تحقيقات

منى يسري

الزواج والطلاق في مصر: الأسرة في ميزان الدولة

2024.10.06

تصوير آخرون

الزواج والطلاق في مصر: الأسرة في ميزان الدولة

تخضع الأسرة المصرية لقانون الأحوال الشخصية رقم 25 لسنة 1929، الذي مرّ عليه أكثر من 100 عام، نال فيها المجتمع ما نال من تغيّرات على أصعدة مختلفة، لكنّ الحديث عن القانون وفتح باب النقاش المجتمعي حوله لم يبدأ إلّا عام 2017، قبيل الانتخابات الرئاسية، بعد سنوات من النقاش حول قضايا شائكة تمس تماسك الأسرة المصرية، وفي مقدمتها معدلات الطلاق، واستمر ذلك حتّى التقدم بمشروع قانون أثار جدلًا اجتماعيًّا كبيرًا في فبراير/شباط 2021، انتهى باستجابة رسمية للأصوات المناهضة لمسودة قانون الأحوال الشخصية الجديد، وسحب المشروع مع تقديم وعود بقانون أكثر إنصافًا للمرأة، محافظًا على وحدة وتماسك الأسرة المصرية.

تعكس الأرقام الرسمية، خاصة منذ عام 2015، تذبذبًا ملحوظًا في معدلات الزواج والطلاق في مصر، ففي 2019 بلغت 9.4 في الألف، مقارنة بـ10.7 في الألف عام 2015، بينما بلغت أدنى مستوياتها عام 2020، لتصل إلى 8.7  في الألف، وما بين الأعوام الخمسة هناك تغيّرات يمكن فهمها في ضوء التحولات الاقتصادية أعقاب بدء تنفيذ الإصلاح الاقتصادي، وفي المقدمة منه تعويم العملة المحليّة نوفمبر/تشرين الثاني 2016. كما لا يمكن إغفال الآثار الجانبية لاجتياح فيروس كورونا خلال عام 2020، وتأثيره في الحياة الاجتماعية للمصريين.

 الزواج في تراجع

 في أكتوبر من العام الماضي، كان التراجع في معدلات عقود الزواج ملحوظًا مقارنة بنفس الفترة من عام 2022، وبلغ الفارق أكثر من 30% خلال عام واحد فقط. ولا يمكن فصل هذا التراجع عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي مرّت بها البلاد، ومعدلات التضخم الكبيرة التي فرضت على المصريين خلال عام 2023 حيث بلغت معدلات التضخم أعلى مستوياتها خلال يونيو 2023 بنسبة 41%، قبل أن تتراجع قليلًا في يوليو إلى 40.7%، وهو ارتفاع كبير إذا قورن بعام 2022، الذي بلغت فيه أقصى معدلات التضخم 24.6%.

أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، نشرته السنوية "مصر في أرقام". أظهرت النشرة تراجعًا نسبيًّا في معدلات الزواج، يقابله تراجع أقل في نسب الطلاق، الذي تشهد معدلاته ارتفاعًا كبيرًا في مصر منذ أواخر العقد الماضي.

بالرجوع قليلًا إلى العقد الماضي، شهدت مصر نفس الظاهرة بين عامي 2003/2008، حيث انخفضت نسبة الزواج من 573.009 ألف عام 2003، مقابل 507 ألف حالة عام 2007، ولعلّ العامل المشترك بين المرحلتين هو تعويم الجنيه المصري عام 2003، الذي أدى إلى موجة غير مسبوقة من الغلاء، ورفع نسب التضخم من 2.9% عام 2003، إلى 17.3% عام 2004.

تكشف الأرقام المتباينة في معدلات الزواج والطلاق عن تغيّرات أكثر عمقًا في المجتمع، ونموذج الأسرة النووية السائد في مجتمعات الشرق الأوسط ككل، تغيرًا وصل إلى الإعلان عن عزم الدولة منح شققًا سكنيّة مفروشة بقيمة إيجارية تتقاضاها –الدولة- من كل شاب مقبل على الزواج، منعًا للخلافات العائلية التي عادةً ما تفسد الزيجات بسبب المتطلبات المادية.

وكان للحديث عن الأحوال الشخصيّة (الزواج والطلاق) نصيبًا كبيرًا من النقاش الإعلامي والمجتمعي، انتقدت من خلالها ممارسات الأسر وعاداتهم في الزواج، بالمغالاة في المتطلبات المادية، وأيضًا زواج القاصرات، وانتهاءً بالخلاف الأشهر حول الطلاق الشفهي، الذي يرى فيه النظام أحد أهم مسببات ارتفاع نسب الطلاق وبلوغها معدلًا جعل الدولة تدق ناقوس الخطر حوله، من دون الوقوف على الأسباب الفعلية والمركبة لبلوغ الأمر مرحلة الأزمة.

