دراسات

أحمد زكريا الشلق

نظام الحكم في سنوات يوليو الأولى 1952-1956 - الجزء الأول

2025.02.09

مصدر الصورة : ويكبيديا

1) مصر بغير دستور ولا برلمان

 

تحاول هذه الدراسة أن تجيب على السؤال: لماذا لم يتألف في مصر برلمان يمارس التشريع والرقابة على الحكومة في هذه المرحلة من تاريخ ثورة 23 يوليو، أو بمعنى آخر كيف مضت الحياة السياسية في مصر بغير برلمان خلال هذه السنوات؟ قبل الإجابة على هذا السؤال أود أن أتنبه، وأنبه القارئ معي، إلى نقطتين: أولاهما أن موضوعية البحث العلمى التاريخي تقتضي منا ونحن نكتب في زماننا هذا تاريخًا لوقائع وأحداث زمن مضى، لا ينبغي أن ننظر إليها أو نفسرها، أو نحكم عليها، بمنظار زمننا أو في ضوء ما انتهينا إليه من تغيرات أو فكر جديد، وإنما يجب أن يتم ذلك بمعايير وظروف العصر الذي وقع فيه هذا الحدث أو اتخذ فيه هذا الإجراء أو ذاك، فلكل حدث تاريخي ظروفه ودواعيه وملابساته، التي تختلف بطبيعة الحال عمَّا نحن فيه الآن، والنقطة الثانية أن من الخطورة بمكان أن نقع في شرك إطلاق الأحكام العامة، بخفة، على الوقائع والأحداث -بل على المراحل التاريخية- دون أن ندرس ونحقق وندقق ونحيط بالظروف والملابسات.. وهذا يوفر لنا أكبر قدر من الموضوعية التاريخية.

في 24 مارس 1952 استصدرت وزارة أحمد نجيب الهلالي (أول مارس - 2 يوليو 1952) مرسومًا ملكيًّا بحل مجلس النواب الوفدي، وحددت يوم 18 مايو موعدًا لإجراء انتخابات مجلس جديد، حدد له يوم 31 من نفس الشهر للاجتماع، ولكن تطور الأحداث أطاح بالوزارة في 28 يونيو بعد أن كانت قد أجلت الانتخابات إلى أجل غير مسمى... وأعقبتها وزارة حسين سري (2- 22 يوليو 1952) التي لم تمكث في الحكم أكثر من عشرين يومًا، تفجرت خلالها أزمة الجيش بحل مجلس إدارة نادى الضباط الذي كان قد تم انتخابه برئاسة محمد نجيب تحديًا لإرادة القصر الملكي، وكان هذا الموضوع بمثابة إشارة البدء لثورة 23 يوليو، وقد استقال حسين سري في 20 يوليو عندما رفض الملك تعيين محمد نجيب وزيرًا للحربية، وتولى الوزارة نجيب الهلالي مرة أخرى في ظل توتر الأوضاع نتيجة حركة الضباط، غير أن تطور الأوضاع كان أكبر من الصراع داخل القصر، وأكبر من الصراعات الحزبية، وأكبر من أن تتدخل فيها سلطة الاحتلال، وهي القوى الثلاث التي تؤثر في اختيار الوزارات.. ولم تكَد تمضى ثماني عشرة ساعة على تشكيل الوزارة حتى كانت حركة الضباط قد قامت فعلًا في القاهرة، وأذاعت بيانها الأول في صباح 23 يوليو 1952[1].

والحاصل أنه منذ حل البرلمان الوفدي في 24 مارس 1952، في الوقت الذي كانت فيه أعمال مجلس الشيوخ موقوفة، أصبحت مصر بلا برلمان، منذ هذا التاريخ وحتى 22 يوليو 1957، وهو يوم افتتاح أول برلمان في عهد الثورة الذي سُميَّ "مجلس الأمة".. وبالرغم من أنه قد تم الإعلان عن الدستور الجديد في 16 يناير 1956، وتم الاستفتاء عليه في يونيو من نفس العام، فقد حدث فاصل زمني طويل نسبيًّا بين زمن الاستفتاء وتاريخ إجراء الانتخابات البرلمانية في مايو 1957 بسبب خوض مصر وقيادتها لمعركة تأميم قناة السويس، وما ترتب عليها من العدوان الثلاثى، الذي بدأت عملياته الفعلية في أواخر أكتوبر 1956، ولم تنتهِ آثاره المباشرة إلا بالانسحاب الإسرائيلي من سيناء وقطاع غزة في مارس 1957، حين فُتح باب الترشيح لإجراء الانتخابات في 18 مايو، والتي أجريت وأسفرت عن تشكيل برلمان من مجلس واحد هو مجلس الأمة، والذى بدأ جلساته في 22 يوليو 1957[2].

