عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

ثقافات

حسناء الجريسي

التحطيب لعبة الرجال: فن وحرفنة وأصول وشهامة

2025.03.28

مصدر الصورة : آخرون

التحطيب لعبة الرجال: فن وحرفنة وأصول وشهامة

 

تشهد ساحة أبو الحجاج بالأقصر في ديسمبر من كل عام مهرجان التحطيب الدولي، أحد أهم المهرجانات الشعبية التراثية، الذي يستمر على مدار 10 أيام وتشارك فيه فرق التحطيب المختلفة، وشيوخ اللعبة من 8 محافظات: الأقصر، قنا، سوهاج، المنيا، بني سويف، أسيوط، ملوي، والشرقية.

يهدف هذا المهرجان إلى الحفاظ على اللعبة العريقة، باعتبارها واحدة من مفردات التراث المصري. فهي لعبة تاريخية عُرفت في مصر القديمة، تقوم قواعدها على الاحترام المتبادل، ويتم تناقل فنون المبارزة بين العائلات والمجتمعات المحلية، وتحفظ البيئة المحيطة الرموز والقيم المرتبطة بممارستها، حيث يقدم المتبارزون على أنغام الموسيقى الشعبية عرضًا قصيرًا للحركات غير العنيفة، باستخدام عصًا طويلة، وذلك في المناسبات الاجتماعية والاحتفالات الدينية. ويمارس هذه اللعبة الذكور الذين غالبًا ما يكونون من أبناء الصعيد.  

وقد نجحت مصر عام 2016 في إدراج لعبة "التحطيب" في منظمة اليونسكو كتراث ثقافي عالمي غير مادي لأهالي الصعيد، ما ساهم في مشاركة فرق اللعبة في كرنفالات الرقص الشعبي خارج مصر، والترويج لهذا الفن المتوراث عبر آلالف السنين.

"التحطيب" هو فن مصري ينتمي إلى الفنون القتالية، وسُمي بهذا الاسم نظرًا إلى أنها لعبة تُستخدم فيها العصا الغليظة التي يُطلق عليها "الشومة"، وهي ترمز إلى النبل والشهامه. وتجري المبارزة بين شخصين يمتاز كل منهما بالثقة والقوة البدنية والمهارة والذكاء وسرعة البديهة، ويحرص كل من الطرفين ألَّا يؤذي صاحبه أو يعامله بعنف مفرط أو عدوانية، بل يمتاز كلا اللاعبين بالحب والود، وفي نهاية اللعبة يصافح المهزوم الفائز ويهنئه، فهي لعبة تتسم بصفات الشرف والسمو. 

ومن قواعد التحطيب وأصوله أن من يمسك العصا لا بد أن يكون حكيمًا ومتحكمًا في أعصابه حتي لا يؤذي خصمه.

والتحطيب مرسوم على جدران بعض المعابد الفرعونية في قنا والأقصر، كما كشف عدد من الدراسات أن الكثير من أولياء الله الصالحين في مصر مارسوا لعبة التحطيب. ومن عظماء هذه اللعبة متولي السمطي المكرم من 3 حكام لمصر، وحسن الشبلاوي الذي لعب التحطيب في البيت الأبيض وفي عديد من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وإيطاليا والصين والأردن والسودان.

وحتى مطلع القرن التاسع عشر كان التحطيب مجرد مبارزة بالعصا ونوع من المنافسة المتحدية، لكن وقتها تم وضعها في قالب استعراضي وأدخلوا عليها موسيقى مصاحبة بالمزمار والدفوف لكسر حدة المنافسة، وإبعاد مشاعر الهزيمة والانتقام.

ولا تقتصر ممارسة "التحطيب" على ذلك المهرجان السنوي، وإنما يُمارس في الأفراح والمناسبات في كل بلدات الصعيد. وهو نشاط رئيسي في مولد سيدي عبدالرحيم القناوي، الذي يجري الاحتفال به كل عام في منتصف شهر شعبان، حيث يجتمع المئات من الرجال في الساحة القناوية، وعلى موسيقى المزمار البلدي يتبادل النزال اللاعبون، وسط تصفيق الحاضرين الذين يأتون من كل مكان لمشاهدة اللعبة.

