النقابات المهنية
هشام فؤادمعضلات النقابات المهنية.. دعوة للنقاش
2024.03.05
مصدر الصورة : AFP
معضلات النقابات المهنية.. دعوة للنقاش
كانت النقابات المهنية في مصر دومًا أحد أفراس الرهان في مواجهة سياسات الاستبداد والاستغلال والتبعية، رغم العراقيل التي وضعتها الأنظمة المتعاقبة في طريقها.
لقد سعت الدولة الناصرية منذ قيامها إلى إلحاق النقابات المهنية بجهاز الدولة، وكثيرًا ما مارست أشكال من التدخل السافر في شئونها. فمثلًا تضمنت قوانين "إنشاء" النقابات المهنية منح صلاحيات هامة ومؤثرة لأحد السادة الوزراء على مقدرات كل النقابة. وأيضًا قامت الدولة في مرات كثيرة بحل المجالس المنتخبة للعديد من النقابات المهنية، أو بفرض الحراسة عليها بعد إصدار القانون 100 لسنة 1993، الذي فتح الطريق واسعًا أمام فرض وصاية الدولة على النقابات. وغير ذلك من الممارسات التي قيدت الحقوق النقابية.
لكن رغم الحصار والتدخل السافر في الانتخابات والقبض على النشطاء النقابيين، بل واقتحام النقابات، لم تنجح الدولة طوال العقود الماضية في القضاء على قوة التجمعات المهنية، وإن كانت قد أصابتها بحالة من الشلل المؤقت في بعض الأحيان.
هكذا مثلًا، ورغم كل التضييق الذي نعيشه في السنوات الماضية وانحسار الحركات الاجتماعية، أبى عام 2022 أن يرحل دون أن يشهد عودة مهمة ومؤثرة لبعض النقابات المهنية كي تحتل صدارة المشهد الاحتجاجي الاجتماعي، فرأينا انتفاضة المحامين في ديسمبر 2022 في مواجهة سعي السلطة لزيادة الأعباء المالية عليهم، دون تمييز بين المحاميين الشباب وأصحاب المكاتب الكبرى. ونجح المحامون في تنظيم حملة للاحتجاج على تطبيق الدولة للتسجيل في الفاتورة الإلكترونية. وكانت أهم مظاهر تلك الحملة ممارسة المحاميين لحق التظاهر، المحظور بحكم القانون، وذلك في معظم محافظات مصر.
وفي مارس 2023، نجح خالد البلشي، المناضل النقابي الفاعل، ورئيس تحرير موقع "درب" المحجوب في مصر، في الفوز بمقعد نقيب الصحفيين في مواجهة المرشح الرسمي للدولة؛ ليُلهِم انتصاره الآلاف من المناضلين المحبَطين من إمكانية التغيير.
ويمكن إرجاع فوز البلشي إلى جانب تاريخه النقابي، إلى تراجع المستوى المعيشي للصحفيين، وسيطرة الشركة المتحدة للإعلام التابعة للدولة على معظم المشهد الإعلامي، وحجب مئات المواقع الصحفية، إلى جانب إصرار أجهزة الدولة على فرض نقيب على الصحفيين لا يحوز على ثقة حتى هؤلاء الذين يصوتون دومًا للمرشح الحكومي.
وبدأ البلشي يُعيد نقابة الصحفيين تدريجيًّا لتلعب دورها المتوقع في الدفاع عن الصحفيين وحرية الصحافة، بعد سنوات من التأميم الحكومي للنقابة، وصل إلى مستوى سحب الكراسي، ووضع السقالات على السلم لتصبح النقابة مرفوعة من الخدمة تمامًا. كما أعاد البلشي النقابة للتفاعل مع القضايا السياسية والوطنية، على غرار الموقف المتميز الذي اتخذته تضامنًا مع الشعب الفلسطيني البطل في غزة. واستقبل سلم نقابة الصحفيين في نوفمبر 2023 مظاهرة احتشد فيها الآلاف من الصحفيين والقوى السياسية والشباب الغاضب؛ للتنديد بالمجازر الصهيونية، تقدمها البلشي وأعضاء المجلس، وذلك لأول مرة منذ ست سنوات.