وعلى ذلك فسوف تقتصر هذه الدراسة على معالجة فترة الفراغ البرلمانى في مصر، منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952 وحتى يناير 1956 عندما صدر الدستور الجديد الذي حمل اسم العام الذي صدر فيه، وبموجبه تقرر إقامة حياة برلمانية جديدة، لنحاول الإجابة على السؤال: ما الذي حدث في مصر وحال دون استئناف الحياة النيابية خلال هذه الفترة، وكيف كانت تمارس شؤون الحكم أو السلطة -دون برلمان- ومن الذي كان يُصدر التشريعات أو يمارس السلطة التشريعية؟

ثمة تطورات متلاحقة منذ ليلة 23 يوليو 1952، شغلت قيادة حركة الضباط، تتعلق بالإمساك بمقاليد السلطة التي ذكرت في بيانها الأول أن الجيش كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور، الأمر الذي أعطى طمأنة للقوى السياسية القائمة بأن الثوار سوف يعملون في ظل دستور 1923، ثم بدأت القيادة الثورية بخلع الملك فاروق في 26 يوليو 1952، وفى اليوم التالى (27 يوليو 1952) اجتمعت "الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار" أول اجتماع لها بعد نجاح الحركة وجرى انتخاب جمال عبدالناصر رئيسًا لها بالإجماع، وفي الثاني من أغسطس 1952 صدر قرار عن مجلس الوزراء بإلغاء الرتب والألقاب المدنية.

وفى 2 أغسطس أيضًا تألف مجلس الوصاية المؤقتة على العرش، وانشغلت القيادة الجديدة بالأزمة الدستورية التي أحاطت بالمسألة، والتي تمثلت في عدم وجود برلمان يؤدي مجلس الوصاية القسم أمامه حتى يكتسب شرعية دستورية في تولى مسؤولية الحكم، وكان دستور 1923 ينص على أنه: "فى حالة وفاة الملك يجتمع البرلمان حتى لو كان منحلًّا، لكى يؤدي مجلس الوصاية القسم الدستوري أمامه".. وكان ثمة رأي يرى ضرورة التعجيل بدعوة البرلمان -الذي كانت أغلبيته وفديةً- إلى الانعقاد قياسًا على حالة الوفاة المذكورة في الدستور، لكن رأيًا آخر ذهب إلى إمكانية الاستغناء عن ذلك لأن الدستور لم ينص على حالة "التنازل عن العرش".. وانتهت الأزمة في النهاية بفتوى من مجلس الدولة تفيد بأنه ليس هناك مانع من إيجاد هيئة وصاية مؤقتة تنتقل إليها سلطات الملك الدستورية حتى تتقلد هيئة الوصاية الدائمة هذه السلطات[3].

ومنذ 31 يوليو 1952 بدأت القيادة الثورية معركتها مع الأحزاب التي كانت تتولى الحكم قبل 23 يوليو 1952، عندما أطلقت نداءها للأحزاب بتطهير نفسها، والذي أفضى إلى تداعيات وصراعات شغلت القيادة الثورية زمنًا اضطرت معه إلى حسم المشكلة بإصدار قرارها في 17 يناير 1953 بحل الأحزاب، وكانت هذه المعركة قد خلقت عداوات واستفزت خصومًا ضد القيادة الثورية التي أرادت بدورها أن تظهر في الشارع السياسى بتأليف "هيئة التحرير" كبديل ثوري لاحتواء الجماهير بعيدَا عن الأحزاب.

كذلك واجهت القيادة الثورية القوى التي استفزتها إجراءات الثوار، في 12 و13 أغسطس 1952 والتي قامت بنشر الفوضى وأخلت بالأمن وحرّكت مظاهرات قام بها عمال شركة الغزل والنسيج بكفر الدوار، حيث قاموا بإضراب كبير صحبته عمليات شغب أحرقت فيه مكاتب الإدارة وآليات الشركة، اضطرت معها قوات الجيش إلى التدخل للسيطرة على الأمور وقمع الفتنة، وشكلت محكمة عسكرية لمحاكمة المسؤولين، ثبت أثناءها أن العمليات كانت مدبرة بإحكام، وانتهت بالحكم بإعدام محمد خميس ومحمد البقري، كما حكمت على عدد آخر من رموز الحركة بالسجن والغرامة.

