عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

برانكو مارستيتش

«العنف السياسي خطأ».. تشارلي كيرك لم يعتقد ذلك

2025.09.14

مصدر الصورة : AFP

«العنف السياسي خطأ».. تشارلي كيرك لم يعتقد ذلك

 

كان اغتيال تشارلي كيرك مأساة أخلاقية [i] بكل المقاييس. يمكننا أن نعترف بهذه الحقيقة من دون أن نتجاهل أنه، على مدار سنوات، كان هو نفسه من يذكي نار العنف السياسي ويغذّيها بلا هوادة.

من المفترض أن يكون المبدأ الأساسي الذي لا يختلف عليه اثنان، أن الناس لا يُقتَلون بسبب آرائهم أو معتقداتهم. فالأمر ليس مسألة أخلاقية فحسب، بل يتعلّق أيضًا بسلامة المجتمع وتماسكه، وبقدرة أي مجتمع حر على الاستمرار. إن القتل بسبب الرأي لا يقوّض فقط أسس التعايش، بل يفتح الباب أمام دوائر لا تنتهي من العنف والانتقام. كما أن العمل السياسي الحقيقي القادر على إحداث تغيير مستدام وجوهري -من تنظيم، وإقناع، ونقاش، ونقد- يصبح مستحيلًا إذا صار كل من يجرؤ على التعبير عن نفسه عرضةً للموت، لمجرد أن خصمًا مسلّحًا يختلف معه.

حرية التعبير لا يمكن أن تُمارس إلا إذا شملت حتى أصحاب الآراء القبيحة، أو الجاهلة، أو الحقيرة، أو حتى المليئة بالكراهية فكل إنسان لديه تصوره الخاص عمّا هو مقبول وما هو متجاوز للحدود، وهذه التصورات تتباين بشدة تبعًا للخلفية السياسية والشخصية لكل فرد.

هكذا تعمل الديمقراطية والمجتمع الحر: نقبل بأن نسمع ما نكرهه أشد الكره، لأن هذا يضمن بدوره حقنا في أن نتكلم ونفعل ما قد يثير بدوره غضب الآخرين ورفضهم.

لكن ما يجري الآن في ردود الأفعال الجماعية على اغتيال كيرك ينطوي على قدر من التضليل واللامعقولية. فبدلًا من أن يُعاد التأكيد ببساطة على المبدأ الأساسي -أي إنك تملك الحق في التعبير عن آرائك من دون خوف من العنف، حتى لو كانت آراؤك مثيرة للاشمئزاز- أخذت أصوات بارزة في إعادة كتابة تاريخ كيرك لتقديمه وكأنه لم يكن خصمًا لدودًا لهذا المبدأ نفسه.

فقد قال حاكم ولاية يوتا، سبنسر كوكس، بعد القبض على المشتبه في قتله: «لقد ناصر تشارلي قضية حرية التعبير المنصوص عليها في وثائقنا التأسيسية». وتدفقت عشرات البيانات من اليمين السياسي تشيد بما قيل إنه التزام كيرك بحرية التعبير والحوار المدني المفتوح. هذا طبيعي من حلفائه المحافظين. لكن اللافت أن هذه المديح جاء أيضًا من أصوات وسطية ليبرالية، مثل كاتب «نيويورك تايمز» إزرا كلاين الذي صرّح بأن «كيرك كان يمارس السياسة بالطريقة الصحيحة تمامًا».

غير أن كثيرين أشاروا إلى أن كيرك تبنّى ونشر طيفًا واسعًا من الآراء البغيضة، ولم يتوقف عن إهانة مجموعات بشرية كاملة وتجريمها، وهم أشخاص لم يفعلوا أكثر من محاولة العيش بسلام. فقد شنّ هجومًا ضاريًا على المتحوّلين جنسيًّا، متهمًا إياهم زورًا بالمسؤولية عن حوادث إطلاق نار جماعي، في اللحظة ذاتها التي قُتل فيها هو نفسه برصاص رجل غير متحول، بحسب ما تبيّن لاحقًا. كما استهدف اليهود والمسلمين والمهاجرين والسود والمثليين وموظفي الحكومة الفيدرالية وغيرهم. لا يعني هذا طبعًا أنه «استحق» القتل، لكن تجاهل هذه المواقف الجوهرية والادعاء بأنه كان نصيرًا لحرية التعبير فيه تزوير للحقائق ويضرّ في نهاية المطاف بمبدأ الدفاع عن حرية التعبير.

لكن القضية الأهم من آرائه الاجتماعية المتعصبة هي أن كيرك كان مؤيدًا صريحًا للعنف السياسي الذي يُدان اليوم عقب مقتله.

