غزة تقاوم
محمد حسنيالاقتصاد السياسي للحرب على غزة – الجزء الثالث
2024.06.08
مصدر الصورة : ويكبيديا
طاحونة الدم.. تُدر ذهبًا
إسرائيل دولة الحرب الدائمة
كانت الأزمة السياسية-الاقتصادية للحكومة الإسرائيلية سببًا أساسيًّا لشن الحرب على غزة، وسببًا وحيدًا لتماديها في تلك الحرب وعدم الاكتفاء بعملية محدودة للرد على "طوفان الأقصى" واستعادة المختطفين، رغم تكرار الفرص لذلك. وبوجه عام لا يمكن تطبيق معايير المكسب والخسارة على إسرائيل "دولة الحرب الدائمة".
"إسرائيل جيش له دولة"، تعد الحرب عنصرًا بنيويًّا رئيسيًّا في المشروع الصهيوني منذ نشأته، حتى قبل إعلان الدولة في 1948.
خلال الحرب العالمية الأولى، انتعش الاقتصاد في فلسطين العثمانية لتوفير الإمدادات، وتشييد التحصينات، ومشروع السكك الحديدية، وتقطير الفحم، واغتنمت الشركات الصهيونية الفرصة لتحقيق الأرباح.[1] في بداية الحرب، كانت قيادة الاستيطان تميل إلى كفة الأتراك، حتى بدا انتصار البريطانيين، فتحولوا إلى تأييد المنتصر، في تلك الآونة شاركت المنظمات المسلحة "نيلي" إلى جانب الجيش البريطاني عقب فشل الأتراك في هجومهم على قناة السويس في 1915.
بعد جهود من الزعيم اليميني زئيف جبوتنسكي، وبدعم من قيادة الوكالة اليهودية، التي أيدت الجانب البريطاني في الحرب، تكونت الكتائب العبرية، وهي وحدات من المستوطنين اليهود المجندين في الجيش البريطاني، وتحمل شعارات يهودية.
خلال الحرب، نشطت عمليات شق الطرق، ومد المرافق، إلى جانب الصناعات الأخرى الضرورية للمجهود الحربي، مثل: الملابس، والغذاء، ما أفاد اقتصاد المستوطنات، الذي نشأ واستمر منفصلًا، وبشكل عمدي عن بقية فلسطين.
كانت المعسكرات الإنجليزية بؤرًا لتجمعات سكانية جديدة، وانتهز المستوطنون اليهود قيام البريطانيين بطرد التمبلاريين الألمان، باعتبارهم رعايا "دولة معادية"، وقاموا باحتلال مستعمراتهم. تحولت هذه المعسكرات فيما بعد إلى معسكرات لمنظمة الهاجاناه، ثم الجيش الإسرائيلي.
عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، انتهت موجة الازدهار في الاقتصاد، وخلال الفترة بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية، عانى الاستيطان من أزمة وهجرة مستوطنين بالعودة إلى أوطانهم، أو نحو مستعمرات بريطانية أخرى. لجأت الوكالة اليهودية إلى عقد "اتفاق التحويلات" مع النازيين، لتحويل ثروات اليهود الألمان في صورة بضائع إلى فلسطين.
كان اندلاع الحرب العالمية الثانية نقطة صعود جديدة لاقتصاد المستوطنات، وسحب آلاف العاطلين عن العمل، ويرجع الفضل إلى تلك الفترة في التحول نحو التصنيع في المستوطنات، التي أصبحت المُورِّد الرئيسي للجيش البريطاني وحلفائه في الشرق الأوسط ككل. وقد اتسعت أعمال الشركات الاستيطانية في المجالات كافة من الإنتاج الغذائي والملابس والأحذية، وكذلك التشييد والبناء وتمهيد الطرق ومد المرافق، وفي قطاع النقل.
أفاد الاستيطان من الحرب العالمية، على الصعيد العسكري، فقد انخرط معظم رجال المنظمات الصهيونية المسلحة في القتال داخل صفوف الجيش البريطاني، على جبهات مختلفة، ما سمح بتدريب المستوطنين الصهاينة على أحدث الأسلحة والتكتيكات آنذاك، إلى جانب تهريب وسرقة الأسلحة والمعدات العسكرية بشتى الطرق، والبدء في التصنيع البدائي للسلاح في المستوطنات.
