عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

دراسات

أحمد زكريا الشلق

هل أضاعت ثورة يوليو السودان؟ وما دور صلاح سالم؟ - الجزء الثاني

2025.05.11

مصدر الصورة : ويكبيديا

هل أضاعت ثورة يوليو السودان؟ وما دور صلاح سالم؟ - الجزء الثاني

 

فيما يتعلق بدور صلاح سالم في المسألة السودانية، وهي المسألة التي ركزت عليها مذكراته، فكان من المعروف أن السودان هى الصخرة التي كانت تتحطم عليها المفاوضات المصرية/البريطانية، وكان وزير خارجية مصر في حكومة الوفد الأخيرة الدكتور محمد صلاح الدين قد طرح فكرة قبول استفتاء الشعب السوداني في تقرير مصيره، إذا ما خرج الإنجليز من السودان قبل إجرائه، وأن صلاح الدين لقي معارضة من بعض زملائه في الوزارة الوفدية، وبالرغم من هذا، عبَّر عن ذلك مرة أخرى في اجتماعات هيئة الأمم المتحدة في 23 يناير 1952 مفاجئًا الإنجليز ومتحديًا إياهم، غير أن إقالة الحكومة الوفدية إثر حريق القاهرة حال دون حسم المسألة، التي استمرت معلقة حتى قيام ثورة يوليو 1952.

وبات واضحًا أمام الضباط أن مبدأ الاستفتاء الذي طرحه الدكتور محمد صلاح الدين جدير بالاهتمام. ولمَّا كان من مبادئ ثورتهم القضاء على الاستعمار، فقد شرعوا يمهدون لبدء مفاوضات جديدة مع الإنجليز، مستفيدين من تجارب مفاوضات صدقى/بيڨين عام 1946، ومن مباحثات صلاح الدين/بيڨين 51-1952. ويذكر الدكتور وحيد رأفت في مذكراته[1] أنه خلافًا لوجهة النظر السابقة بشأن ارتباط القضية المصرية بالسودان، وافق الضباط على الفصل بين قضية السودان وقضية الجلاء عن مصر، وبدءوا بقضية السودان، محررين أنفسهم من قيود الماضي ونظرياته المستمدة من معطيات التاريخ وأحكام القانون الدولي، كحقوق السيادة والتملك والفتح، ولم يُلزِموا أنفسهم بشعارات الحكومات السابقة المتعلقة بوحدة مصر والسودان تحت التاج المشترك، خاصة وأنهم ثاروا على صاحب التاج وأسقطوا أسرته عن عرش مصر والسودان، فقد كان يعنيهم بالدرجة الأولى إجلاء المستعمر البريطاني عن جنوب الوادي تمهيدًا لإقصائه عن شمال الوادي وهو مصر، وقد عبَّر عبدالناصر عن ذلك بقوله: "إنه لا يخشى السودان الحر، وإنما يخشى السودان المحتل". وفوجئ المفاوض البريطاني بالتكتيك الجديد من جانب الحكام الجدد، ولم يكن في وسع حكومته أن تماطل وأن تراوغ وهي التي أعلنت مرارًا من قبل أن هدفها هو صالح السودانيين والاعتراف لهم بحق تقرير المصير وإعدادهم للاستقلال بعد فترة انتقال محددة. وها هو المفاوض المصري يبارك نفس الأهداف بعزم وتصميم صادق، ضاربًا المثل في التضحية بحقوق تاريخية وقانونية، لم يكن المفاوض المصري -قبل الثورة- يطاوعه شعوره على مثل هذا التفريط.