ويتصل بهذا الموضوع انشغال القيادة الثورية بتصفية عناصر الثورة المضادة من بعض قيادات النظام القديم، والتي رأت القيادة أنهم يتآمرون عليها ويتصلون بجهات أجنبية بهذا الشأن، فتشكلت "محكمة الثورة" في سبتمبر 1953 لمحاكمة بعض السياسيين القدامى الذين تبين اتصالهم بدول أجنبية، وانعقدت جلسات هذه المحكمة في مبنى قيادة الثورة بالجزيرة حيث بدأت أولى جلساتها في 26 سبتمبر 1953 برئاسة عبد اللطيف البغدادي وعضوية كل من أنور السادات وحسن إبراهيم[4].

كذلك انشغلت قيادة الثورة بقضية السلطة ومسؤولية الحكم.. ولمَّا كانت تأمل أن يسير رئيس الوزراء علي ماهر، الذي اختاره الضباط للسير معهم في إجراءاتهم الإصلاحية الجديدة، فإن ذلك لم يحدث، والذي حدث أنه خذلهم عندما لم يتجاوب مع أول مشروع إصلاحي قدموه، وهو قانون تحديد الملكية الزراعية، فلم يروا بدًّا من إقالته في 7 سبتمبر 1952، ليتولى قائدهم محمد نجيب رئاسة الوزارة بنفسه، فكانت وزارة نجيب الأولى (7 سبتمبر 1952-18 يونيو 1953) والتي أصدرت قانون الإصلاح الزراعى بعد يومين من تشكيلها، وكانت الوزارة تضم وزراء مدنيين، ولم يلبث عدد من أعضائها أن استقالوا لعدم رضائهم عن توجهات مجلس قيادة الثورة الذي كان يقف خلف محمد نجيب، الذي شكل وزارته الثانية (18 يونيو 1953-25 فبراير 1954) التي دخلها عدد من الضباط الأحرار: جمال عبد الناصر نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للداخلية، عبد اللطيف البغدادي وزيرًا للحربية والبحرية، صلاح سالم وزيرًا للإرشاد القومي ووزير دولة لشؤون السودان، ثم دخلها زكريا محيي الدين وزيرًا للداخلية في أكتوبر 1953، وكمال الدين حسين وزيرًا للشؤون الاجتماعية في يناير 1954[5].

وفى غضون الفترة من إبريل 1953 وحتى أكتوبر 1954 انشغلت القيادة الجديدة بمباحثات الجلاء العسكري البريطاني عن مصر وتوقيع اتفاقيته، وقبل بدايتها كانت القيادة تقود عمليات الكفاح المسلح ضد المعسكرات البريطانية في منطقة القناة والتي أرغمت السلطات البريطانية على بدء المباحثات التي بدأت بالفعل في 27 إبريل، وحاول الإنجليز المراوغة خلالها، ما أدى إلى تعطيلها لتبدأ عمليات تخريب واسعة في المعسكرات البريطانية، بينما كان الإنجليز يأملون أن يحدث انقلاب داخلى أو انقسام يضعف المقاومة، ما يفتح أمامهم أبواب المماطلة والتدخل، ولكن الجبهة الداخلية ظلت متماسكة حتى استؤنفت المفاوضات التي تولاها جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادي وصلاح سالم ومحمود فوزي مع الجانب البريطاني، الذي ترأسه السفير البريطاني السير رالف إستفينسون حتى وقع الجانبان اتفاق الجلاء بالأحرف الأولى في 27 يوليو 1954، ثم وقع الاتفاق النهائى في 19 أكتوبر 1954، والذي ينهي الاحتلال وينظم عمليات جلاء قواته عن أرض الوطن، وتم الجلاء بالفعل في 18 يونيو 1956 عندما رفع عبد الناصر العلم المصري على مبنى البحرية في بورسعيد وهو آخر مبنى جلت عنه القوات البريطانية[6].

