فنون
سلمى مبارك"العوامة 70".. مدن وجرائم وكاميرات – الجزء الثاني
2024.09.21
تصوير آخرون
"العوامة 70".. مدن وجرائم وكاميرات – الجزء الثاني
في الجزء الأول من المقال تناولنا سردية الجريمة في السينما المصرية وكيفية تطورها من الكلاسيكية إلى التجديد في أفلام الثمانينيات، وتوقفنا عند فيلم "العوامة 70" لخيري بشارة وكيفية صياغته لمدينة الجريمة في عمله الرائد. وهنا في الجزء الثاني سنسعى لاكتشاف مدينة الجريمة، وسنتوقف عند عدد من الأماكن التي تشكل علاماتها.
العوامة
أول هذه الأماكن هي العوامة وهي سكن الشخصية. ولكي نفهم دلالات العوامة في الخيال الجمعي، ينبغي أن ننظر إلى تاريخ العوامات في القاهرة، التي كانت أماكن مخصصة للنخبة الاجتماعية في القرن الماضي، حيث دارت فيها المكائد والمؤامرات السياسية والعاطفية. نشأت مخيلة جمعية عن أسلوب الحياة في العوامات ترى فيها مكانًا بعيدًا عن مركز المدينة، يسمح بالتحرر من القيود بأشكالها المختلفة. وقد عززت رواية نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل" (1966) والفيلم الشهير المقتبس منها لحسين كمال (1971) صورة العوامة كمكان للتحلل الأخلاقي.
إلا أن العوامات قد تغيرت مع التطورات الاجتماعية والعمرانية للمدينة، فهجرها أصحابها الأثرياء وانتقلت إلى سكان الطبقة الوسطى الصغيرة. فأصبح العيش على متن عوامة في السبعينيات علامة على الصعوبات الاقتصادية، ولكنه أيضًا علامة على قدْر معين من التحرر من قواعد النظام الاجتماعي. وهذا بالضبط ما يمنع بطل الفيلم من المُضي قدمًا في خطة زواجه، حيث لا تستطيع عائلة خطيبته قبول العوامة كسكن للزوجين.
علاوة على ذلك، فإن تمثيل العوامة في الفيلم، غالبًا ما يكون في مشاهد ليلية -مع استخدام الإضاءة المنخفضة، والألوان القاتمة، والقرب من المياه السوداء للنهر- ما يهيئ مكانًا مناسبًا لارتكاب الجرائم في محيطها. ومحيطها هو ضفاف النهر حيث ترسو العوامة، ضفاف معزولة، صامتة، مخيفة، مع صورة المياه المظلمة، والنفايات، والجثث التي تُلقى في النيل (في الفيلم تطفو جثتان بالقرب من العوامة، جثة جاموسة نافقة، وجثة عبد المعطي).
المصنع
إذا كانت كاميرا خيري بشارة تنجذب إلى هذه الأماكن غير العادية لرسم مدينته السينمائية في فيلم "العوامة 70"، فإن كاميرا قرينه -شخصية المخرج أحمد الشاذلي- تفعل الشيء نفسه عندما يختار تصوير فيلمه الوثائقي داخل محلج قطن قديم. يتجول أحمد الشاذلي داخل المبنى ومعه زميله المصور مراقبًا أركانه وزواياه لكشف حقيقته المخفية بواسطة الكاميرا. يتبين لنا أن هذا المحلج هو مكان آخر لارتكاب الجرائم: فآلاته القديمة تقطع أيادي العمال، والأطفال يعملون فيه من دون حماية، ويتم اختلاس القطن وتدبير حرائقه من قِبَل الإدارة الفاسدة وممثلي شركات التأمين، وفيه تدور أحداث مطاردة إجرامية بين قاتلين وعامل شاب لمنعه من التنديد بتلك الانتهاكات.