وهكذا، تم التفاهم بين قادة الثورة والإنجليز لأول مرة على أن السيادة على السودان ليست لمصر، ولا للتاج المصري، وإنما للسودانيين أنفسهم وحدهم، الذين يقررون مصير بلادهم بعد فترة انتقال معيَّنة يتمكنون فيها من الاضطلاع بمسؤولياتهم. وأصبح من السهل ترجمة هذه الأسس إلى صيغة مشروع اتفاق، بعد أن تباحثت الأحزاب السودانية مع وفد مصري برئاسة كل من محمد نجيب وعلي ماهر وعبدالرزاق السنهوري وصلاح سالم وحسين ذو الفقار، في أكتوبر 1952 ووصلوا إلى اتفاق على قبول نتيجة الاستفتاء بشأن تقرير المصير، وتوصلوا أيضًا إلى توحيد الأحزاب السودانية -عدا حزب الأمة- ومن هنا ظهر "الحزب الوطني الاتحادي" واختير "إسماعيل الأزهري" رئيسًا ومحمد نور الدين نائبًا له، ونص دستور الحزب على جلاء الإنجليز وقيام اتحاد مع مصر بعد تقرير المصير. وأعلن حزب الأمة موافقته على نتيجة الاستفتاء أيًّا كانت. وسافر صلاح سالم إلى السودان في نوفمبر 1952، وشكَّل محمد نجيب وفدًا مصريًّا للتفاوض مع وفد بريطاني يترأسه رالف ستيفنسون وكانت تجربة سياسية جديدة على الضباط لم يسبق لهم أن خبروها -كما ذكر صلاح سالم- الذي سافر إلى السودان مرة أخرى حيث اجتمع مع ممثلي الأحزاب السودانية في 10 يناير 1953 واتفقوا على توقيع وثيقة تؤيد وجهة نظر المفاوض المصري فيما يتعلق بموضوعات جنوب السودان، واختصاصات الحاكم العام، وسودنة الوظائف، وجلاء الجيوش الأجنبية.

ويذكر "أحمد حمروش" أنه عندما وُضِعَت هذه الوثيقة أمام المفاوضين البريطانيين سدَّت عليهم سبل المناورة، وأمكن التوصل إلى اتفاقية السودان في 12 فبراير 1953. وهكذا، لم تستمر المفاوضات لأكثر من ثلاثة شهور وانتهت مشكلة السودان بأمل كبير في الاتحاد مع مصر. ورأى أن موقف حركة الجيش كان سليمًا تمامًا في وجهة النظر التي تقبل الاستفتاء في حق تقرير المصير، وترفض إكراه شعب السودان على قبول أمر لم يختَره بإرادته الحرة.. وأنه كان لمحمد نجيب دور في تبنِّي هذه الفكرة وإقناع زملائه بها لصلاته الوثيقة بالسودان.[2]

وقَّع نجيب الاتفاقية مع ستيفنسون، وقد نصَّت على تحديد فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات يتم فيها تصفية الإدارة الثنائية (الأنجلو/مصرية)، يكون للحاكم العام خلالها السلطة الدستورية العليا، تعاونه لجنة خماسية تضم سوانييْن وعضوًا لكل من مصر وبريطانيا وباكستان، (وكان حسين ذو الفقار صبري هو العضو المصري)، كما تقرر تأليف جمعية تأسيسية منتخبة لتقرير مصير السودان على أساس الارتباط بمصر أو الاستقلال، وأن تنسحب القوات المصرية والبريطانية من السودان فور إصدار قرار البرلمان السوداني رغبته في الشروع في اتخاذ التدابير بشأن تقرير المصير، كما شُكِّلَت لجنة لسودنة الوظائف خلال فترة الانتقال. وكان توقيع الاتفاقية انتصارًا لشعب السودان.. وأملًا لشعب مصر في الاتحاد معه.

وأوفد مجلس قيادة الثورة صلاح سالم في زيارة لجنوب السودان، كما زار المديرية الاستوائية، بالإضافة إلى زيارته لمنطقة قبائل الدنكا التي استقبلته بحفاوة رقصوا فيها رقصة الحرب، وردَّ صلاح التحية بمشاركتهم في رقصهم، ونشرت الصحف البريطانية صورته مُطلِقةً عليه لقب "الصاغ الراقص"، وتفيد المصادر بأن صلاح كان يقدم المساعدات والهبات المالية إلى الزعماء السياسيين ليضمن ولاءهم لمصر، وأنه بأسلوبه حقق نجاحًا لا بأس به، كان يمهد الطريق فعلًا لوحدة النيل.