وفي مايو الماضي داخل نقابة المهندسين، وبعد جمعية عمومية غير مسبوقة، انتصرت إرادة المهندسين ورفضت الأغلبية العظمى سحب الثقة من النقيب المستقل طارق النبراوي، في هزيمة كبرى لأغلبية أعضاء هيئة المكتب المحسوبين على حزب الأغلبية "مستقبل وطن". وهي الجمعية التي انتهت بمهزلة اقتحام البلطجية لمقرها، والاعتداء على المهندسين، وتمزيق عدد من أوراق الاقتراع، وهي وقائع تم تصويرها بالصوت والصورة. ولم تفتَّ أعمال البلطجة في عضد نشطاء المهندسين ونقيبهم، الذين صمموا على اعتماد نتيجة الاستفتاء بتأييد بقاء النقيب المستقل، وإحالة البلطجية إلى النيابة.
وبعد فترة من الشد والجذب، أجبرت الدولة أعضاء هيئة المكتب المحسوبين على حزب الأغلبية "مستقبل وطن" على الاستقالة، ذلك لتجاوز الأزمة التي كان لها صدًى كبير على المستوى المحلي والعالمي، بما شهدته من أعمال عنف بتواطؤ مباشر من أجهزة الدولة. كما تم تجديد الثقة في نقيب المهندسين المستقل طارق النبراوي، في مكسب كبير لكل المدافعين عن استقلال النقابات والحرية النقابية.
والملاحظ كما رأينا في معارك النقابات الثلاث، هو مدى ترابط القضايا النقابية مع القضايا السياسية والاجتماعية والوطنية.
فنضال المحامين ضد الفاتورة الإلكترونية أدى إلى كسر قانون التظاهر، وتحدي سياسات الإفقار التي تُحمل العاملين بأجرٍ عبء أزمة لم يصنعوها، بفرض المزيد من الأعباء المالية عليهم.
وتحدي الصحفيين لإملاءات السلطة بفرض مرشح لمنصب نقيب الصحفيين لا يتمتع بدعم قطاع واسع حتى من الصحفيين القريبين من الدولة، في ظل تدهور الأوضاع المعيشية وانعدام فرص العمل، دفع خالد البلشي ليتبوأ منصب النقيب، وليعيد فتح النقابة تدريجيًّا، ولتستعيد نقابة الرأي دورها في قضايا الوطن، وفي فتح المجال العام ولو جزئيًّا.
وغضبة المهندسين بسبب فساد أعضاء مجلس نقابتهم المحسوبين على حزب "مستقبل وطن"، الذي يعد امتدادًا للحزب الوطني الحاكم أيام مبارك، ومن محاولات فرض الوصاية عليهم أسفرت عن استعادة نقابة المهندسين لسلاح الجمعية العمومية غير العادية في مشهد تاريخي، وتحدي للاستبداد والبلطجة، رغم كل محاولات الحشد والتحشيد من قبل الدولة.
المعنى أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تدفع الآلاف من الشباب الغاضب في النقابات المهنية، إلى التحرك مجددًا، وتتيح إمكانية بروز كوادر نقابية جديدة، كما يُمنح المناضلون من أجل التغيير أوكسجين الحياة.
ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن هناك صعودًا ميكانيكيًّا وحتميًّا للحركة وسط النقابات المهنية الفاعلة، لكن يمكن توقع صعودًا صعبًا، سيواجه هزائم -كما شاهدنا في انتخابات نقابة الأطباء- وتراجعات وانتكاسات. إلا أن المؤكد مع مواصلة الحكومة لسياساتها الاقتصادية والاجتماعية أن نشهد اتساعًا لرقعة الغضب وسط المهنيين.