ومرت قيادة الثورة بسلسلة من المتاعب والصراعات العلنية والخفية مع جماعة الإخوان المسلمين منذ سبتمبر 1952، عندما كان محمد نجيب يشكل وزارته الأولى في سبتمبر 1952، حتى بلغت ذروتها بمحاولة اغتيال عبد الناصر في ميدان المنشية في 26 أكتوبر 1954. وكان نجيب قد طلب من قيادة الإخوان ترشيح ثلاثة من شخصيات الإخوان ليشاركوا في وزارته، فرشحوا أشخاصًا لم يقبل بهم مجلس قيادة الثورة، فبدءوا يتربصون بمجلس قيادة الثورة الذي حاول إرضاءهم، بعدم تطبيق قانون حل الأحزاب عليهم، وتركهم يمارسون نشاطهم، لكنهم استمروا يقومون بتدابير اعتبرتها القيادة توجهًا عدائيًّا ضدها، تضمنت محاولاتهم اختراق الجيش والبوليس، والانتشار في صفوف الطلبة، والاتصال بالسفارة البريطانية، وهي أمور أثارت حفيظة مجلس قيادة الثورة، حتى جاءت مناسبة احتفال الجامعة بذكرى شهداء القناة في 12 يناير 1954 فرآها الإخوان فرصة لإظهار قوتهم واستغلال المناسبة استغلالًا سياسيًّا لصالحهم، وليثبتوا للمسؤولين أنهم قوة وأن زمام الجامعة في أيديهم، فاستخدمت عناصرهم العصي والكرابيج وبعض الأسلحة النارية، ما دعا قيادة الثورة إلى أن تصدر قرارًا بحل جماعة الإخوان المسلمين في 14 يناير 1954: "لتآمرهم مع السفارة البريطانية على قلب نظام الحكم، وتطبيق أمر مجلس قيادة الثورة السابق صدوره بحل الأحزاب عليهم...". واعتقلت قيادة الثورة عددًا من زعمائهم على رأسهم المرشد العام الأستاذ حسين الهضيبي، وتم التحقيق معهم وأفرج عنهم تدريجيًّا، ومع ذلك استمر العداء قائمًا حتى كانت محاولاتهم اغتيال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية في 26 أكتوبر 1954 ونجاته، وما أعقب ذلك من القبض على أعداد كبيرة من أعضاء الجهاز السري للإخوان ومحاكمتهم في نوفمبر 1954 في محكمة عرفت بـ"محكمة الشعب"[7].

وخلال هذه السنوات تفجرت الأزمة التي حدثت بسبب الصراع على السلطة داخل مجلس قيادة الثورة ذاته، والتي عرفت تاريخيًّا بأزمة مارس 1954، والتي لم يُقدر لها أن تنتهي إلا في نوفمبر 1954 بعزل محمد نجيب من رئاسة الجمهورية ومن الحياة السياسية كلها، وكانت الأزمة قد حدثت بينه ومعه بعض مؤيديه، وبين بقية أعضاء مجلس قيادة الثورة وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، بشأن أسلوب نجيب في الحكم، وإن صُورت على أنها بين الحكم الدكتاتوري والحكم الديمقراطي، وقد تبادل عبد الناصر ونجيب رئاسة الوزارة خلالها، واستعان كلاهما بضباط من مجلس قيادة الثورة في مناصب وزارية جديدة، بدا معها أن القيادة الثورية حزمت أمرها ورأت أن تمسك بزمام السلطة وممارسة شؤون الحكم جميعًا. والمعروف أن عبد الناصر خلال الأزمة تولى رئاسة الوزراء لعدة أيام فيما عرف بوزارة عبد الناصر الأولى (25 فبراير- 8 مارس 1954) حتى عدل نجيب عن استقالته وعاد إلى رئاسة الوزارة للمرة الثالثة (8 مارس-17 إبريل 1954 )، ليتولى عبد الناصر تأليف وزارتين متعاقبتين (من 17 إبريل 1954-6 مارس 1958)، بعد أن انجلت الأزمة لصالح عبد الناصر وبقية أعضاء مجلس قيادة الثورة.. وكان محمد نجيب قد تولى رئاسة الجمهورية منذ 18 يونيو 1953 عقب صدور قرار إلغاء الملكية وإعلان قيام الجمهورية، واستمر في منصبه رئيسًا للجمهورية، حتى أقيل من سلطاته في نوفمبر 1954 لينفرد عبد الناصر بالحكم[8].