المهم أنه أُجريت أول انتخابات في السودان في ظل الاتفاقية، وفاز الحزب الوطني الاتحادي بأغلبية ساحقة، وتولى الأزهري رئاسة أول وزارة سودانية في 9 يناير 1954، وكان الحزب يضم أغلبية من أعضاء ارتبطوا في نضالهم الطويل بالشعب المصري، وكان اشتراكهم في الحزب على أساس الاتحاد مع مصر. ولكن الأمور لم تمضِ في طريقها نحو هذا الهدف، فقد ترك مجلس قيادة الثورة الأمر لصلاح سالم يتصرف فيه وحده، دون مناقشة جماعية مشتركة أو متابعة مستمرة، وتصرَّف صلاح مع بعض الزعماء السودانيين بأسلوب الضباط وليس بأسلوب السياسيين، وبدأت الهمسات في السودان تتردد بشأن الخلافات داخل مجلس قيادة الثورة. ويبدو أن صلاح خاض فيها بصراحته المعهودة، فانعكس ذلك خشية وترددًا من بعض السياسيين السودانيين. ثم فوجئت الجماهير السودانية باستقالة، ثم إقالة محمد نجيب خلال أزمة فبراير ومارس 1954، فبدأت تتوجس خيفة من مجلس قيادة الثورة، وقامت المظاهرات تهتف لنجيب في بعض المدن السودانية، بل إن نجيب عندما زار السودان مع صلاح سالم في أول مارس 1954، قبل عزله نهائيًّا، ووُجِها بمظاهرات حاشدة رتبها حزب الأمة حاصرت المطار تهتف "لا مصري ولا بريطاني.. السودان للسوداني"، وعندما تم عزل نجيب شرعت القوى السودانية المعادية للاتحاد مع مصر تعبِّر عن نفسها تعبيرًا صريحًا.. بل إن الأزهري نفسه تحوَّل عن رأيه في الاتحاد مدَّعيًا أنه كان يقصد بالاتحاد "اتحاد أقاليم وقبائل السودان". ورفض هدية من الأسلحة الحديثة عرضتها مصر، ورفض كذلك إرسال ضباط سودانيين للتدريب في مصر، كما سحب تراخيص الصحف الاتحادية.. إلخ.

وقد روى صلاح سالم في مذكراته خلفيات وأساليب هذا التحول من جانب الأزهري والحزب الوطني الاتحادي، فضلًا عن رحلة الأزهري إلى بريطانيا وتأثيرها عليه. وبطبيعة الحال لم يفصح صلاح -أو لعله لم يقتنع- بأنه فقد بعض شعبيته في السودان لموقفه الحاد من محمد نجيب خلال أزمة فبراير ومارس 1954، وأنه دخل في صراع مع الأزهري عندما أثار ضده فريقًا من الحزب الوطني الاتحادي بزعامة محمد نور الدين نائب رئيس الحزب، وبات الصراع مكشوفًا، حتى خطب الأزهري في الجماهير السودانية وصاح مستنكرًا: "هل يرضيكم أن يحكمنا صلاح سالم والعسكريون في مصر؟ فتصرخ الجماهير: لا... لا". ومن الأساليب غير الموفقة التي اتبعها صلاح محاولة التحالف مع الشيوعيين السودانيين في معركته ضد الأزهري. تلك التي حاول فيها الاستعانة في أول سبتمبر 1955 ببعض العناصر الشيوعية المصرية من الذين كانوا على صلة بالشيوعيين السودانيين، وحاول تجنيدهم للسفر إلى السودان لهذا الغرض لإقناع رفقائهم هناك بتأييد القاهرة وسياسة الاتحاد مع مصر، وكان صلاح الدين لا يدرك من المناقشات العلنية الدائرة في الخرطوم أن الشيوعيين السودانيين كانوا أكثر تأييدًا لاستقلال السودان من المهدي والأزهري! غير أن قبول مجلس قيادة الثورة استقالة صلاح وَأَدَت هذه المحاولة التي لم يكتب عنها صلاح شيئًا في مذكراته.

