصيل الطلبات لحاجتها الشديدة للمال وظروفها الاقتصادية الصعبة، اكتفت في البداية بتوصيل الطلبات في المترو والشوارع العامة، أحبت مهنتها الجديدة وقررت الاستمرار بها، فاشترت دراجة نارية لتبدأ رحلتها الطويلة ونجاحها.

"هذه مهنة للرجال فقط"، هذا أول جملة سمعتها حينما واجهت أهلها بعملها الجديد، خوفًا ورفضًا لما قد تلقاه في طريقها، لكنها قالت: "أنا مثل الرجل، وقد أكون أفضل منه في هذه المهنة". تغير الوضع كثيرًا خلال الثلاثة الأعوام الأخيرة، فأصبح هناك تشجيع كبير وفخر ممن يعرفونها، تبدلت الكلمات والعبارات، فبدلًا من "هذه مهنة للرجال" رددوا: "أنت بمئة رجل".

تقول ضحى: "لم ينتبه الناس في بداية الأمر إلى أنني مندوبة توصيل، ففي المواصلات والمترو كنت مجرد فتاة تحمل أشياءَ ربما تخصني، لكن حينما بدأت التوصيل بدراجتي، كان مشهد فتاة تسير بدراجة نارية غير مألوف. بدأت المخاطر في مطاردتي، بكلمات محبطة مرة، وسباب مرات، وسخافات كثيرة".

ودللت على ذلك بمثال: "في يوم جاءني طلب ووافقت عليه، وحينما سرت في الشارع ظهر توك توك بجانبي فلم أُعِره انتباهي، لكن حين حمل صاحبه زجاجة ممتلئة وقرر أن يرشيني بها، لم أعرف وقتها ماذا أفعل، فبكيت، وقررت ألا أعمل مرة أخرى، فأخذت دراجتي للجراچ وتركتها أسبوعًا كاملًا، وبقيت طوال هذا الأسبوع في حالة نفسية سيئة، ربما لعدم فهمي تصرف هذا الشخص، وتساءلت حينها عن دافعه لفعل ذلك أو حتى لماذا قرر أن يتعامل بهذه العدوانية مع فتاة تسير وحدها في الشارع؟ فلم أجد جوابًا، وحين اقتنعت بأنه شخص همجي وسخيف قررت أن أعود لممارسة عملي الذي أحبه، وحدثت نفسي: سأواجه الحلو والسيئ. وواصلت عملي الذي لم يوقفني عنه إلى اليوم سوى حادثة طريق جعلتني أبقى شهور في المنزل بسبب كسور في العظام وجروح عميقة".

 أكملت ضحى حديثها أنها في البداية كانت تخشى دخول البيوت حينما يُطلب منها ذلك، لم تكن اجتماعية بما يكفي، ولم تعرف هل من المفترض أن تقول شيئًا أم لا؟ فكانت تراقب الوجوه طوال الوقت بحذر وخوف شديدين، ومع الوقت تغير هذا، وزاد العمل، والطلبات باتت أكثر مما مضى، فجعلها هذا أكثر جرأة وشجاعة خصوصًا إذا كان الطلب من امرأة مثلها.

تتعامل ضحى مع كل الطبقات الاجتماعية في المجتمع، فتذهب للحارات في المناطق الشعبية والمناطق الراقية، وتدخل للكومباوندات، وتتحدث مع سائقي الميكروباص والتوك توك في شوارعهم، وأيضًا مع الناس في فيلاتهم، تتحدث مع كل منهم بلهجته وأسلوبه، فتغير طريقتها لتجنب الأذى والردود الصعبة.

"تعمل النساء الآن كالرجال، بل وأفضل"، هذا ما قالته ضحى في حديثها عن دور المرأة الآن في المجتمع، فالمرأة مؤثرة بشكل كبير، يعمل الرجل بذراعه والمرأة بعقلها، وهذا ما نجده فارقًا بينهما لدرجة كبيرة. وأكملت: "لن تتخلى المرأة الآن عن دورها ومكانها وتأثيرها في المجتمع، وفي القريب سنرى النساء مسيطرات على كل شيء". وتختم ضحى حديثها قائلة: "لن أترك عملي ما حييت".

لن تترك دراجتها ولا مهنتها مهما تحسن مستواها المادي، بل ستسعى لتطوير نفسها، فبدلًا من اكتفائها بدراجتها ونفسها؛ فهي تطمح لفتح شركة لتوصيل الطلبات تعمل بها النساء حتى لو اكتفت في البداية بمكتب صغير، هذا حلمها الذي تأمل أن يتحقق.

