حوارات
شيماء اليوسفالشاعر سعيد سلامة: الجمهور الإسباني قرأ قصائدي كبذرة تحمل رائحة مصر
2025.09.07
مصدر الصورة : آخرون
الشاعر سعيد سلامة: الجمهور الإسباني قرأ قصائدي كبذرة تحمل رائحة مصر
يكتب الشاعر المصري سعيد سلامة قصيدته بين مدريد وغرناطة كمن يغرس وطنًا بديلًا في الورق. يحمل روحه المصرية من المنوفية إلى ساحات إسبانيا، ويجعلها تتنفس بلسان آخر، فتتشابك العربية مع الإسبانية في ديوانٍ ثنائي الروح. لم يكتفِ بأن يكون شاعرًا يبوح، بل تحوّل إلى جسر حيّ يربط بين ثقافتين؛ فديوانه يمضي كالطير حلق به إلى جائزة "ديوان المعرض" في إسبانيا 2024، بينما فتح له ديوان "Libre – حرّ" باب التتويج بجائزة أفضل مخطوط عربي إسباني في العام نفسه. قصائده، التي تنبض بالحب والحنين والهوية، تمضي كطريق من عاطفة صادقة تُعانق القارئ أينما كان، في القاهرة أو مدريد أو أي مدينة تحتضن روحًا تبحث عن الحرية.
سلامة، الذي حصد جائزة أحمد فؤاد نجم، لشعر العامية عام 2023 عن ديوانه "خطر"، يكتب بلغات ثلاث: العربية والإسبانية والإنجليزية، ومع ذلك يظل وفيًّا للعامية المصرية التي يراها "اللسان الذي يقطر من قلب الناس". صدر له عدة دواوين منها: شيتا، يمضي كالطير، وLibre.
وقد وُضعت قصائده بجوار إرث الشاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا، أيقونة الشعر والموسيقى في القرن العشرين، في مشهد يختزل التقاء المتوسط باللاتيني، ويشهد على نبوغ شاعر مصري يرى في الشعر وسيلةً لمقاومة الغربة وتذكيرًا بأن الوطن الحقيقي يُعاد بناؤه في الكلمة والذاكرة.. تستضيفه مجلة "المرايا" في هذا الحوار الخاص لتبحث معه كيف أثرت شوارع مدريد في تجربته الشعرية.
- عندما غادرت مصر إلى أوروبا، ماذا حملت معك من الوطن غير حقيبتك؟
لم أحمل معي إلا صمت الأمكنة التي ولدت فيها، وعبق الذكريات المعلّق في أزقة المدينة القديمة. كل شيء آخر كان متاحًا لإعادة البناء: صداقات، لغات، طرق، ألوان. لكن الوطن، يا صديقتي، لا يُحزم في حقيبة، الوطن يسافر معك في عروقك، في مفاصل كتاباتك، وفي إحساسك بكل نسمة تأتي من الأرض التي احتضنتك أول مرة.
- كيف أثرت الغربة في وجدانك الشعري؟ هل كانت دافعًا للكتابة أم سببًا للخذلان أحيانًا؟
الغربة كانت المرايا التي لم تكذب يومًا: أظهرت وجهي كما هو، بلا أقنعة. كانت دافعًا للكتابة لأنها سخّرت الوحدة كحافز للبحث عن أصواتي الضائعة، لكنها أحيانًا خذلتني حين شعرت بأن اللغة والبيئة قد تبتعدان عنّي كما يبتعد الضوء عن الظل. لكن حتى الخذلان أصبح لي نصًّا، وفصلًا في قصيدتي عن الانتظار والانتماء.
- قلت إن النجاح لم يكن على بالك، بل كان ترتيبًا إلهيًّا… متى بدأت تشعر أن هذه الرحلة تحملك إلى أبعد مما توقعت؟
حين أدركت أن صوتي، الذي كان يختبئ بين الجدران القديمة للمدينة المصرية، صار يُسمع في فضاءات لم أزرها بعد. حين قرأت رسالة من قارئ لم أعرفه من قبل، من مدينة لم أزرها، يخبرني بأن كلماتي جعلته يرى العالم بطريقة جديدة، عندها فهمت أن الرحلة لم تعد مجرد مسافة جغرافية، بل امتدادًا للروح إلى ما وراء المتوقع.
- تكتب بثلاث لغات… كيف تتبدل ملامح القصيدة حين تنتقل من العامية المصرية إلى الإسبانية؟
العامية المصرية تتنفس جسدي وروحي، تحكي عن الضحك، عن الشوارع، عن حرارة الشمس وأصوات الأزقة. أما الإسبانية، فتمنح القصيدة طيرانًا أوسع، انفتاحًا على ما هو عالمي، نغمة موسيقية مختلفة، تمنحني القدرة على التفكير بصور جديدة، كما لو أنني أعيد اختراع المعنى دون أن أفقد جوهره.
- كيف استقبل الجمهور الأوروبي شعرك؟ هل قرؤوه كصوت شرقي/مختلف أم تعاملوا معه كقصيدة كونية بلا حدود؟
لقد استقبلوه كبذرة تحمل رائحة بلاد، لكنها نبتت في تربة جديدة. بعضهم لاحظ الطابع الشرقي، لكنه لم يكن حاجزًا، بل نافذة. كثيرون قرؤوه كقصيدة كونية، كصوت إنساني يتحدث عن الخوف، الحب، الحنين، والأمل، عن الإنسان بغض النظر عن المكان الذي ولد فيه.