حرب 1948
نشط الاقتصاد الصهيوني خلال شهور حرب 1948، وبلغ أقصى طاقته من الإنتاج، وقد تم تجنيد 100 ألف مستوطن، وتم تخصيص 40% من الإنتاج للمجهود الحربي، وتدفقت التبرعات من الصناديق اليهودية، والأثرياء اليهود في العالم لتمويل الحرب. خلال الحرب تم توحيد القوات الصهيونية تحت قيادة واحدة، وفق الهيكل التنظيمي لمنظمة "الهاجاناه"، تحت اسم "جيش الدفاع الإسرائيلي" وقد استغل الصهاينة الهدنة لتنظيم صفوفهم، وإعادة تسليح قواتهم بشكل مكثف.
مع انتهاء الحرب، وإعلان الدولة، كان الجيش الصهيوني، والمنظمات العسكرية الأخرى، قد استولوا على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وأراضي المدن، بعد أن ارتكبوا ضد سكانها من المواطنين الفلسطينيين مذابح بشعة. اضطر الفلسطينيون إلى ترك بلادهم، بما احتوته من منازل ومحال ومعامل ومنقولات وسيارات، استولت عليها العصابات الصهيونية، واستولوا أيضًا على المصارف. اعتبرت تلك العصابات نفسها وريثة حكومة الانتداب فاستولت على كل أراضيها ومقارها وصلاحياتها وأرصدتها. وفي خضم الحرب صدرت العملة الجديدة "الليرة الإسرائيلية"، تم طبعها بالخارج باتفاقات سابقة، وحسب الرواية الرسمية، كان المستوطنون متحمسين لتداولها، رغم ضبابية الموقف.
شهدت الحروب الإسرائيلية إنفاقًا متعاظمًا، كما شهدت في المقابل الفترات بين الحروب استمرار الإنفاق في الأغراض العسكرية، ما بين النكبة وحرب 67 وصل الإنفاق العسكري إلى 10% من الناتج القومي.[2]
عانت الدولة الحديثة من عبء اقتصادي مركب، حيث تضاعف عدد اليهود بسبب الهجرة من البلاد العربية، ما تطلب أموالًا كثيرة لتوطين المهاجرين، واستيعابهم في المشروع، علاوة على عدم استقرار الأوضاع على الجبهات. فانتهجت سياسة التقشف، وهكذا جاءت حرب 1956 كطوق نجاة -إلى جانب اتفاقية التعويضات الألمانية- التي ضخت الدم في الاقتصاد الإسرائيلي لأقل من عقد من الزمان، لتعود الأزمة الاقتصادية من جديد تمهيدًا لحرب جديدة.
حرب 1967
سبق حرب 67 تراجع اقتصادي ممتد وتخفيض عمدي للإنفاق الحكومي، في الوقت الذي كانت الحكومة والقطاع العام يتحكمون في النسبة الكبرى من الاستثمارات. عقب الحرب حدثت فورة اقتصادية، تحول شديد بما لا يقاس بسبب الحرب، عقب تجنيد مئات الآلاف، والاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي بما تحويه من أصول وممتلكات ومنقولات وثروات طبيعية، وكذا ارتفاع الإنفاق الحكومي، نشاط المقاولات في المناطق المحتلة لأغراض عسكرية واستيطانية، كما ارتفعت الميزانية العسكرية وبلغت حصتها من الناتج القومي إلى 20-25%، وارتفاع الطلب على المنتجات عمومًا بسبب حالة الحرب. ومن ناحية أخرى، أصبح هناك وفرة في الأيدي العاملة الماهرة والرخيصة في المناطق الفلسطينية تحت الحكم العسكري.[3]
لكن المؤرخين الاقتصاديين يشيرون إلى أن النمو كان سيتراجع حتى يتوقف، بشكل تلقائي، لكن حرب 1973 أدت إلى ذلك بشكل مفاجئ.
حرب 1973
مثلت حرب أكتوبر صدمة في تاريخ الصهيونية، وأدت إلى تغييرات حادة على الصعيد الاقتصادي، تمثلت في نقص اليد العاملة بسبب المصابين وبسبب استدعاء الاحتياط، وارتفاع الإنفاق العسكري الذي بلغ ذروته في السبعينيات، حيث ارتفع إلى ثلث الناتج المحلي،[4] ما أثر في مستويات المعيشة وأدى إلى زيادة الدَّين الحكومي وارتفاع التضخم 40%.[5]
على مدار أكثر من 10 سنوات، عانت إسرائيل من أزمة اقتصادية طاحنة، كما فشلت كل الخطط الحكومية للخروج منها. وفي 1977، حينما وقع ما يسمى بـ"الانقلاب"[6] حينما تولت حكومة اليمين برئاسة بيجن وغيرت السياسات الاقتصادية نحو تحرير السوق.