تاريخ من الدعوة إلى العنف السياسي

خذ مثلًا حواره عام 2024 مع جاك بوسوبيك، المعلّق اليميني المتطرف المعروف بترويج أسطورة «بيتزاجيت» وبعلاقاته مع جماعات تفوّق البيض. لم يمنع ذلك كيرك من تشغيله لسنوات ضمن منظمة «Turning Point USA»  أو مشاركته في تقديم بودكاست. وصف كيرك تلك المقابلة بأنها «واحدة من أفضل الحوارات التي أجريتها معه»، وذلك بعد أن استضافه للترويج لكتابه «غير البشر: التاريخ السري للثورات الشيوعية (وكيف نسحقها)»، وهو كتاب يجادل بأن الديكتاتوريين اليمينيين كانوا محقين في التعذيب والقتل والقمع ضد اليسار، وأن على المحافظين اليوم أن يسيروا على النهج ذاته.

هذا ليس مبالغة، بل هو بالضبط مضمون الكتاب.

لم يُبدِ كيرك أي اعتراض وهو يتيح لبوسوبيك وزميله أن يتحدثا بلا قيد عن فرانثيسكو فرانكو، الديكتاتور الإسباني، وأوجوستو بينوشيه، الحاكم العسكري التشيلي -وكلاهما مسؤول عن مئات الآلاف من جرائم القتل- واصفين إياهما بأنهما «عظيمان» و«أبوان لوطنيهما»، وأنهما بمثابة «جورج واشنطن» لبلديهما، لكن اليسار العالمي، بحسب قولهما، أعاد كتابة التاريخ لتشويه صورتهما. وادعوا أن فرانكو اضطر إلى ما فعل -بما في ذلك معسكرات الاعتقال والاغتصاب الجماعي والتعذيب وقتل مئات الآلاف- لأنه كان «يخوض حربًا»، على غرار ما فعله الجنرال شيرمان في الحرب الأهلية الأمريكية.

كيرك لم يُعقّب. على العكس، حين تحدّث بوسوبيك عن قتل الخصوم السياسيين، أي «غير البشر» بحسب عنوان كتابه، قال كيرك إنه يريد التشديد على الجزء الخاص بـ«كيفية سحقهم» - أي اليسار الليبرالي الحديث. وأضاف أنه يتطلع إلى «ثورة يمينية».

السؤال الوحيد الذي طرحه كيرك على سبيل الاعتراض كان عمّا إذا كان من الممكن القضاء على المعارضة من دون عنف. فكان رد بوسوبيك بأن الولايات المتحدة تستطيع إعادة إنتاج موجات «الرعب الأحمر» السابقة واعتقال آلاف الأشخاص أو ترحيلهم بسبب مواقفهم السياسية، وأن العنف لم يُستخدم إلا حين واجهت القوى اليمينية عنفًا مسبقًا. وهي حجة تكاد تُشكّل مبررًا مفتوحًا لممارسة العنف السياسي.

وفي ختام الحوار، تساءل كيرك: «هل الشيوعيون يستمدون قوتهم من الشيطان؟». فأجابه ضيفاه بأن الشيوعيين -وهو وصفهم الذي يشمل حتى الليبراليين والديمقراطيين- يعملون بالطريقة نفسها التي يعمل بها الشيطان والجن.

هذا ليس المثال الوحيد. إذ نعرف تمامًا أي «ثورة» كان كيرك يتحدث عنها حين نتأمل دوره الحاسم في محاولة مساعدة ترامب على قلب نتيجة انتخابات 2020 بصورة غير قانونية. فلم يكتفِ باستخدام منصاته لنشر الأكاذيب عن فوز ترامب، بل ساعد أيضًا في نقل مؤيدين إلى واشنطن للمشاركة في اقتحام الكابيتول وتعطيل التصديق على النتائج.

فكيف يمكن لمثل هذه الممارسات -محاولة إلغاء نتيجة انتخاب بالقوة لمجرد أن الطرف الذي تؤيده لم يفز- أن تتماشى مع الصورة التي تُرسم الآن لكيرك بوصفه كارهًا للعنف ومؤمنًا بالإقناع والحوار؟ الجواب: لا يمكن. كما أن كيرك نفسه قال ذات مرة: «أنا لست من محبي الديمقراطية».