وفيما يتعلق بقضية تولى الضباط السلطة، فالملاحظ أن معظم الدراسات التي تناولت هذه القضية تشير إلى أن قادة الثورة لم يكن لديهم، في البداية، تصور محدد ومعلن للنظام السياسي الذي ينشدونه، كان لديهم فكر ثوري، وإن لم يكن لديهم نظرية للثورة.. لقد كانوا يحرصون على تصوير دورهم بأنهم مجرد طليعة ثورية تفجر طاقات الشعب ليتولى إدارة شؤونه بنفسه من خلال المؤسسات القائمة، كما ذكر عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة"، كما أن السلوك المعلن للقيادات الثورية يفيد بأنهم يتصورون إمكانية إصلاح الوضع من خلال المؤسسات القائمة قبيل قيامهم بالثورة، ومن هنا كانوا يؤكدون على احترامهم لدستور 1923، وإجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها أو في موعد أقصاه فبراير 1953، كما ذكر محمد نجيب لمراسلي الصحف الأجنبية في 11 أغسطس 1952.. في الوقت الذي أكد فيه أن الجيش لن يسمح لأحد بالاعتداء على الدستور[9].

ويمكن اعتبار أن هذا الاتجاه يتسق مع مطالبة الثورة للأحزاب السياسية بتطهير نفسها، إذا كان نداء التطهير مقصودًا بحق، ما قد يعني إمكانية الاحتفاظ بصيغة النظام السياسي القديم، وإن كان هذا لا يعني تجاهل مساوئه، وإنما يعني أن القيادة الجديدة كانت تتصور إمكانية إصلاح الأمور وبدء صفحة جديدة.

إلا أن التجربة سرعان ما أثبتت استحالة تحقيق أهداف الثورة وتصوراتها لشكل المجتمع الجديد مع استمرار هذا النظام، فرأت القيادة أن زعماء الأحزاب لم يقابلوا دعوة التطهير بجدية من وجهة نظرها، كما كان موقف زعماء الأحزاب من قانون الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية مخيبًا لآمال الثوار، الذين رأوا أن قادة الأحزاب أغفلوا القانون وهم يضعون برامجها الجديدة، كما لاحظت القيادة الثورية أن رئيس الوزراء علي ماهر يشجعهم على التكتل لإحباط القانون.. ودخل في روع القيادة أن مؤسسات النظام القديم يمكن أن تعارض مبادئ الثورة ومن ثم لا يمكن أن يوكل إليها تحقيق هذه المبادئ.. لذلك بدأت القيادة الثورية تحسم موقفها من النظام القديم برمته، فأعلنت سقوط دستور عام 1923 في 10 ديسمبر 1952، كما هو معروف، ثم أصدرت قرار حل الأحزاب السياسية في 17 يناير 1953.

البقية في المقال القادم...


1- يونان لبيب رزق: تاريخ الوزارات المصرية، مركز الدراسات السياسية بالأهرام، القاهرة، 1975،ص 522- 527.

2- عزة وهبي: السلطة التشريعية في النظام السياسي المصري بعد يوليو 1952، دراسة تحليلية في تجربة مجلس الأمة (1957-1958)، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، القاهرة 1993، ص 53.

3- محمد جابر الزهيري: التطور الدستوري في مصر (1952-1971) رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة عين شمس 2016، وراجع تفاصيل حول الأزمة في كتاب عمرو الشلقاني: ازدهار النخبة القانونية المصرية (1805-2005) دار الشروق 2013، ص 277-281.

4- راجع عبدالرحمن الرافعي: ثورة 23 يوليو 1952، تاريخنا القومي في سبع سنوات (1952-1959)، ط 1، مكتبة النهضة المصرية 1959، ص 43-44، 94-103.

5- فؤاد كرم (جمع وترتيب)، النظارات والوزارات المصرية، الجزء الأول، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، 1969، ص 259 وما بعدها.

6- عبدالرحمن الرافعي: المرجع السابق، ص 183-188.

7- حول هذه التطورات، راجع عبدالرحمن الرافعي، المرجع السابق، ص 130-135.

8- فؤاد كرم: النظارات والوزارات المصرية، ص 529 وما بعدها.

9- وحيد رأفت: فصول من ثورة 23 يوليو، دار الشروق، القاهرة 1978، ص 35.