نأتي هنا إلى مربط الفرس، فمشاهد الشهور الماضية منذ انتفاضة المحاميين في ديسمبر 2022 وحتى الآن، إلى جانب توقعات المستقبل القريب، تضعنا أمام مهمة مركزية هي مناقشة معضلات النقابات المهنية في مصر، وكيف يمكن التغلب عليها؟ وهي مهمة تأخرنا كثيرًا في أداءها. فرغم أنه كثيرًا ما تمت الإشارة لتلك المعضلات ودارت النقاشات حولها، لكن هذه النقاشات لم تسفر أبدًا عن حلول وبدائل ومشاريع ديمقراطية مغايرة.
دعونا نطرح هذا السؤال:
ما هي الشروط الديمقراطية لتطوير النقابات المهنية في مصر، وتجاوز معضلاتها، وكيف نصيغ ذلك في إطار برنامج للتغيير الديمقراطي الشامل؟
لن أجيب هنا عن هذا السؤال، وإنما سأحاول فتح الباب للإجابة عليه، متمنيًا تواصل النقاش. فلا يمكن الوصول لإجابة إلا عبر تفاعل جماعي.. هي إذن دعوة للنقاش أوجهها إلى كل المهتمين بالأمر من المناضلين والقوى والتيارات الديمقراطية في مصر للبحث فيه والعمل على بناء تصور ديمقراطي بديل.
وفي سبيل فتح الباب أمام الإجابة على السؤال المركزي دعونا أولًا نحدد من هم جيش المهنيين في مصر، أعضاء النقابات المهنية؟
حسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء؛ فقد بلغ عدد أعضاء النقابات المهنية بنهاية عام 2021 نحو 8 ملايين و38 ألف عضو، وكانت أكبر النقابات نقابة التطبيقيين بنحو مليون و968 ألف عضو بنسبة 24.5% من الإجمالي، ونقابة التجاريين بنحو مليون و806 آلاف عضو بنسبة 22.5%، وكانت نقابة المهن التعليمية تضم مليون و96 ألف عضو، والمهن الهندسية 796 ألف عضو، والمهن الزراعية 543 ألف عضو، والمحامين 376 ألف عضو، وعلى الجانب الآخر يبلغ عدد أعضاء أصغر نقابة -نقابة التأهيل الحركي وإصابات الملاعب- 1269 عضوًا، ونقابة الإعلاميين 1471 عضوًا، والمهن التمثيلية 3550 عضوًا، ومحفظي القرآن الكريم 8117 عضوًا، والصحفيين 11 ألفًا و527 عضوًا.
ولا تقتصر ملامح هذا الثقل على نمو العضوية إلى هذا الحد، مع زيادة أعداد هذه النقابات من 7 بنهاية الأربعينيات من القرن العشرين إلى 32 نقابة اليوم، يحتكر كل منها تمثيل مهنته وفق الدستور، بل ثمة تاريخ حافل لأقدم هذه النقابات وأعرقها في النضالات الوطنية والديمقراطية والاجتماعية للمصريين.
المهم أن هذا الوزن النوعي الكبير والهام لجيش المهنيين في مصر، وإرثه النضالي الطويل، يجعلنا نأمل أن يلعب دورًا محوريًا في مشروع التغيير الديمقراطي. وهذا ما يعيدنا إلى سؤالنا المركزي، ويضعنا بالتالي أمام مهمة تحديد المعضلات التي تحتاج النقابات المهنية إلى تجاوزها:
أولًا: تفتيت العاملين بأجر
حرصت الدولة منذ يوليو عام 1952 على تفتيت الحركة العمالية وإضعافها وإدماجها بجهاز الدولة. وفي هذا السياق تم الفصل بين العاملين بأجر؛ ليصبح أصحاب الشهادات العليا الأُجراء أعضاء في نقابات مهنية، وباقي الأُجَراء أعضاء في نقابات عمالية.
وأدى هذا الوضع إلى إضعاف الحركة النقابية، فنقابة الصحفيين لا تستطيع على سبيل المثال، إذا قررت تبنيَ قرار بالإضراب عن العمل أن تضمن عدم طباعة المطبوعة، بدون أن يكون عمال المطابع طرفًا في قرار الإضراب.. وهكذا يضعف هذا التقسيم من قدرة العاملين بأجر على انتزاع مطالبهم، وهو ما يستوجب على الأقل خلق شبكة تنسيق بين النقابات العمالية والمهنية.