 قانون الأحوال الشخصيّة في الميزان

 تُحكم الأسر المصرية بإطار تشريعي، لقانون رقم 25 لسنة 1920، حيث طرأت عليه تغيرات عبر مراحل زمنيّة مختلفة، لكن يظل لب القانون الموضوع قبل أكثر من قرن بإشراف  مؤسسة الأزهر هو الحاكم بين أفراد الأسرة حتّى اليوم. لكنّ عاصفة اجتاحت الرأي العام المصري خلال شهر فبراير/شباط الماضي، بعد تسرب مسودّة تعديلات لقانون الأحوال الشخصيّة المقترح، اعتبرها البعض إهانة للحركة النسائية المصرية وتطلعاتها ونضالها المستمر، ورآها آخرون انتكاسة وانقضاضًا حتّى على المكتسبات البسيطة التي أحرزتها النساء في عهد سوزان مبارك، مثل التعديلات الخاصة بالخلع وحق المرأة في تجنيس أبناءها إذا كان الأب أجنبيًّا.

كانت الألفيّة الجديدة قد بدأت على المصريين، بإقرار قانون الخلع "المادة 20 من القانون رقم 1 لسنة 2000"، واعتبر وقتها ثورة في قانون الأحوال الشخصيّة، جعلت من الطلاق أمرًا أكثر سهولة بعدما أفنت آلاف النساء سنوات من أعمارهن بين أروقة المحاكم سعيًا خلف ورقة طلاق لم يتحصلنّ عليها. بالرغم من السند الشرعي لقانون الخلع، فإنّه أثار ضجّة مجتمعية دفعت ببعض المحامين إلى الطعن في دستوريته آنذاك، لكن سرعان ما حكم ببطلان تلك الدعاوى.

يلعب قانون الأحوال الشخصية في مصر دورًا محوريًّا في تنظيم العلاقات الزوجيّة والأسرية بشكل عام، وإلى جانب العامل الاقتصادي والاجتماعي، فإن عجز القانون عن مواكبة التغيرات الاجتماعية، صنع خللًا هيكليًّا في منظومة الأسرة، وأدّى إلى تأزيم الأوضاع الأسرية عبر عدّة مراحل. كما يعتبر القانون ركيزة المؤسسة الدينية (الأزهر) للحفاظ على الأسرة بشكلها التقليدي، بالرغم من مؤشرات الخطر الاجتماعي الناجمة عن استمرار العلاقات الأسرية بمثل هذا الإطار القانوني، لكنّ الأزهر لن يقبل المساس بحصته القانونيّة الوحيدة، ويدع  نظام الأسرة خاضعًا للقانون الفرنسي على غرار قوانين أخرى.

 الطلاق.. خروج عن النظام

 ينعم الرجل المصري بالحق غير المشروط في الطلاق، على العكس من المرأة التي تصارع مؤسسات الدولة والمجتمع لتحصل على حقها الشرعي والقانوني في الطلاق. أفاد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن ارتفاع معدل الطلاق، حيث شهدت مصر زيادة بنسبة 83٪ في معدلات الطلاق بين عامي 1996/2017. "بلغ معدل الطلاق 1.2 لكل 1000 حالة زواج في الفترة ما بين 1996/1999، مقارنة بمعدل 2.2 لكل 1000 حالة زواج في عام 2015"، بالإضافة إلى حصول أكثر من 200000 من المتزوجين على الطلاق كل عام، وتشير الأرقام إلى أن 40٪ من الزيجات تنتهي في غضون السنوات الخمس الأولى.

بدأت معدلات الطلاق في الارتفاع غير المسبوق، وترواحت بين 40 و60.7%، اعتمادًا على المناطق الريفيّة والحضريّة بلغت ذروتها عام 2017، في وقت يحاول فيه النظام المصري الوصول إلى الاستقرار السياسي، ما جعله ينظر إلى أرقام الطلاق كمؤشر خطورة، ليس على استقرار منظومة الأسرة فحسب، لكن على استقرار النظام الذي سيضطر إلى دفع فاتورة الطلاق الباهظة على المستوى الاقتصادي من جهة، وعلى صعيد عدم الانضباط المجتمعي الذي يمثله الطلاق، بينما يسعى النظام في مرحلته الحاليّة إلى خلق مجتمع أكثر انضباطًا، تشرف الدولة على تنظيم كل تفاصيله.