وفي 2021، سأله أحد الحاضرين في فعالية: «متى يحين الوقت ليلجأ المحافظون إلى السلاح ضد خصومهم السياسيين؟». تظاهر كيرك في البداية برفض السؤال، لكنه في الإجابة أقر ضمنًا بالفكرة، موضحًا أن اعتراضه الوحيد كان على البعد الإستراتيجي، إذ إن اللجوء للعنف سيعطي مبررًا للديمقراطيين لقمع اليمين. وأوضح أن الخط الفاصل سيكون «حين نستنفد كل الوسائل السياسية للدفاع عن أنفسنا»، أي إن العنف يصبح خيارًا مطروحًا إن فشل مسعاه عبر العملية السياسية. وبعد عامين فقط، كرر الفكرة محذرًا: «لديكم حكومة تكرهكم، ورئيس خائن»، داعيًا مؤيديه إلى شراء السلاح وحمله في الأماكن العامة تحسبًا لاضطرارهم إلى استخدامه.

كما دعا مرارًا إلى سجن الرئيس السابق جو بايدن وإرساله إلى جوانتانامو بل وحتى الحكم عليه بالإعدام. وطالب بفتح تحقيقات جنائية ضد قيادات ديمقراطية بارزة. وذهب إلى حد الدعوة إلى ترحيل معلّق أمريكي لمجرد أنه اختلف معه حول جائحة كورونا. كما طالب باستخدام الجيش ضد المهاجرين، وباستخدام «القوة المميتة» تجاههم، وحثّ مؤيديه على تسليح أنفسهم لقتل هؤلاء المهاجرين المحتملين لأنهم «يشكلون خطرًا على الوطن».

خطاب متفجر

حتى محاولاته «المعتدلة» لم تكن عن الإقناع أو النقاش، بل عن الترهيب والإقصاء. فقد اشتهر بإطلاق قائمة أساتذة جامعيين سماها «قائمة المراقبة» بهدف فضحهم وتخويفهم، لمجرد أنهم يُتهمون بنشر «دعاية يسارية» أو «قيم مناهضة لأمريكا». ورغم حذفه العبارة الأخيرة لاحقًا، فإن حواراته مع بوسوبيك بيّنت أنه لم يكن يخجل من الدعوة إلى إحياء ممارسات المكارثية.

ومن المثير للسخرية أن نرى اليوم معلّقين يمينيين يحتجون على وصف كيرك بـ«الفاشي»، في حين أنه نفسه لم يتوقف عن شيطنة خصومه والتحريض عليهم بالأسلوب ذاته. فقد وصف الديمقراطيين بأنهم «دود وحشرات وخنازير»، واتهمهم بأنهم «يكرهون هذا البلد» ويريدون تدميره. وقال للناخبين البيض في الأرياف إن الحزب الديمقراطي «يكرهكم أنتم بالذات» ويخطط «للتخلص منكم»، وإنه «لن يتوقف حتى تبادون أنتم وأبناؤكم وأحفادكم». وزعم العام الماضي أن كامالا هاريس «تريد القضاء على الولايات المتحدة»، وأن انتخابها سيجعل البلاد تحت «نظام وثني يبتلعها إلى الأبد».

الأدهى أن كيرك نفسه لم يتردد في استخدام المقارنات ذاتها، التي يُقال اليوم إنها كانت سببًا في اغتياله. فقد وصف خطابًا لبايدن عام 2022 بأنه «هتلري جدًّا» و«إعلان حرب ضد نصف البلاد». واتهم إدارة بايدن بأنها في بدايات «إبادة جماعية» ضد حركة ترامب، وقال إن مكتب التحقيقات الفيدرالي تحت إدارته «يقوم بعمل الجستابو» و«هذه هي الطريقة التي يُصنع بها أوشفيتز».

اليوم، وكما يحدث غالبًا، قامت مجموعة من المعلّقين -أغلبهم من اليمين، ومعهم بشكل محيّر بعض أصوات من الوسط الليبرالي- بصياغة واقع مقلوب رأسًا على عقب بعد مقتل كيرك. واقعٌ تُمحى فيه كل مواقفه السلطوية والمعادية للديمقراطية والداعمة للعنف من تاريخه، وتُسقَط بدلًا من ذلك على خصومه السياسيين. كل هذا لتبرير قمع حكومي عنيف، وهو بالضبط ما كان كيرك وأمثاله يزعمون أنهم يخشونه، فيما لم يتوقفوا هم أنفسهم عن الحلم بفرضه على الآخرين.

لا أحد يجب أن يُعاقَب، فضلًا عن أن يُقتَل، بسبب آرائه أو مواقفه السياسية. لكننا لسنا مضطرين إلى اختلاق صورة زائفة لتشارلي كيرك كي نؤكد هذا المبدأ. ولسنا بحاجة إلى التظاهر بأنه لم يكن عدوًّا معلنًا لهذا المبدأ نفسه.


[i] نُشرت المقالة في موقع « Jacobin » بتاريخ 13 سبتمبر.