ثانيًا: الطابع الطائفي الحرفي
تُشبه النقابات المهنية في مصر نظام الطوائف القديم في العصور الوسطى الإقطاعية، حيث تضم الطائفة كل العاملين بالحرفة من معلم وأسطى وصبيان وأصحاب دكاكين. فنقابة المهندسين على سبيل المثال تضم أصحاب ومديري شركات التطوير العقاري والاتصالات والمؤسسات الصناعية، على غرار المهندس الملياردير نجيب ساويرس والمئات مثله، إلى جانب صغار المهندسين العاملين لديهم! جميعهم في نقابة واحدة! وبالطبع يؤدي وجود الملاك إلى جانب الأُجَراء في نقابة واحدة إلى شل الحركة المطلبية، نتيجة لتضارب المصالح، والذي غالبًا ما يصب في صالح الطرف الأقوى بطبيعة الحال. فبالتأكيد بارونات الصحافة وأصحاب المكاتب الهندسية والقانونية الكبرى، ليست لهم أدنى علاقة بأوجاع المهنيين الأُجَراء ومطالبهم.
ثالثًا: النقابات منظم للمهنة وليست ناظم للمشتغلين بها
أعطت قوانين النقابات المهنية في مصر لمجالس النقابات الحق في إصدار تراخيص مزاولة المهنة. هذا الوضع كَرَسَ طابعها الطائفي ومنحه صفات احتكارية وجعلها ليست فقط شبيهة بنظام الطوائف القديم وإنما امتداد له ونسخة منه، حيث يحتكر شيخ الطائفة الحرفية حق المنح والمنع لرخصة العمل بالحرفة. فالأصل في المجتمعات الحديثة أن حق العمل في أي مهنة أو حرفة ممنوح لكل من يرغب. وفي الحالات التي يجب فيها التأكد من صلاحية الراغب في العمل على ممارسة المهنة، كالأطباء مثلًا، أي حصوله على شهادة علمية مضمونة وموثقة من جهات معتمدة، فإن من يمنح ترخيص العمل هو صاحب المصلحة أي المجتمع، عبر خبراء تختارهم مجالسه التشريعية والسلطات التنفيذية الملحقة بها. أما النقابات "الحديثة" فدورها هو تنظيم كل من يعمل بالمهنة بالفعل، وليس إعطاءه رخصة العمل، وذلك لضمان دفاعها عن المصالح الجماعية للمشتغلين بالمهنة.
سنجد مثلًا فنانين موهوبين ومبدعين في مجالات مختلفة، بعضهم يحظى بجماهيرية واسعة، تقف النقابات الفنية في مصر (الخاضعة لقوانين النقابات المهنية) حائلًا بينهم وبين حقهم في ممارسة عملهم وإبداعاتهم، لأنهم ليسوا أعضاء في تلك النقابات، وتصر إداراتها على عدم منحهم تراخيص العمل أو ضمهم إلى عضوية النقابة! وصل الأمر منذ بضع سنوات إلى إصدار قانون يمنح نقيب الموسيقيين حق الضبطية القضائية لمنع أغاني لا تسير على هواه، والقبض على المطربين أصحابها! سنجد أيضًا المئات والآلاف من المحررين الصحفيين، الذين يعملون بالفعل في مهنة الصحافة في دوريات ومواقع وإصدارات متنوعة، محرومين من عضوية نقابة الصحفيين، ومحرومين بالتالي من الحقوق المهنية التي يمنحها القانون للصحفي المحترف، وهذا أيضًا هو الحال في أمثلة عديدة أخرى.
هكذا بدلًا من أن تسعى النقابة المهنية إلى تشجيع كل العاملين بالمهنة للانضمام إليها لتوحيد نضالهم الجماعي دفاعًا عن حقوقهم تتحول إلى سلطة إدارية للسيطرة على المهنة، وامتداد لجهاز الدولة.