ساهم قانون الخلع بشكل كبير في ارتفاع نسب الطلاق، إلّا أنّه لم يمنح النساء عدالة قانونية مع الرجال في هذه المسألة، لكنه منح ملايين النساء على مدار العقدين الماضيين حقّ التخلص من الزواج من دون تضييع سنوات من أعمارهنّ أمام القضاء بلا طائل، في نفس الوقت يعكس الخلع الذي تضطر فيه المرأة إلى التنازل عن مستحقاتها المالية في نظام اجتماعي واقتصادي لا يضمن لها فرصًا عادلة ومتكافئة، القهر المبطن الممارس ضد ملايين من النساء غير القادرات على استخدام الخلع، في مواجهة قانون الطاعة الذي ما زال معمولًا به في مصر، ما يعمّق البُعد الأبوي والذكوري الممارَس على المصريات بموجب القانون والشرع.

 إجراءات احترازية

 أعلنت الدولة ومؤسسة الأزهر حالة الطوارئ، بعدما بلغت معدلات الطلاق أرقامًا غير مسبوقة، حيث أعلنت مشيخة الأزهر تدشين وحدة "لم الشمل"، للمساهمة في رأب صدع الأسرة قبل وقوع الطلاق، بينما دشّن مجلس الوزراء مبادرة "مودّة" لتقديم استشارات ودورات تدريبية للمقبلين على الزواج، واحتواء الخطر قبل وقوعه.

تصدرت مصر عام 2009، معدلات الطلاق عالميًّا بحسب الجريدة الرسمية، لكن الحديث عن زيادة أعداد المطلقات، بدأ مع أواسط التسعينيات من القرن الماضي، وهي فترة تحول اقتصادي كبير، انطلق مع تطبيق برنامج التكيف والتثبيت الهيكلي، وبداية مرحلة تصفية القطاع العام، ما أدّى إلى  تغيرات اجتماعية عنيفة، يمكن اعتبار الطلاق أبسطها. لم يولِ مبارك اهتمامًا شخصيًّا بأرقام الطلاق المرتفعة في عصره، فلطالما اعتمد سياسة التجاهل، لكن مع تفاقم الأمر الذي بات ظاهرة خطيرة، أصبح الرأي العام مشغولًا بها ويرى فيها مهددًا لاستقرار البنية الاجتماعية المنشودة والمنعكسة بدورها على استقرار النظام السياسي وترسخ جذوره.

على مدار السنوات الماضية، أحرزت الدولة تقدمًا على عدّة مستويات في تثبيت دعائم سلطتها، بعد التخلص من كل ما يهدد هذه السلطة، وهنا ظهر الطلاق كدلالة على خلل وظيفي في المجتمع، يعكس اضطرابات وتغيرات ستؤثر بدورها في مؤسسات أخرى، ولأنّ الأسرة ونظامها من الأساس يقوم على حفظ الأدوار الاجتماعية كما هي، فإنّ أي تغير إنمّا يعكس صراعات داخلية كامنة، تحاول الدولة احتواءها عبر إجراءاتها الاحترازية، وهو ما برز خلال حملات إلقاء القبض على فتيات التيك توك، بحسب التوصيف الإعلامي للقضية.

عكست القضيّة المعروفة إعلاميًّا بـ"فتيات التيك توك"، ما تصبو إليه الدولة من تنظيم العلاقات الاجتماعية، والمحافظة على النسيج الاجتماعي بشكله التقليدي بغض النظر عن أي تغيرات يفرضها الواقع الثقافي الراهن، حيث حوكمت الفتيات بتهمة الاتجار بالبشر، وبمقتضى قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لتقييد المحتوى على الإنترنت الذي يعتبر منافيًا للآداب العامة أو القيم الأسرية، والذي أقرّه البرلمان عام 2018، كانت هذه هي المرّة الأولى التي تحاكم فيها نساء بتهمةِ ما سمته النيابة العامة "التعدي على قيم الأسرة المصرية". 

ماذا تخبرنا الأرقام؟

يُظهر اختلاف المعدلات بين الريف والحضر، العوامل المركَّبة، لمنظومة الزواج في مصر، حيث أظهرت مؤشرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2019 ارتفاع معدلات الزواج في الريف مقارنة بالحضر، حيث بلغت 9.6 لكل ألف في الريف، مقارنة بـ 9.1 لكل ألف في الحضر، أمّا عقود الطلاق فقد حاز الحضر على النسبة الأكبر منها وبلغت 2.9 لكل ألف، مقارنة بـ 1.8 لكل ألف في الريف.

وتعكس أيضًا المؤشرات والنسب عبر سنوات مختلفة، أنّ الارتفاع المطرد في  معدلات الطلاق، مقابل الانخفاض النسبي في الزواج، دلالة على خلل هيكلي في منظومة الزواج القائمة، وعدم قدرتها على تلبية تطلعات أصحابها، وهشاشتها أمام عواصف التغيير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهو عرَض مستمر منذ عقود، فشلت معه مسكّنات النظام السابق، بينما يحاول النظام الحالي، عبور المنعطف بأقل خسائر ممكنة.