وقد روى البغدادي في مذكراته في فصل خاص كبير عنوانه: استقالة صلاح سالم وأسبابها[3] قصة استقالة صلاح سالم من مجلس قيادة الثورة ومن وزارة الإرشاد القومي ووزارة الدولة لشؤون السودان، منذ أن طلب صلاح انعقاد مجلس قيادة الثورة لهذا الأمر في 25 أغسطس 1955، وهي الفترة التي لم يشأ صلاح أن يرويها في مذكراته لتوقفه عن كتابتها أو نشرها فجأة، ليعرض على المجلس ما انتهى إليه أمر مسألة الاتحاد مع السودان. وكان المجلس قد استدعى كلًّا من اللواء صالح حرب وزير الحربية الأسبق، والأستاذ خليل إبراهيم، فحضرا وقاما بشرح الموقف موضحين أن قيام مصر بدعم عدد من السياسيين السودانيين كان له أثر سىئ في أغلبية أفراد الشعب السوداني، وأن الأمل في اتحاد مصر مع السودان قد أصبح ضعيفًا جدًّا، وليس هناك حل سوى إعلان استقلال السودان.

وقدَّم صلاح استقالته بعد أن اتفق مع عبدالناصر على قبول استقالته من الوزارة على أن يستمر عضوًا بمجلس قيادة الثورة، وطلب صلاح من المجلس أن يعلن موافقته على استقلال السودان فورًا، بعد أن أعطى صورة سوداء عمَّا يجري في السودان وخاصة فيما يتعلق بثورة الجنوب فيه، وذكر أن الكل هناك أصبحوا مجمعين على الاستقلال دون الاتحاد مع مصر. وكان واضحًا أن أغلبية أعضاء المجلس توافق على قبول استقالة صلاح، كما أبدى عبدالناصر رغبته في أن يتولى بنفسه مسألة السودان معلقًا بقوله: "رغم أنها مسألة فاشلة". وفاجأ صلاح المجلس بأن هناك سياسة تدعو إلى استقلال السودان وأن جمال عبدالناصر يؤيدها، واتهم كلًّا من حسين ذو الفقار صبري، عضو لجنة الحاكم العام بالسودان، والقائمقام عبدالفتاح حسن نائب وزير الدولة لشؤون السودان، والقائمقام حمدي عبيد رئيس أركان القوات العسكرية بالسودان، اتهمهم بالسير في هذا الاتجاه، فدعا المجلس حسين صبري وعبدالفتاح حسن لسماع شهادتيهما، وبالفعل حضرا واستعرضا الأزمة وتطورها وانتهيا إلى أنه لا أمل هناك يُرجى في الاتحاد، وأن السودانيين سيطالبون كلًّا من مصر وإنجلترا بإعلان استقلال السودان بعد يوم 21 نوفمبر، وهو الموعد المحدد لجلاء الجيشين المصري والإنجليزي عن السودان.