رابعًا: البنيان النقابي المشوَّه
النقابات المهنية لا تقوم على أساس وجود لجان قاعدية لها في مؤسسات العمل المختلفة (الشركات، والمصانع، والصحف، إلخ)؛ مما يضعف من تأثير دورها النقابي، ويؤدي إلى هيمنة بيروقراطية نقابية على مجريات عملها، تتشكل لها سريعًا مصالح مع أصحاب الأعمال والدولة، وتبتعد عن هموم الأُجَراء.
هذا إلى جانب عدم تجانس الجسم النقابي داخل النقابة الواحدة، بوضع فئات ليس لها مصلحة مشتركة معًا مثل نقابة المهندسين، التي تضم المهندسين العاملين في قطاعات البترول، والتشييد، والري، والاتصالات، والطرق، والصناعة، والسكك الحديدية، إلخ، جميعهم في إطار واحد، رغم أن لكل قطاع همومه ومطالبه واحتياجاته. وأيضًا نقابة المحامين، التي تضم المحامين العاملين بالدولة إلى جانب العاملين بالمكاتب الخاصة، ولكل قطاع منهما همومه وقوانينه التي تحكمه. وهكذا.
خامسًا: الموارد المالية
ينظر قطاع عريض من المهنيين إلى نقاباتهم المهنية، باعتبارها جهة للحصول على الخدمات المحرومين منها بفعل ما يسمى سياسات الإصلاح الاقتصادي، وليس على أنها أداة للنضال من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية والاجتماعية والثقافية، وللضغط من أجل أن تقوم الدولة بدورها وتقديم خدمات صحية حقيقية لمواطنيها، على سبيل المثال.
وبسبب رغبة مجالس النقابات في الحصول على ثقة الجمعية العمومية، عبر تقديم خدمات لأعضائها، فإنها تسعى إلى تنمية مواردها بكل الطرق. عدد من النقابات المهنية نجحت في فرض دمغة على النشاط المهني لأعضائها؛ لتزيد من مواردها عبر إضافة أعباء على كاهل المواطنين. بينما تعتمد بعض النقابات المهنية الأخرى على الحكومة لتوفير ما يقرب من ثلثي ميزانيتها.
وهو ما يطرح قضيتين مهمتين:
الأولى: ضرورة أن تعود النقابة إلى دورها الأساسي كمدافع عن مصالح أعضائها في مواجهة تعسف الإدارات والدولة، بينما الخدمات تظل مسؤولية الدولة والجمعيات الأهلية.
والثانية: أهمية الاستقلال المالي للنقابات عن الحكومة، فلا يمكن الكلام عن أي استقلالية للنقابات عن الدولة، بينما الدولة هي من تغطي ميزانية النقابة. سنجد أن نقيب الصحفيين، على سبيل المثال، يتم اختياره، في معظم الدورات، بمعيار وحيد، هو من له علاقات أفضل بالدولة، ويستطيع بالتالي تقديم خدمات أكبر.
سادسًا: حظر التعددية
أدى الربط بين ترخيص مزاولة المهنة وعضوية النقابات المهنية إلى جعل عضويتها إجبارية، وهو ما يتعارض مع الحريات النقابية والحق في التعددية. فالقوانين المصرية تحظر تعددية النقابات المهنية، وامتد هذا الحظر إلى دستور عام 2014، رغم منحه حق التعددية النقابية للنقابات العمالية.
ويجب العمل بطول نفس لإلغاء هذا الحظر، والسماح بتعددية النقابات المهنية أسوة بالعمالية. لأن استمرار ذلك ودوامه مخالف لمبادئ ديمقراطية العمل النقابي وللاتفاقات والمعاهدات الدولية، التي وقَّعت عليها الدولة المصرية ذاتها، والتي تمنح الحق في التعددية النقابية، ما يتيح أمام العضو اختيار النقابة المكافحة التي تعبر عن مصالحه.
