ثقافات

ماجي حبيب

"السكَر": حلاوة.. وسياسة.. وحروب

2024.11.09

تصوير آخرون

"السكَر": حلاوة.. وسياسة.. وحروب

للمذاق سطوة.. سطوة على النفس، وسطوة على الأحداث والتاريخ. سطوته على النفس يندر ألا يختبرها أو يعانيها فرد.. فمن منا لم يجاهد للإفلات من تعلقه بأكلة ما وخذلته إرادته؟ وكم مرة غضبت جماهير ما لنقص سلعة معينة بالأسواق، قد لا تكون جوهرية أو أساسية للحياة؟ بل وكم مرة تحايل الحكام على شعوبهم بطرح كميات وفيرة من هذه السلعة أو تلك في الأسواق؟

ومن أكثر أنواع المذاق سطوة: "الحلاوه"! لأن "هي إللي بتحلي الفم، وبتحلي الوقت، وبتحلي الدنيا". وهكذا لم يأتِ من فراغ الارتباط الوجداني العميق بين الحلويات والاحتفالات، الحلويات والأعياد. الحلويات والأوقات الحلوة، وحتى الحلويات والحب. الحلويات وأي مناسبة سعيدة: شوكولاتة، كحك، تورتة، حلاوة مولد، كنافة وقطايف. صعب جدًا "ننبسط" من غير سكر!

فإلى أي مدى أثر حبنا للسكر في سير التاريخ السياسي؟ وإلى أي مدى لعبت السياسة في علاقتنا بالسكر؟ الذي لا بد أن نتذكره هنا أن السكر مادة مخلقة لم يهبها لنا الله، ولكننا بأيدينا صنعناها ثم خضعنا لها فيما يشبه العبودية..
لم تكَد منطقتنا تعرف السكر حتى أصبح "أداه حكم" في أيدي حكامنا.. الفاطميون وزعوه بغير حساب على الشعب السني في كل مناسبة، فاجتذبوا الناس للاحتفال والفرح بمناسبات لم يكونوا ليحتفلوا بها، لولا إغراء الحلاوة. ومثلما أفاضوه في أفراحهم منعوه في أتراحهم، فاختفى من أسمطتهم في نهار عاشوراء.. وهي هي نفس الحلاوة التي أفاضت أم علي من سكبها في اللبن ليفرح الغوغاء.. يفرحون لمقتل سلطانهم!

فتلك النظرة، نظرة الساسة، أنه بقليل أو بكثير من الحلاوة يمكن استقطاب مشاعر الشعب، أو فلنقل مشاعر الغوغاء والعوام، وهذا الوصف هنا ليس لي، بل هو وصف المؤرخين لتلك الفئة من الناس التي يمكنها أسلوب حياتها وسلوكها من الوصول إلى تلك المآدب المجانية التي يمدها كل سلطان حذق.

لكن هؤلاء العوام هم الذين ستشكل ذائقتهم لاحقًا منعطفًا مهمًّا في تاريخ السكر، وتاريخ الحرب والسياسة: هذا المنعطف في التاريخ حدث عندما تحول السكر من ذائقة للخاصة إلى ذائقه للعامة، ذائقه للكل. وعندما خرجت مناسبات تناوله عن الاحتفالات والابتهاجات إلى التناول اليومي، وخاصة عندما اقترن السكر بالشاي والقهوة، تلك المشروبات المكيفة، التي تتشكل سريعًا كعادة يومية يصعب التخلي عنها. حدث ذلك في أواخر القرن 18 مع النهضة الصناعية وصعود طبقة البروليتاريا في إنجلترا الذين كان تعلقهم بالشاي والسكر وقتها بمثابة إعلان لصعودهم الاجتماعي.

لكن، حتى قبل هذا التاريخ لم يعدم السكر أن يكون مؤثرًا ومتأثرًا بالسياسة والحكم عبر الزمن. وينبغي هنا أن نتذكر أن السكر صناعة وليس فقط محصولًا، وللصناعة تقنيات، والتقنيات أسرار.. وهكذا لم يكن ليتسنى لنا نحن هنا في الشرق أن نغترف من السكر، ونشكله حلوى وتماثيل أقماع في حين كانت أوروبا تتعامل معه كإحدى التوابل الثمينة القادمة من الشرق البعيد.. يضيفونه بوعي حذر إلى بعض وصفاتهم الخاصة أو يبتاعوه من الصيدليات للتداوي مع غيره من الأعشاب الدوائية.. لم نكن نحن لننعم بكل هذا السكر في هذا الوقت لولا انتزاع العرب لفارس التي حافظت على تقنية تصنيعه كسر حربي.. حتى أن القصب حمل اسمها: "القصب الفارسي" قبل وبعد سقوطها في يد المسلمين على السواء، بينما لم يكن القصب إلا هنديًّا ولكن احتلال الفرس للهند هو الذي مكنهم من نسب القصب إليهم.

وحتى بعد ذلك، كان السكر من مصادر الدخل لمصر في عهديها الأيوبي والمملوكي، خصوصًا وأن المماليك كانوا قد أحكموا السيطرة على الشام مع مصر: الإقليمين الأكثر زراعة للقصب والأقرب إلى أوروبا.. وتمتلئ الوثائق التجارية في العهدين بكميات السكر المتبادلة وأسعارها.