- ما اللحظة التي شعرت فيها أن قصيدتك لم تعد "نصًّا شخصيًّا" بل صارت جسرًا بين الثقافات؟
حين تلقيت رسالة من قارئ إسباني يخبرني بأن نصي جعله يشعر بما شعرت به وأنا أكتب عن القاهرة. لم يكن مجرد تقدير، بل إدراكًا متبادلًا، شعورًا بأن الكلمات تحولت من صرخة فردية إلى صدى يتشارك فيه قلوب مختلفة ومكانية مختلفة، عندها شعرت بأن جسري قد امتد إلى ما هو أبعد من حدود الوطن.
- جائزة أحمد فؤاد نجم في مصر، وجوائز أخرى في أوروبا… ماذا مثّل لك كل منها؟ أيهما أثقل وقعًا في قلبك: التقدير من وطنك أم من الخارج؟
جائزة أحمد فؤاد نجم كانت كلمس اليد التي ربّتت على كتفك بصوت الوطن، صدى أحلامك الأولى، وشهادة على أنك لم تنسَ جذورك. الجوائز الأوروبية، رغم أهميتها، كانت تأكيدًا أن صوتك يتجاوز الحدود، أن ما كتبته لم يظل محصورًا في جغرافيا معينة. ربما ثقل القلب يكمن في الجمع بينهما: الوطن الذي منحك البداية، والعالم الذي شهد على إبداعك.
- سخروا منك وقالوا: لن تصل ولن تحقق شيئًا! لكن اليوم تُترجم قصائدك وتُغنّى دواوينك ويُحتفى بك في إسبانيا. كيف تتذكر تلك الكلمات الآن؟ وهل تراها مصدر إلهام أم مجرد سخرية تتبخر أمام ما وصلت إليه؟
كانت مثل الرياح العاصفة التي تصقل الشراع. اليوم، حين أنظر إليها، أرى أنها لم تكن سخرية بقدر ما كانت اختبارًا للثبات، محفزًا لإعادة اكتشاف قوة الصوت، لتعلم الصبر، وللتأكد أن الطريق الحقيقي دائمًا يتطلب المرور بمنعطفات صعبة.
- هل ترى أن الجوائز غيّرتك كشاعر، أم أنها مجرّد علامات على الطريق؟
لم تغيرني الجوائز، لكنها أضاءت الطريق الذي كنت أسلكه في الظلام، جعلتني أرى خطواتي وأدرك حجم ما تحمله كلماتي. هي علامات، نعم، لكنها علامات بوزن الروح التي كتبتها، وليس مجرد ألقاب تُعلق على الجدران.
- البعض يقول إن الاعتراف في أوروبا أسهل من مصر… هل توافق؟
ربما في الوصول إلى منصة أكبر، وفي التقدير الرسمي، لكن الصدق مع النفس ومع الكلمات لا يُمنح بسهولة في أي مكان. أوروبا أعطتني مساحة للتجريب وللتلقي، لكن الجذر المصري أعطاني العمق، والروح التي لا يمكن لأي منصة أن تمنحها.
- تجربتك الشعرية في أوروبا هل تعيد تعريفك للحرية والحياة خاصة بعد أن عشت بين ثقافتين مختلفتين؟
نعم، الحرية هنا لم تعد مجرد فعل، بل إدراكًا: إدراك أن الكلمات تستطيع تجاوز الحدود، وأن الروح قادرة على أن تعيش في أكثر من سياق ثقافي واحد، وأن الحياة يمكن أن تُحكى بأكثر من لغة دون أن تفقد جوهرها، وأن الاختلاف ثقافة، لا تهديدًا.
- هل تعتبر نفسك شاعرًا مهاجرًا أم شاعرًا عالميًّا خرج من بيئة مصرية؟
أنا شاعر عالمي بدأ رحلته من مصر. الهجرة لم تمنحني الشعر، لكنها منحتني امتدادًا له، مساحة لتأمل الوجود من منظور أوسع، ولفهم ما يمكن للكلمة أن تصنعه عندما تُطلق خارج حدود المكان الأصلي.
- لو عاد بك الزمن إلى بداياتك في مصر، هل كنت ستسلك نفس الطريق؟
نعم، لأن كل خطوة، كل اختيار، حتى الأخطاء، كانت جزءًا من تشكيل شخصيتي وفهمي للعالم. لو عدت، سأختار الصبر على الوحدة، الرحلة الطويلة، والبحث عن صوتي بلا خوف، لأن الطريق نفسه هو الذي صنع الشاعر.
- ماذا تقول للشاعر الشاب الذي يكتب الآن في غرفة صغيرة بالقاهرة ولا يتخيل أن يُسمع صوته يومًا ما؟
أقول له: لا تنتظر الضوء من أحد، لا تنتظر المنصات ولا الجوائز، دع صوتك يكون لك وحدك في البداية، حتى إذا جاء يوم وأُتيح للعالم سماعه، سيعرف أنه لم يُخلق من أجل الإبهار، بل من أجل الحقيقة التي تحملها كلماتك. الصبر، الانغماس في الكتابة، وعدم الخوف من الوحدة، هو ما يصنع الشاعر الحقيقي.