استمرت إسرائيل في النشاط الاستيطاني والاستيلاء على الموارد في الجولان وسيناء، كما دخلت لبنان في 1978، ثم في 1982، المعروفة بحرب لبنان الأولى، وقبل ذلك ضربت المفاعل العراقي. خلال حرب لبنان الأولى ارتفع التضخم إلى 400% وانهارت البنوك في 1983 وتدخلت الحكومة لتحمل الخسائر وبدأت عملية الإصلاح الهيكلي (الخصخصة) التي أدت إلى ارتفاع البطالة وطفرة في الفائدة وإفلاس كثير من الشركات.
أحد هذه العوامل، كان كفيلًا بانهيار أي اقتصاد، فما بالك بتضافرها معًا، لكن الاقتصاد الإسرائيلي ظل قائمًا بفضل المعونات الأمريكية ومعونات اليهود بالخارج، التي تنتعش خلال الحروب، أي إن الدولة الصهيونية لجأت إلى تعويض خسارتها في حرب 1973، للمزيد من الحروب.
عقب الانتفاضة الأولى 1987، وما تلاها من جولات تفاوض في التسعينيات، نشطت إسرائيل بالتوازي في مجال السلاح، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كما ذكرنا. وما لبثت الألفية الجديدة تبدأ حتى فجر شارون الانتفاضة الثانية، ليشعل الصراع من جديد، ولم يمر وقت حتى وقع تفجير 11 سبتمبر، وزاد الطلب العالمي على السلاح.
نقلت إسرائيل جبهة الحرب نحو الشمال، فجاءت حرب لبنان الثانية 2006 باهظة الكلفة، وعمدت بعد ذلك إلى شن عمليات عسكرية أقل اتساعًا ضد الفلسطينيين في الضفة وفي غزة، الرصاص المصبوب 2008-2009، ثم عمود السحاب 2012، ثم الجرف الصامد 2014، واشتباكات متوالية خلال الفترة 2018- 2021.
***
شهد عام 2023، تراجعًا اقتصاديًّا، تمثَّل في عدد من المظاهر، مثل: انخفاض سعر الشيكل، وارتفاع العجز في الموازنة، وتخفيض التصنيف الائتماني،[7] كما انعكس على ارتفاع الفوائد وارتفاع أسعار السكن، والسلع.[8] وهو ما تناولناه بالتفصيل في الجزء السابق من المقال.
وهكذا، كانت الأزمة السياسية-الاقتصادية للحكومة الإسرائيلية سببًا أساسيًّا لشن الحرب على غزة، وسببًا وحيدًا لتماديها في تلك الحرب وعدم الاكتفاء بعملية محدودة للرد على "طوفان الأقصى" واستعادة المختطفين، رغم تكرار الفرص لذلك.
[1] - עוזי פז, מחמוד זחאלקה, "היה היה יער", טבע הדברים 20, פברואר–מרץ 1997, באתר מט"ח.
[2] - הוצאות לביטחון בישראל 2020-1950. رابط مختصر: https://2u.pw/fC1bojK
[3] - السابق.
[4] - السابق.
[5] - ד"ר אביחי שניר בזמן שהתותחים רועמים, הכלכלה הישראלית משתנה בין מלחמה למלחמה 10/10/2023 https://2u.pw/cxEva8x
[6] - أطلق مصطلح "انقلاب"، حيث شمل تحولات جذرية في المشروع الصهيوني:
- للمرة الأولى تفقد حركة العمل موقعها المسيطر على المشروع الصهيوني قبل وبعد قيام الدولة.
- تقدم حركة "حيروت" -حزب الليكود- اليمينية من صفوف المعارضة إلى رئاسة الحكومة.
- الاستجابة لمبادرة السادات المعلنة، والشروع في المفاوضات.
- إعلان تحول السياسات الاقتصادية من الاقتصاد المركزي ودولة الرعاية الاجتماعية نحو تحرير السوق.
[7] -גד ליאור עוד לפני ההשפעה הדרמטית של המלחמה: השבועות שמחכים לכלכלה 07.10.23
رابط: https://2u.pw/BXXJSks نشر أولًا في 6 أكتوبر - تم تعديله بعد الأحداث.
[8] -חזי שטרנליכט :"הפיצוי שיידרש לאנשים ועסקים יהיה משמעותי": מה יקרה לכלכלת ישראל? .globes.co.il 12.10.2023 رابط مختصر: https://2u.pw/wDvAjLK