ولم يلبث مجلس قيادة الثورة أن عدل عن موقفه تجاه استقالة صلاح ورأى أن يأخذ إجازة، فاعترض صلاح بحجة أن الإجازة تعني الاستقالة وظلَّ مصِّرًّا على موقفه وأن استقالته مرتبطة بإعلان استقلال السودان فورًا، واتهم أنور السادات وعلي صبري بأنهما ينفذان سياسة الأمريكيين والإنجليز في هدم صلاح وإبعاده عن السودان، بعد أن اقترح إشراك روسيا في لجنة تقرير المصير، وقدَّم استقالته مرة ثانية والتي نوَّه فيها عن اتهامه لبعض الأشخاص بالعمل ضد اتحاد مصر والسودان، وإن لم يذكر أسماءهم، فغضب عبدالناصر موضحًا أن المسألة أصبحت تمثل اتهامًا لبعض أعضاء المجلس بالخيانة، وكذلك لمدير مكتبه (علي صبري) وأضاف أن معنى ذلك أن عبدالناصر نفسه ينفذ سياسة الأمريكيين والإنجليز (27 أغسطس 1955). وأخيرًا وإزاء غضب أعضاء المجلس من اتهام صلاح إياهم قرروا قبول استقالته في سبتمبر 1955 لأن التعاون معه أصبح غير ممكن، وأن في بقائه ضررًا، ووافق المجلس على صرف معاش وزير له، وأبلغه البغدادي بذلك وأوصاه بأن يتحكم في نفسه ويتحفظ في كلامه مع زواره، فردَّ صلاح بأنهم لا يمكنهم حرمانه من حق الدفاع عن نفسه، وأنه لا يقدر على السكوت، وأن من المستحسن إبعاد الناس عنه.

لقد بات واضحًا أن مجلس قيادة الثورة تأخر كثيرًا في منح موضوع السودان الاهتمام الجدير به، وأنه بدأ يناقش ما انتهت إليه الأمور بعد فوات الأوان، فقد جرت مياه كثيرة في النهر، كانت في صالح استقلال السودان وعدم الارتباط بمصر بأي درجة من درجات الاتحاد، الأمر الذي بدد الأمل في ذلك خلال الفترة الانتقالية، خاصة بعد أن أخذت إجراءات السودنة مداها. وقد أبلغت حكومة إسماعيل الأزهري حكومتي مصر وبريطانيا رغبة الجمعية التأسيسية ومطالبتها بسحب جيش الاحتلال لإجراء الاستفتاء في جو حُر محايد، فسحبت مصر وبريطانيا جيشيهما، وتركت مصر كل الأسلحة الثقيلة التي كانت تخص جيشها للسودان، وتم الجلاء فعلًا في نوفمبر 1955. ووجدت الحكومة السودانية أن الأمر لا يحتاج إلى إجراء استفتاء بشأن شكل الحكم بعد اتفاق كل الأطراف الحاكمة على معارضة الاتحاد، وأعلنت قيام الجمهورية السودانية في 19 ديسمبر 1955. ولم يجد مجلس قيادة الثورة في مصر داعيًا للمطالبة بإتمام الاستفتاء، فأعلن استقلال السودان رسميًّا في أول يناير 1956، وذهب صلاح سالم إلى هناك مدعوًّا كشخص عادي لحضور الاحتفال، ورفض الأزهري اقتراحًا بقبوله كأول سفير لمصر بالسودان.

***

لقد أوضح صلاح سالم في نقدٍ مهم أنه ما من بشر يجدُّ ويعمل إلا وكان عمله سلسلة متصلة من الخطأ والصواب، وأن أضخم خطأ ارتكبناه أننا ارتضينا أن تنص اتفاقية فبراير 1953 التي وقَّعناها مع الإنجليز على تخيير السودان عند تقرير مصيره بين الاستقلال التام أو الاتحاد مع مصر والارتباط بها، وهذا الخطأ قاد إلى كثير من العُقد النفسية لكل من آمنوا بالاتحاد بين البلدين من أهل السودان، وكان من العسير أن نتبيَّن هذا الخطأ عند وضع الاتفاقية دون أن نطَّلع على الغيب.. لقد وُضِعَت كلمة الاتحاد مضادة لكلمة الاستقلال عند تقرير المصير، ذلك أن كلمة الاستقلال التام هى أمنية كل مواطن وتحمل كل معاني الحرية والكرامة، فوضع كلمتي "اتحاد" و"استقلال" بهذا الشكل حمل على الاعتقاد بأنهما متضادتان، وبهذا مكَّنا بريطانيا وأعطيناها الفرصة أن تقف موقف المدافع عن استقلال الأمة السودانية، بينما هي في الواقع ترمي إلى تفكيك أوصال الوادي تحت ستار كلمة الاستقلال ليسهل عليها السيطرة على السودان وبقاء احتلالها ونفوذها رغم حصوله على كلمة "الاستقلال". الذي سيكون استقلالًا زائفًا كالذي حصلت عليه مصر عام 1922 عندما أُعلِنَ استقلالها وتُوِّجَ فؤاد ملكًا عليها. وبدأت تظهر كلمة "الاستقلال" بعد أن خرج الإنجليز من السودان لتقف أمام كلمة غامضة هى كلمة "الاتحاد".. ثم بُذِلَت جهود لتلويث هذه الكلمة، فقالت الدعاية إن الاتحاد هو نوع جديد من أنواع السيطرة على السودان، واستعمار مصر له!

