تسحرني الكلمة المكتوبة في كافة الوسائط، الكتب والجوابات حتى الأوراق الرسمية تستهويني قراءتها، ونشرات الأدوية بخطها الدقيق، والملصقات على مستحضرات التنظيف وغيرها، وفي حال عدم فهمي لبعض المكتوب، أستخدم محرك البحث جوجل لاستكمال فهم تركيب وطبيعة الأشياء التي بحوزتي.
وعلى الرغم من كوني "رغاية"؛ فإن مكالماتي الهاتفية عادة لا تتجاوز الدقائق المعدودة فيما عدا الاتصالات المتعلقة بالعمل، ولكن يمكنني قضاء ساعات في تبادل الرسائل النصية على الهاتف المحمول؛ لأن الكتابة على كافة الوسائط فعل محبب بالنسبة إليَّ.
كنت في التاسعة من عمري عندما طلبت من أمي أن تشتري لي "أوتوجرافًا" أعجبني على شكل قلب، ولونه وردي، ومُزين بأزهار صغيرة، واخترت أن تكون شقيقتي أول من يكتب لي بداخله، تركته لها وابتعدت عنها حتى تشعر بحريتها في أن تخط ما تريده، وبداخلي كنت أتمنى أن أجد كلمات جميلة؛ حتى لا أضطر إلى أن أمزق الورقة ويتشوه "الأوتوجراف" الجميل، لم تكن روحي رياضية في هذه السن ربما.
كتبت لي شقيقتي بأقلام ملونة باللون الأحمر والأزرق كلماتٍ عبرت فيها عن حبها لي، وكيف تراني أجمل الشقيقات على الإطلاق، أعجبني خطها المنمق الذي طالما استخدمته أمي للمقارنة بيني وبينها؛ للتدليل على بشاعة خطي الذي تبدو معه دفاتري وكأن دجاجة كتبت بأرجلها أسطرًا يتعذر فك طلاسمها، وهي الحقيقة الدامغة، حيث يتعذر عليَّ أحيانًا قراءة ما كتبته بنفسي. 
على مدار عدة أشهر حملت "الأوتوجراف" طوال الوقت، وتمنيت أن يكتب لي كل من يعرفني جوابات صغيرة بداخله، وطلبت من عدة زميلات أن يكتبن لي، وفي الكنيسة اخترت صديقة أخرى، كنا صغيرات ولكن لسبب ما بدأت كل منهن كلامها بكلمة "للذكرى"، زارنا أقارب لأول مرة يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية، وجدتني أقدم إليهم "الأوتوجراف" حتى يدوِّن لي كل منهم كلمة على الرغم من عدم معرفتهم بي بعد.
لا أتذكر متى حجبت "الأوتوجراف" عن الآخرين، وعند مرحلة ما توقفت عن طلب تلك المشاعر المكتوبة للذكرى، ولكني احتفظت به في صندوق مقتنياتي، وكنت من وقت لآخر أطالعه وأضحك على تلك الطفلة التي كنتها.

↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭

أخشى غدر الذاكرة وقسوة النسيان، ويستهويني الاحتفاظ بمدلولات مادية تخص الكثير من الأحداث في حياتي، عدة صناديق تحوي تلك الأدلة على حياة عشتها،  تذكرة طيران في حياتي، غلاف ورقي لشيكولاتة أهداها لي صديق، فردة واحدة من جوارب أبناء أشقائي وهم رضع، وعدد ضخم من الصور الفوتوغرافية لكافة مراحل حياتي؛ سواء تلك التي التقطها لي والدي، أو التي صورتها بنفسي بكاميرا تملكها صديقة، وسجلت بها الرحلات التي خضناها في سنوات المراهقة والدراسة الجامعية.
ولأغراض بحثية تعرفت على "سوق السبت"، وفي مسمى آخر: "سوق ديانا"، حيث توجد سينما ديانا في شارع موازٍ لشارع عماد الدين بمنطقة وسط البلد، وهناك وجدت كنزًا من الكلمات المكتوبة في مطبوعات مختلفة ومتعددة، حصلت على المجلات والصحف والجوابات وكروت المعايدة وغيرها من الأوراق الحكومية والرسمية، والمقتنيات التي يعود بعضها إلى أربعينيات القرن الماضي.
فهرست المقتنيات بالتواريخ المدونة عليها، وأحببت الصور الفوتوغرافية التي اشتريتها، ولكني انتبهت إلى النصوص التي كتبها أصحابها في خلفيات الصور الشخصية، عادة ما تكون إهداء مُرفقًا بكلمات مؤثرة، ففي خلفية صورة لشاب في العشرينيات من عمره كتب: "إلى أخي العزيز إبراهيم أهدي هذه الصورة للذكرى؛ لأن الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان"، ويوضح ختم باللون الأزرق مصدر الصورة "استوديو عماد المصور أبو حمدي بالسويس".
وفي خلفية صورة أخرى كتب صاحبها من دون أن يوضح لمن الإهداء: "كنت أتمنى أن أكون أنا معك دائمًا، ولكن هكذا الأيام تجمع لتفرق، وتفرِّق لتجمع؛ فهذه صورتي ذكرى للأيام الخالدة التي عشناها سويًّا بحلاوتها ومرارتها. ٢٧ مايو ١٩٦٠".
في تلك النصوص القصيرة يبدو واضحًا أن السبب في تبادل تلك الصور، هو الرغبة في أن يحتفظ الشخص بصورة حقيقية متجاوزة الصورة التي تحتفظ بها الذاكرة، وهو ما أكد لي أن غايتي في جمع الأدلة المادية من محطات مختلفة في حياتي هي الخوف من أن تضيع في غياهب النسيان، رغبة مشتركة شاركني فيها أشخاص في أزمنة مختلفة. 

↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭

لا يعجبني ولا أتجاوب مع التهاني الجماعية التي وُجدت بفضل مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، حيث أتلقى في الأعياد والمناسبات عشرات الرسائل التي أرسلها أصحابها إلى المئات غيري بكبسة زر واحدة، فلا أي خصوصية أو اهتمام حقيقي، وهو الفعل الذي يأتي في سياق تأدية واجب لا بد منه في حياة شخصية عامة معنية بأن يتلقى الجميع تلك التهنئة الميكانيكية. 
كروت المعايدة التي جمعتها من سوق السبت، كانت بالنسبة لي وكأنها من زمن سحيق لم يبقَ منه أي شيء؛ فهي معايدات وتهانٍ ذات طابع مادي ملموس وحي، بذل فيها صاحبها مجهودًا حقيقيًّا، بداية من شراء الكارت، وصولًا إلى إلقائه في صندوق البريد، أو حتى تقديمه إلى الشخص المعني وجهًا لوجه.
تهانٍ ومعايدات بمناسبة أعياد الميلاد، والأعياد الدينية، مثل: عيد الفطر والأضحى والميلاد والقيامة، وعدد من الكروت تم إهداؤها من دون مناسبة محددة؛ كانت فقط رغبة في التعبير عن الحب والامتنان. واللافت أيضًا هو تباين علاقات الأواصر بين صاحب الكارت والمرسَل إليه، فالكروت التي بحوزتي متبادلة بين الأصدقاء والأقارب، وبين تلميذة ومعلمتها.

↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭↭

أفتش عن الأوراق القديمة وأتلذذ بقراءتها وإعادة رسم أبطالها في ذهني، وأعرف أن المقارنة بين طبيعة الحياة في عقود ماضية، وبين نظيرتها في الحياة الحالية لا تستقيم، ومن العبث أن نغرق في نوستالجيا ونتحسر على الماضي، ولكن بشكل شخصي لا أعول على العلاقات الإلكترونية، وأحاول ألا تجرفني الحياة الاجتماعية المبنية على كبسة زر.