من ناحية أخرى، لا يخلو اختيار القطن كموضوع للأعمال الإجرامية في الفيلم من الرمزية، حيث يعتبر هذا المُنتَج الزراعي منذ عهد محمد علي باشا (1805-1848) -الذي أدخل زراعته إلى مصر- ركيزة أساسية في البنية الاقتصادية للبلاد، وقد لعب دورًا حيويًّا في التاريخ السياسي لمصر. بدأ محمد علي تصنيعه عام 1816، وأراد أن يجعل منه محورًا في النظام الزراعي والتجاري والصناعي لمصر الحديثة. ومن ناحية أخرى، كان إمداد مصانع النسيج الإنجليزية بالقطن المصري واحدًا من الأسباب الرئيسية للاحتلال البريطاني عام 1882. ورمزية القطن في الفيلم تستمد دلالاتها من هذا التاريخ.
لكن هذه الدلالات يضخمها أيضًا تاريخ تصوير القطن في السينما المصرية التي احتفت بهذا النبات، من خلال واحدة من كلاسيكياتها العظيمة: "الأرض" ليوسف شاهين (1970) الذي تدور أحداثها في الأربعينيات تحت حكم الاحتلال البريطاني. وفي المشهد الأخير للفيلم يظهر الفلاح محمد أبو سويلم -وهو يدافع عن أرضه ضد الباشا الذي يستولي عليها- مقيَّدًا بقدميه إلى خيل البوليس، يتم سحله ونرى يديه المتشبثتين بالأرض ملطختين بالدماء وهما تمسكان باللوزات البيضاء.
بنفس المنطق، يحتل مشهد المصنع في فيلم بشارة موقعًا مهمًّا في النسيج السردي، نظرًا إلى أنه يكشف حقائق كبرى هي مصدر الدراما البوليسية. فخلف المظهر الخادع لجو العمل الديناميكي والإنتاجي، تظهر أدلة للمشاهد على سرقة القطن من قبل إدارة المصنع ونرى التهديدات التي يتعرض لها العامل الذي يعرف أكثر مما ينبغي. تدور أحداث هذا المقطع من خلال مونتاج متوازٍ يكشف عن ثلاث حبكات متزامنة في ثلاثة أماكن: أولًا، نرى الجولة الإرشادية التي يقودها مدير المصنع ومعاونوه داخل موقع التصنيع - يشرحون الأنشطة المختلفة وكيفية عمل الآلات وتاريخها، في خطاب مؤسسي يسخر منه الفيلم. بصريًّا نشاهد تكوينات تحتلها الآلات الضخمة، والعمال في اقترابهم المخيف من كتلها العملاقة. ثانيًا، وبالتزامن مع هذا المشهد، نتابع سائق شاحنة يغادر المصنع ويتجه إلى طريق سفر حاملًا بالات القطن حيث يقوم بإشعال النار فيها مع سبق الإصرار. ثالثًا، تأتي مطاردة العامل الذي يحاول التحدث إلى أفراد طاقم الفيلم، لكنه يجد نفسه ملاحَقًا فيختبئ في قبو المصنع ويتعرض للتهديد من قبل عملاء الإدارة الذين سيقومون بقتله في النهاية. تتشابه النهاية الدموية للعامل عبد المعطي بنهاية الفلاح محمد أبو سويلم في فيلم شاهين، فكلاهما يموت بسبب دفاعه عن تلك الزهرة البيضاء، رمز التاريخ المصري الأليم. وإذا كان البعد الإجرامي يتكشف من خلال المكونات السردية لهذا المقطع، فإن التصوير داخل المصنع يضيف إليه قيمة تاريخية وواقعية، حيث نرى الماكينات القديمة التي يشهد التاريخ المدون عليها على زمن تصنيعها (1902)، بالإضافة إلى الخطاب التوعوي عن تأسيس هذا المحلج، ما يوطِّن الأحداث التي تدور في داخل المحلج في تاريخ مصر الحديثة بأمجادها وهزائمها.