وينبغي الإشارة إلى أن المذكرات ألقت أضواء مهمة بشأن سلوك الإنجليز وسياستهم تجاه فصل جنوب السودان عن شماله، فيذكر صلاح سالم أنه قبل استقالته من منصبيه الوزاريين بنحو أسبوعين حدثت ثورة دامية في جنوب السودان نتيجة سلوك الإنجليز في اتجاه فصل الجنوب عن الشمال، وبدلًا من أن يتصدى الشماليون لمؤامرات الإنجليز، شنت الصحافة والإذاعة السودانية حملة ضد صلاح سالم، خاصة من الملتفين حول الرئيس إسماعيل الأزهري من زعماء الحزب الوطني الاتحادي، واتهموه بتحريض الجنوب على الثورة وإغراء رجاله بالمناداة بفصل الجنوب عن الشمال. وقد دافع صلاح سالم عن مواقفه، وذكر أنه أول مصري منذ عام 1924 يتعرف إلى الجنوبيين ويزور قبائلهم ويحاول إقناعهم بضرورة التفاهم مع الشماليين لتوحيد السودان. كما فضح سياسة الإنجليز كحكام إداريين للجنوب وكيف طبَّقوا سياسة فصله عن الشمال، يعاونهم خمس مئة إرسالية تبشيرية أجنبية تشرف على تلقين النشء العلم والدين وهدفها تنفيذ سياسة الحاكم العام الإنجليزى ومعاونيه.

ومن المهم كذلك أن نذكر أن المذكرات تتضمن وثيقة مهمة لنص مشروع "اتحاد بين جمهوريتي وادي النيل" الذي أعده صلاح سالم بعد اقتراح من إسماعيل الأزهري، أجرى على إثره مشاورات مع بعض خبراء القانون في هذا الشأن، ونوقش في جلسة خاصة لمجلس قيادة الثورة بأكمله، في منزل جمال عبدالناصر، في الأسبوع الأول من أغسطس 1954، وكان هذا المشروع يجعل من السودان دولة كاملة السيادة، لها برلمانها وجيشها ورئيسها ومجلس وزرائها، شأنها شأن مصر تمامًا، على أن يكون للدولتين كيان اتحادي، ويتم تبادل الرئاسة العليا بين الدولتين، فيتولى الرئيس السوداني رئاسة الدولة الاتحادية مرة، ويتولاها الرئيس المصري مرة أخرى.. (نص المشروع بالحلقة 21 من المذكرات)، وقد ضاع هذا المشروع في خضم انهيار وتمزق الحزب الوطني الاتحادي والصراع حول المناصب والسلطات واشتداد الصراع مع المعارضة.

وبمناسبة الفكرة الاتحادية عرض صلاح سالم كذلك المشروع الاتحادي الذي أعده الرئيس السوري شكري القوَّتلي في نفس الفترة تقريبًا (أواسط عام 1954) حين أقام بالإسكندرية قبل انتقاله إلى دمشق ليتولى منصبه رئيسًا للجمهورية، والذي كان يطالب فيه القوَّتلي بالاتحاد الكامل بين الدول العربية، وكان يأمل أن تتبنَّى مصر هذا المشروع وتدفعه إلى التحقيق. ومن اللافت للنظر أن القوَّتلي وهو يتحدث مع صلاح سالم ويحدِّثه عن الفتن والمؤامرات التي تحيط بالعالم العربي، تحدث عن حرب فلسطين حيث كان وقتها رئيسًا للجمهورية في دمشق، وكيف أنه أمر بإرسال نجدة وإمدادات لتساهم في إنقاذ القوات المصرية المحاصَرة في الفالوجة، وأن هذه الإمدادات عندما وصلت الأردن، لم تسمح لها السلطات الأردنية بعبور أراضيها لتصل إلى الخليل المواجهة للفالوجة!