سابعًا: الانتقاص من دور الجمعية العمومية
لا تنشأ النقابات المهنية بإرادة الجمعية العمومية، ولكن عبر إصدار قانون من المجلس التشريعي، كما أن أي تعديل على قوانينها لا بد أن يمر على المجلس التشريعي، وهو ما يُعد تعديًا على الجمعية العمومية للنقابات صاحبة الحق الأصيل في إعلان النقابة ووضع قوانينها وتعديلها.
وتخشى نقابات عديدة حاليًّا من المضي قدمًا في تعديل قوانينها التي تجاوزها الزمن وباتت معطلة، نتيجة لوجود أغلبية حكومية في مجلس النواب تميل إلى التشدد ومعاداة الحرية النقابية.
ثامنًا: فزاعة العمل السياسي
تمنع الدولة المصرية منذ يوليو 1952 بكل الطرق النقابات المهنية والعمالية من الاشتباك مع قضايا المجتمع، بذريعة أن النقابات يجب أن تهتم فقط بأوضاع أعضائها المعيشية، بينما السياسة لها مكان آخر. وفي عام 1993 قامت الدولة بإصدار القانون 100 الذي قنن هذا الحظر –عمل النقابات المهنية بالسياسة. هذا رغم حرص الدولة الدائم على دمج النقابات المهنية وقياداتها في تنظيمها السياسي الرسمي؛ سواء كان الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني أو مستقبل وطن حاليًّا.. وحرصها الدائم أيضًا على الهيمنة على تلك النقابات وشل فاعلياتها.
والحقيقة أن الفصل بين الاقتصادي والسياسي يتناقض مع مصالح العاملين بأجر على طول الخط، فالنقابات تتأثر بالسياسات والتشريعات القائمة، ويجب أن تكون لها رؤية نابعة من مصالح أعضائها في كل التشريعات التي تتعلق بها. وعندما يرفض الصيادلة، على سبيل المثال، قرار تحديد مساحة الصيدليات، فهم يرفضون السياسات التي تتوجه لتمركز رأس المال على حساب المشروع الصغير وذلك هو صميم دور النقابة. كما أن جمهور المهنيين جزء من المجتمع، ينشغل بالقضايا الكبرى والأحداث العربية والعالمية، ويحق له أن يملك رأي بخصوصها، ومن واجب النقابات أن تدافع عن حرية أعضائها في ممارسة نشاطهم النقابي والسياسي، وتتصدى لأي عراقيل أو اضطهاد يتعرضون له.
فالنقابات المهنية، كما العمالية، يحق لها، إلى جانب دورها في تحسين أوضاع أعضائها والدفاع عن مصالحهم الاقتصادية، المشاركة في العمل السياسي على أساس أنها تعكس مصالح أعضائها. وفي كل المجتمعات الديمقراطية تمارس النقابات العمل السياسي، وتشتبك مع كل القضايا العامة، وتشارك في صنع السياسة العامة بصفتها جزء من المجتمع المدني، بل أنها تنضم بصفتها المؤسسية كنقابات إلى عضوية الأحزاب السياسية. والمؤكد أن مشروع التغيير الديمقراطي ومقرطة المجتمع لا يمكن تحقيقه بمعزل عن النقابات –المهنية والعمالية- بصفتها جماعات ضغط تسعى لانتزاع حقوق ومطالب أعضائها.
وأخيرًا
المعضلات الثمانية هذه ليست كل شيء، هي مجرد محددات أولية، وهناك الكثير من التفاصيل والتفريعات لها. وربما تكون هناك معضلات أخرى جديرة بالتناول غابت عن الذكر هنا. باختصار ما سبق هو مجرد افتتاحية لنقاش أتمنى أن يتواصل بشكل جاد وفعّال عبر كل المساحات المتاحة اليوم، فربما تكون الأسئلة المتعلقة بالنقابات المهنية ومعضلاتها نقطة انطلاق جديرة بالبحث عن إجابات لها لدى كل المهمومين بقضية التغيير الديمقراطي في مصر حاليًا.