امرأة أجبرتها ظروفها:

عامان مرا منذ بدأت ممارسة لمهنتها الحالية "سائقة" على سيارتها الخاصة بأحد التطبيقات المتخصصة توصيل الركاب، أجبرتها ظروفها الاجتماعية والاقتصادية على العمل بهذه المهنة، فلم يكن هذا طموحها أبدًا، لكن بعد طلاقها ورفض طليقها الإنفاق على أبنائهما قررت أن تعتمد على نفسها وإلا ستجد نفسها بلا نقود للطعام و التعليم. 

خرجت للشارع لتواجه كل ما يحمله من مخاطر، وتساءلت: "أي مخاطر يمكنني مواجهتها أكثر من تلك التي واجهتها؟"، وتابعت: "في الحالتين هناك خوف، خطر، ألم، فلن يضر إذا تعرضت لهذا وحدي بدلًا من أن يتعرض له أبنائي أيضًا".

رفضت الإفصاح عن اسمها ومكان إقامتها أو أية تفاصيل؛ خوفًا من أن يتعرف عليها أحد، قالت فقط إن عمرها أربعون عامًا، مطلقة ولديها طفلان، من الطبقة المتوسطة، ولا يساعدها أحد في رعاية أبنائها حتى أبيهم!

لم تكن مواجهة الشارع بالصعوبة التي تخيلتها هذه المرأة، فكان من العادي نسبيًّا أن يرى الناس امرأة تسير بسيارة في الشوارع، لكن الذي بدا غريبًا حينما اكتشف مستخدمو التطبيق أن السائق "أنثى"، فبدأت من هنا تنهال عليها الأسئلة والمضايقات؛ تقول: "الرجال تسأل أكثر من النساء بكثير، بل ويتطرقون بجرأة لتفاصيل حياتي الشخصية، ويزيد على ذلك نظراتهم السيئة جدًّا". لكنها تستطيع التعامل مع تلك السخافات جيدًا، تؤثِّر عليها نعم، لكنها تتغلب على كل شيء من أجل الطفلين، فهذا مصدر رزقها الوحيد، كما تتعامل مع كل شخص بطريقة تناسبه، أحيانًا بالابتسامة، وأخرى بالحدة. 

لم تواجه مخاطر كبيرة للدرجة التي لا يمكنها حماية نفسها فيها أو تجاوزها، لكنها أكدت أنها إذا تحسنت أوضاعها المادية ستترك تلك المهنة فورًا بلا عودة أو تفكير.

وافق أهلها بسهولة على هذا العمل؛ لأنها لن تستطيع الإنفاق على الأبناء بأي شكل آخر؛ لذلك لقي اقتراحها القبول من اللحظة الأولى، كذلك لم يرفض المجتمع هذا العمل رفضًا قاطعًا. وهي ترى أن النساء مؤثرات في المجتمع بدرجة كبيرة لا يمكن أن نتخيلها، وترى أن النساء أشجع وأقوى من الرجال بمئات المرات، فها هي المرأة التي يصفونها بالضعف استطاعت أن تغير من نفسها وتعمل في الشارع طوال اليوم بحثًا عن النقود التي تنفقها على أبنائها، في حين أن أباهم الموصوف بالقوة قرر أن يتخلى عن مسؤوليته.

راوية تحارب خط الفقر:

ورثت راوية الميكروباص من والدها منذ سبع سنوات بعد موته، هي الابنة الكبرى في عائلة مكونة من عشرة أبناء، مات والدها ولم يترك خلفه إلا تلك السيارة التي عمل عليها لسنوات طويلة، وبالكاد تكفي احتياجاتهم اليومية من الطعام والشراب. 

لم تكمل تعليمها، فخرجت من المرحلة الابتدائية لتربي إخوتها وتساعد أمها في البيت، مات والدها وهي في الواحد والعشرين من عمرها، فاضطرت بعد معاناة مع الفقر أن تخرج لتعمل سائقة على نفس الخط، ولم تتزوج حتى الآن. وتقول: "أكتفي بتوفير احتياجات بيتنا ومصاريف مدارس إخوتي، أكبرهم في الجامعة لا يعمل، وكلما تحدث عن ذلك أرفض وأمنعه، أريده أن يكمل تعليمه أولًا ثم يعمل في أحد البنوك، وبقية إخوتي أصغر منه، أمي مريضة جدًّا وتحتاج للغذاء والدواء". 