 وأخيرًا يتبقى لنا أن نناقش رأي بعض الكتَّاب والمؤرخين في شأن مسؤولية صلاح سالم ومجلس قيادة ثورة يوليو في مسألة "ضياع السودان" التي دأب خصوم ونقاد الثورة على ترديدها، كما لو كان السودان سيظل مع مصر في دولة واحدة لولا قيام ثورة يوليو، وهو رأي لا نعتقد بصوابه، إذا ما أخذنا في اعتبارنا عددًا من الحقائق لا سبيل إلى تجاهلها يمكن رصدها على النحو التالى:

أولًا: أن فصيلًا كبيرًا من الحركة الوطنية في السودان كان ينظر إلى مصر وبريطانيا كدولتين تستعمران بلدهم، خاصة منذ اتفاقية الحكم الثنائي عام 1899، والدارس لتاريخ السودان المعاصر لا يخطئ في الخروج بهذه النتيجة، ومن ثم فإن هذه الحركة كانت تنتظر منحها حق تقرير المصير، الذي يعني الانفكاك من سلطة الدولتين، وتحقيق الاستقلال. ومن هنا "هادنت" الحركة الوطنية في السودان قيادة الثورة المصرية أملًا في تطبيق حق تقرير المصير. لقد كان السودانيون يطالبون باستعادة السيادة على السودان للسودانيين أنفسهم، ومع أنهم كانوا متفقين على الاستقلال كهدف أخير، فإن بعض قطاعات الرأي العام السوداني كانت تفضل تحقيق هذا الهدف بالتعاون مع بريطانيا، بينما فضَّل آخرون التعاون مع مصر.

ثانيًا: إن استقراء تاريخ وزارة الوفد الأخيرة (1950-1951) والتي تباكت على "إضاعة" ثورة يوليو للسودان، سيوضح أن هذه الوزارة طرحت فكرة منح السودان حق تقرير المصير، حتى وإن اشترطت خروج الإنجليز من السودان قبل إجراء الاستفتاء على ذلك، وحتى لو عارض بعض أعضاء الوزارة ذلك، فالثابت أن الدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية طرح هذه الفكرة على مجلس الوزراء، وطرحها كذلك على اجتماعات هيئة الأمم المتحدة في يناير 1952 وهو الأمر الذي كان بسبيله إلى التنفيذ لو لم تستقل الوزارة إثر حريق القاهرة.

ثالثًا: إن الخلافات السياسية بين فصائل الحركة الوطنية في السودان انعكس بشكل خطير على علاقاتهم مع قيادة ثورة يوليو، وهو ما أوضحه صلاح سالم بالتفصيل، ذلك أن معظم قيادات هذه الفصائل كانت تزايد بعضها على بعض بشعار الاستقلال عن بريطانيا ومصر جميعًا. كذلك فإن السودانيين بشكل عام كانوا ينظرون إلى دعاة وحدة وادي النيل نظرة مختلفة عبَّر عنها "مدثر عبدالرحيم" بقوله: "إن الضعف الأساسى في وحدة وادي النيل هو أن دعاتها تكلموا بصوتين: فبينما يؤكدون على الروابط الأخوية والثقافية التي تربط مصر بالسودان من ناحية، فإنهم أصرُّوا من ناحية أخرى على أن وحدة وادي النيل قائمة على حق مصر الشرعي كدولة فاتحة بأن تكون سيدة على السودان وأن تحكم السودانيين".[4]