من ناحية أخرى تتلاقى الجماليات السينمائية في هذه المقاطع مع جماليات الفيلم الوثائقي، مع ظهور العمال -ومنهم أطفال الفلاحين بجلابيبهم- وهم يلعبون أدوارهم الحقيقية. نسمع ضجيج الآلات القديمة، ونرى كتلها الضخمة العدوانية، والسيور الطويلة المشدودة، ونُدف القطن تتطاير في كل مكان تغطي الوجوه والأجساد. وعلى الرغم من الواقعية الكبيرة لهذه اللقطات، فإنها تحتوي كذلك على جماليات أسلوبية عالية يمكن تبينها في اختيار الكادرات، وتكوين اللقطات، وتشكيل الكتل والخطوط، واختيار الألوان القاتمة، واستخدام الإضاءة الخلفية.. إلخ. هذه الأسلوبية في تشكيل صورة المحلج تحيل إلى قدر من التعبيرية في صياغة فضاء الجريمة وتربط بين الكاميرا الموضوعية والكاميرا الذاتية، الواقعية والرمزية، التشويق والتأمل. وهو ما يحيلنا إلى مسار شخصية أحمد الشاذلي المخرج الذي يصبح محققًا.
المخرج/المحقق
تسمح رحلة الشخصية في فيلم الجريمة الحديث بالتعبير عن عزلة الذات في فضاء المدينة. اختار أحمد الشاذلي، وهو من أصل ريفي، ترك العمل في الأرض مع أبيه ليتعلم السينما ويخرج أفلامًا في القاهرة يصوغ من خلالها هوية جديدة لنفسه. هدفه عمل أفلام وثائقية ملتزمة تكشف عن مشكلات المجتمع، وتُظهر المهمشين وتُدين الأمراض الاجتماعية، يقول: "سأصنع أفلامًا تغير العالم، وتدفع الناس إلى التحرك." لكن الأرض التي تركها تدفعه إلى العودة إليها من خلال اختيار موضوعات أعماله التي تدور حول الفلاحين والقطن. نرى في هذه الشخصية -التي لا يزال والدها يعيش في الريف ويواصل زراعة الأرض- حفيدًا لسويلم، فلاح يوسف شاهين المقاوم. لم يعد أحمد يرغب في العيش في الريف المصري، لكنه يحمل شعورًا دائمًا بالقلق بسبب هذا النزوح نحو المدينة. يزور أحمد عمه مرارًا في الفيلم. والعم شخصية محطمة يعيش في بنسيون بالقاهرة -مكان عابر مثله مثل العوامة- باع نصيبه في الأرض عندما كان شابًّا وهجر القرية، عمل لدى الإنجليز تحت الاحتلال، وعاش حياة التشرد وتاه في المدن. زيارات أحمد المتكررة إلى عمه في البنسيون، دائمًا ما تسبقها مشاهد السير الليلية في الشوارع، وكأنها تعكس حيرة الشخصية التي تتشابه في بعض اختياراتها مع اختيارات العم.
ستشكل لقطة العامل الخائف الواقف خلف جدران مبنى قديم تساؤلًا محوريًّا في الحبكة البوليسية وقضية مؤرِّقة للمخرج أثناء عملية مونتاج فيلمه. إذا كانت الكاميرا هي أداة الشخصية، التي مكنتها من التقاط صورة العامل وهو يهرب من قتلته، فإن هذه الكاميرا تقدم أيضًا وسيطًا يقف بين أحمد الشاذلي والواقع، آلة يختبئ خلفها ليكتفي بالنظر، من دون أن يتمكن من تجاوز الصورة، ممزَّقًا بين رغبته في الانخراط في إشكاليات الواقع وعجزه عن القيام بتلك المخاطرة بحثًا عن الحقيقة. إن المشهد الذي صوره أحمد الشاذلي في المصنع وعرضه عدة مرات على شاشة طاولة المونتاج يتمتع بقيمة أرشيفية، ويقدم أدلة في المؤامرة الإجرامية. لكن هذه الصورة وحدها لا تكفي لإثبات الحقيقة، حيث يفضل أحمد الاعتقاد بأن شهادة العامل على جرائم المصنع ما هي إلا هلوسة، ما يسمح له بالتفكير في إمكان حذف اللقطة والتخلص منها.