وحينما سألتها عما إذا كانت تواجه صعوبات في التعامل مع الرجال في الشارع قالت: "يحترمني الجميع في الموقف هنا؛ لأن أغلبهم يعرفني ويعرف أبي، لكن أحيانًا يظهر سائق جديد فتحدث بيني وبينه مشادات واشتباكات فأضطر أن أتعامل بأسلوبهم، أشتم وأصرخ ويعلو صوتي".

 تلبس راوية ملابس الرجال وتربط رأسها بمنديل، لا تظهر عليها أي علامات أنوثة، سمراء منهكة، تتحدث كالرجال، فلا تعرف إذا كانت متعمدة ذلك أم أن هذه أصبحت طبيعة صوتها وطريقتها، يتعامل معها الرجال في الموقف كما يتعاملون مع بعضهم البعض، ولا يرونها كامرأة. 

تقول راوية: "في البداية تعامل الناس والركاب بشيء من الغرابة مع المشهد، أما الآن فمن السهل أن نرى نساء تسوق التوك توك أيضًا وليس الميكروباص فحسب. ظروفي كانت صعبة أنا وأهلي، وهي ما جعلني بهذه الهيئة، وبلا تعليم أو وظيفة، وبلا زوج".

قالت: إنها تعيش حياة صعبة، فهي في الثلاثين، لم تفعل شيئًا في دنيتها كلها سوى العمل من أجل إخوتها وأمها، لم تعرف الخروج مع الصديقات ولا ماذا يلبسن؟ 

تعيش راوية في منطقة "الدويقة" وتعمل على نفس الخط يوميًّا ذهابًا وإيابًا، لمدة طويلة قد تصل إلى تسع عشرة ساعة، وأقل مدة هي عشر ساعات. وسألتها عما تحلم به، فقالت: "حلم طفولتي أن أركب طائرة ولو لمرة واحدة".

في النهاية رفضت راوية أن تحكي المواقف الصعبة التي تعرضت لها في الشارع، اكتفت فقط بقولها: "الرجال عليهم أن يتعاملوا مع السيدات العاملات على أنهن بشر مثلهم".

صانعة الحلوى:

تصنع عبير الحلوى منذ ثلاثة وعشرين عامًا. تحب العجين والطبخ فوجدت نفسها وتحققت في هذه المهنة، بجانب الظروف المادية التي عانت منها لفترة ليست بقصيرة. في البداية كانت تعاني من صعوبات عدة أبرزها التعامل مع الناس باختلاف طباعهم وأساليبهم، أما الآن فتقول: "إن الوضع اختلف كثيرًا، يحب الناس الحلوى التي أصنعها وأصبحوا يترددون علي كثيرًا".

تبلغ عبير ستَّة وخمسين عامًا، لها ثلاث بنات كافحت واجتهدت حتى وصلت بهن إلى بر الأمان.

تتعامل عبير مع الناس بطريقة واحدة حتى إذا اختلفت طرق الناس، تقول: "طريقتي في التعامل واحدة، وهي الذوق والأدب والاحترام، حتى إذا تحدث بعض الناس بأسلوب سيئ وغير لائق". 

ترى عبير أن المرأة مؤثرة بشكل كبير في المجتمع، ولا توجد مهنة لم تشارك فيها المرأة، ولا تخشى عبير من شيء ولن يوقفها عن عملها إلا الأوضاع الاقتصادية للبلد؛ لأنها قد لا تجد أموالًا تكفي لشراء الخامات التي تعمل بها أو ستضطر لرفع سعر ما تقدمه، وفي الحالتين هذا قد يؤثر على دخلها المادي ووضعها الاجتماعي. 

كانت تعتمد في بيع منتجاتها في البداية على أقاربها ومعارفها، ثم ساعدتها إحدى بناتها في عمل صفحة لمنتجاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، فأصبحت أكثر شهرة وزاد بيعها وارتفع دخلها. كانت هذه الوسيلة أفضل لها، فبدلًا من اضطرارها للتعامل المباشر مع الناس في الشارع لجذبهم لشراء منتجاتها، مما يعرضها لمواقف أو ردود فعل سلبية، أصبح لديها جمهور يعرفها جيدًا على السوشيال ميديا ويتعامل معها من خلال صفحتها.

في النهاية، تتنوع حكايات النساء في الشارع المصري، منها حكايات حزينة، وأخرى تشير إلى بطولات خفية، يبتلعها زحام الشارع أو تحملها صاحباتها في جوفهن سرًّا، وتجاهر بها أخريات فخورات بنجاحهن وسط كثير من التحديات التي تفرضها طبيعة المجتمع، الذي وإن بدأ يحتضن النساء داخل بيئة العمل، إلا أنه لا يزال يحتفظ بقوالب معينة لا يستطيع تقبل رؤيتهن خارجها.