ويلاحظ كذلك أن شعار "السودنة" الذي رفعته قيادة الثورة المصرية في وجه الإنجليز، ظنًّا منها أنه سيخلي لها وجه السودانيين ويجعلهم ممتنين لمصر، جعل هؤلاء يتسابقون للحصول على الوظائف التي يشغلها الإنجليز، ورأوا أن ذلك لا يدعوهم إلى الاستعانة بالمصريين لتحقيق التنمية، ومن ثم رأوا أن خروج الإنجليز من بلادهم يجب أن يتبعه خروج المصريين أيضًا.

رابعًا: ينبغي ملاحظة أن السودانيين توجسوا خيفة من الصراع السياسي على السلطة في مصر، والذي أطاح بمحمد نجيب، الذي كانوا يميلون إليه أكثر، كذلك رأى السودانيون كيف نجح الضباط في مصر في التوقيع على اتفاقية تجلي الإنجليز عن بلادهم، فلِمَ لا يخرجون، هم والمصريون من بلادهم أيضًا، والعصر عصر تقرير المصير وعصر التحرر وتحقيق السيادة الوطنية.

خامسًا: من المهم أن يؤخذ دور الإنجليز في الحسبان، فقد نشطوا في تسميم العلاقات بين قيادة ثورة يوليو والزعماء السودانيين، هؤلاء الذين رأوا الاستفادة من التناقض الحاد بين السياسة الإنجليزية والسياسة المصرية. وهو ما كشفت عنه مذكرات صلاح سالم في أكثر من موضع، خاصة ما يتعلق بجهود الإنجليز الحثيثة كفصل جنوب السودان عن شماله، وحقائق التاريخ بشأن هذه الجهود معروفة وموثقة. وقبيل انسحاب القوات الأجنبية من السودان حدث تمرد في الجنوب، أثَّر في الموقف السياسى العام في السودان، ونُسِبَ إلى صلاح سالم دور في هذا التمرد، وقيل إنه حرَّض الجنوبيين على الاتحاد مع مصر لتحميهم من الشماليين! وكان تمرد الجنوب وما قيل -حقًّا وباطلًا- عن دوره فيه، عاملًا مهمًّا دفع إسماعيل الأزهري إلى تعجيل المطالبة بإعلان استقلال السودان.

سادسًا: لا ينبغي أن نلقي بكل المسؤولية عن فشل مصر في الارتباط بالسودان، بشكل من أشكال الاتحاد، على صلاح سالم وحده. فقد كان مؤيَّدًا ومفوَّضًا من مجلس قيادة الثورة الذي وضع ثقته فيه. ولم يراجعه في خطته وفي خطواته أولًا بأول، ربما لاقتناع المجلس بحق السودان في تقرير مصيره، وثقته بأن الاتحاد قادم بلا شك، وأصبح الرأي العام مقتنعًا بواسطة صلاح سالم بأن تنازل مصر عن سيادتها في السودان وموافقتها على الحكم الذاتي هو سلوك تكتيكي يهدئ شكوك الجماعات المؤيدة للاستقلال، بينما يتيح لصلاح سالم الاستفادة من الفترة الانتقالية، سرًّا وبأي وسيلة، ليصوِّت السودانيون لشكل من أشكال الارتباط مع مصر. وهكذا راهن صلاح سالم على ذلك بمستقبله السياسي معتقدًا أن في وسعه إدارة عملية تقرير مصير السودان حتى نهايتها نحو شكل من أشكال الوحدة أو الاتحاد مع السودان، وهو ما لم يقدَّر له أن يتم.


1- وحيد رأفت: فصول من ثورة يوليو، ص 215-216.

2- أحمد حمروش: قصة ثورة يوليو، ج2، ص 14-15.

3- البغدادي، مذكراته ص 273-303.

4- راجع كتاب مدثر عبدالرحيم : الإمبريالية والقومية في السودان، دراسة للتطور الدستوري والسياسي (1899-1956) بيروت 1971.