لكن كاميرا خيري بشارة التي تحكي من منظور الراوي العليم، تتحرك بعيدًا عن حيرة الشخصية ومعرفتها المنقوصة، فتُظهر للمشاهد ما يفضل أحمد الشاذلي تجاهله وتجعلنا كمشاهدين شهود عيان على الجريمة. وهو موقف مزدوِج في هذه القصة التي تتماس مع ظلال السيرة الذاتية، حيث إن شخصية أحمد الشاذلي المخرج تحمل ملامح من شخصية خيري بشارة نفسه وتطرح الأسئلة عن وظيفة الصورة ودورها في الفيلم.
ما الذي تعكسه الصورة؟
يشير الفيلم داخل الفيلم إلى البعد الانعكاسي والبعد التواسطي -بمعنى وجود وسيط داخل وسيط آخر- في "العوامة 70". فمن ناحية، يُضَمِّن الفيلم الروائي لخيري بشارة الفيلم الوثائقي لأحمد الشاذلي، ويستثمر الروائي الجماليات التسجيلية، ويقيم حوارًا مع النوع التسجيلي يطرح من خلاله التساؤلات عن وظيفته الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، يسائل "العوامة" 70 مفهوم الصورة بغض النظر عن تصنيفها بين الروائية والتسجيلية. يتطرق هذان البعدان إلى قضية الحقيقة، وهي قضية أساسية في سردية الجريمة.
إن موقف البطل المتأرجح بين استخدام الصورة لإثبات الحقيقة أو اعتبارها محذوفات (rushes)، يشير إلى مفهومين للصورة. في المقطع الأخير في الفيلم، نرى لقطة مقربة لغلاف كتاب لفيرتوف ملقًى على مائدة. تحيل هذه اللقطة إلى عملية تواسط من خلال إدراج الكتاب كوسيط نصي داخل الشريط السينمائي، ومن خلال الحوار نتيجة نظرية فيرتوف حول سينما الحقيقة وفكرة أن الكاميرا المتجولة قادرة على التقاط الحقيقة الأكثر مراوغة.[1] إن الجماليات الواقعية التي يستخدمها خيري بشارة في مشهد المحلج، تعد ترجمة لنظرية فيرتوف عن سينما الحقيقة، فمن خلال استخدام المعدات المحمولة، واللجوء إلى طاقم صغير، وتسجيل الصوت المباشر، مع اهتزازات الكاميرا في سبيل إنتاج صورة بلا رتوش، ينقل المخرج أجواء المكان بواقعية بضوضائه وحركته وغباره.
ومع ذلك، فإن الحبكة السينمائية لفيلم "العوامة 70" تجمع بين التساؤلات الوجودية والقصة البوليسية، وتطرح الأسئلة حول حقيقة ما تلتقطه الكاميرا، فتحيلنا أيضًا إلى فيلم أنطونيوني Blow Up (1966). فمثل جثة "تكبير" التي التقطتها الكاميرا في الحديقة العامة، ثم اختفت مع الصور التي سجلت جريمة القتل، تبدو شهادة العامل على جرائم المصنع قابلة للاختفاء مع صورته، حيث يمكن للمافيولا أن تقصها. يعبر المخرج الإيطالي عن عدم ثقته في حقيقة ما تعكسه الصورة. يقول: "الواقع يهرب منا، هو يكذب باستمرار. عندما نعتقد أننا أدركناه، يكون قد تغير. أنا دائمًا حذر في تصديق ما أراه، ما تظهره لنا الصورة، لأنني أتخيل ما وراء الصورة، ونحن لا نعرف ما يوجد خلف الصورة[2]".
[1] سنيكال، هنري بول، «ما هي السينما الحقيقية؟ »، في التسلسلات، (34)، 4-9 (1963)، ص. 4-9.
https://www.erudit.org/fr/revues/sequences/1963-n34-sequences1147934/51907ac.pdf
[2] تاسون ألدو، أنطونيوني، إد. فلاماريون، 1995، ص 240..