كان احتكار المسلمين في المشرق والمغرب العربي للسكر -مع غيره من المواد- أحد الدوافع التي حركت أساطيل إسبانيا والبرتغال في الأطلنطي.. فبمجرد أن وضع البرتغاليون أقدامهم على جزر ماديرا والأزور بالقرب من السواحل المغربية حتى قرروا زراعتها بالكامل بقصب السكر. ولنا أن نتخيل أهمية الاستقلال التجاري عن المغاربة "الموركيين" في فترة حروب الاستعادة التي هدفت إلى تخليص أوروبا من الوجود الإسلامي.

مره أخرى يبرز السكر كمحرك للأحداث، فبعد اكتشاف العالم الجديد وتحول الزراعة إلى أسلوب "المزارع الشاسعة" التي تزرع فيها مساحات مهولة من الأرض بمحصول واحد من المحاصيل النقدية، كان السكر هو المحصول الوحيد الذي استلزم استجلاب أجناس غير بيضاء للقيام عليه. فبينما يستطيع بعض البيض من المساجين والمستعبدين الذين رحلوا إلى العالم الجديد أن يقوموا بالعمل بأدنى الأجور في مزارع القطن والتبغ، إلا أنهم غير مؤهلين لتحمل درجات الحراره الصاهرة أمام أفران وغلايات عصارة القصب.. وكان لا بد من استجلاب العمالة الهندية لعمل ذلك قبل أن يتطور الأمر إلى استجلاب عبيد أفارقة. والمتأمل لأرقام تطور استهلاك السكر في أوروبا يرى تطابقها الكامل والمدهش مع أرقام العبيد المستجلبين من إفريقيا.

كان السكر الذي أدمنته الذائقة الفرنسية الرفيعة أحد الضغوطات التي واجهت نابليون عندما قطع الإنجليز عليه الطرق البحرية في 1799، واحتكروا حركة الملاحة. واشتدت الضائقة بعدما فرض نابليون الإمبراطور الاكتفاء الذاتي في إمبراطوريته وعدم التعامل التجاري مع إنجلترا.. كان على نابليون أن يجد لشعبه الذي حُرم من السكر -حتى صاروا يهربونه في الخفاء كالممنوعات وارتفع سعره ارتفاعًا غير مسبوق- بديلًا، فتبنى الدراسة الجديدة التي تدعو إلى استخراج السكر من البنجر.. ولدعم التقنية الجديدة، المكلفة جدًّا وقتها، اضطر نابليون إلى أن يدعم هذه الصناعة بكثير من ميزانية دولته حتى يستطيع توفيرها بسعر منافس لسعر سكر القصب، ما أعجز ميزانية الإمبراطورية النابليونية وعجَّل بسقوطها.

في هذا الوقت ظهرت حملات قد تكون موجهة، في فرنسا وألمانيا والنمسا -البلاد الخاضعة لحكم نابليون- تنادي بالتخلي عن السكر لارتفاع ثمنه في نفس الوقت الذي كان الأعداء الإنجليز لديهم حملات تنادي بمقاطعه السكر أيضًا بالرغم من رخص ثمنه جدًّا كرفض لنظام العبودية وكضغط على الحكومات لاتخاذ خطوة لتحرير الرقيق.

وبعد ذلك بأقل من نصف قرن.. يلعب السكر دورًا ما في قيام الحرب الأهلية الأمريكية. تطالب الولايات الجنوبية ذات الاقتصاد الزراعي الإقطاعي بالانفصال عن الولايات الشمالية ذات الاقتصاد التصنيعي تخوفًا من تطبيق قوانين التحرير عليهم، وردعًا لهذا الانفصال، تقوم الحرب وتحاصر الولايات الشمالية الموانئ وتمنع الجنوبيين من تصدير بضائعهم وتقمع التمرد وتفرض الوحدة وتحرر العبيد. وأثناء تلك الحرب يعاني الإنجليز وغيرهم الحرمان من السكر والقطن الذي كان يأتي من الولايات الجنوبية فيلجؤون إلى البنجر "بتاع أعدائهم السابقين" للحصول عليه، ويلجؤون إلى مصر والهند للحصول على القطن.

تنتهي الحرب وتتوحد أمريكا، يتحرر العبيد وتعود المياه التجارية إلى مجاريها المعتادة فتخسر مصر خسارة فادحة في محصول القطن الذي كان يعد الخديوي اسماعيل بأرباح كثيرة لسنوات قادمة. فكيف يتأتى له الحصول على محصول نقدي آخر؟ إلا أن يتوسع جدًّا في زراعة قصب السكر. في ذات الوقت يهرع مليون مواطن هندي إلى أمريكا الوسطى للقيام بالمهام الخاصة بصناعة السكر، وفي غضون 70 سنة فقط يصبح الهنود عرقًا مؤسسًا لديموغرافيا الكاريبي.

تقوم الحرب العالمية الأولى والثانية ويصبح السكر أول سلعة تخصص وآخر سلعة تخرج من التموين الحكومي في الحرب وظلت حصة السكر تتأرجح على مدار سنوات الحرب وعلى حسب تغير الحال.

وبالرغم من تراجع أهمية السكر في العقود الأخيرة نظرًا إلى توافر بدائل عديدة لإنتاجه، مثل الذرة والفواكه والمحليات الصناعية، ونظرًا إلى الحملات الصحية الموجهة ضده، وبالرغم من الأدوار المتزايدة التي تلعبها الحكومات وبعض المنظمات الدولية لتوجيه الذائقة توجهات استهلاكية، فإنه سيظل للذائقة العامة دور كبير في تسيير السياسات، كما سيظل دائمًا للساسة والحكام دور يحاولونه في تشكيل الذائقة.