وسنجد الكثير من العبارات التراثية يتناقلها شيوخ اللعبة عبر الأجيال تمتدح التحطيب واللعب بالعصا، كقول ميمون بن مهران: "إمساك العصا سنة للأنبياء وعلامه للمؤمن"، وقول الحسن البصري: "في العصا ست خصال: سنة للأنبياء وزينة للصلحاء وسلاح على الأعداء وعون للضعفاء، وغم المنافقين وزيادة في الطاعات". وقول القرطبي: "وقد جمع الله لموسى في عصاه من البراهين العظام، والآيات الجسام ما آمن به السحرة المعاندون واتخذها سليمان لخطبته وطول صلاته".

ومن أشهر الفرق في صعيد مصر التي تمارس التحطيب فرقة الريس علي محمود، وفرقة الريس عبداللاه أحمد مصطفى، وفرقة الريس طلال جهلان، وفرقة الريس حجاج علي محمود، وفرقة الريس محمد حمره، وفرقة الريس قناوي، وطبعًا كل عام ينتظر لاعبو محافظتي الأقصر وأسوان المناسبات الدينية والاجتماعية لكي يمارسوا التحطيب. بل لديهم إحصاء بأيام الموالد والاحتفالات، حتي يشتركوا في مهرجانات التحطيب لكي يُظهروا براعتهم وفنونهم في اللعبة.

ولقد اختلفت العصا -العنصر الأساسي في لعبة التحطيب- اليوم كثيرًا عن السابق فأصبحت من الخيزران ويبلغ طولها تقريبًا من 160 سم إلى 180 سم، كما أن "مسك العصا" يختلف من شخص إلى آخر حسب قوته، لكن أصول الحرفنة أن يستطيع الراقص أن يمسكها من طرفها.

تُجسد ممارسة التحطيب بالنسبة لأهالي الصعيد قيمة "البطل الشعبي" الذي يحقق بانتصاره في المبارزة انتصار لجماعته ككل. ويعكس رؤية الجماعة الشعبية لوزنها في علاقتها بمحيطها الاجتماعي، فالجماعات تأتي من القرى والمراكز لتشجيع لاعبيها، معتبرين انتصارهم انتصار للجماعة ذاتها. فالتحطيب يلعب دورًا في صقل الروح الجماعية، ولا يمكن إدراك أبعاده دون فهم المشترك الاجتماعي بعاداته وتقاليده وفنونه وآدابه.

وقد كشفت بعض الدراسات أن للتحطيب مضمونًا دراميًّا عميقًا يمكن استدعاؤه من السيرة الهلالية، خلال فكرتي البطولة والفروسية، بل إن بعض المحطبين من حاملي الموروث بالفطرة، يؤكدون أن التحطيب استخراج من حرب الهلالية، ولكن في الأحوال كلها يمكن البحث عن المضمون الدرامي للتحطيب من خلال السير الشعبية، ومفاهيم الفروسية والبطولات الشعبية.

وأهم حلقات التحطيب تتم في الموالد الكبيرة مثل سيدي العارف بالله، وسيدنا أبو العباس، وسيدي عبدالرحيم القناوي، وسيدي الحجاج، حيث يعلن فيها عن رفع العصاية من بعد العصر وحتى المغرب ويجتمع المحطبون من كل المحافظات، فلاعبو المحافظة التي يقام فيها المولد يدعون لاعبي المحافظات الأخرى. وتتسم رقصة التحطيب بطابع استعراضي يصاحبه أداء ومضمون درامي، وحالة خاصة من الفرجة، ولها طبيعة مسرحية في العموم.

وتختلف رقصة التحطيب من محافظة إلى أخرى حسب دراسة أجرها د. محمود حسيب. وتشير الدراسة إلى أن التحطيب لعبة قائمة على الاستمتاع وليس العنف، كما أن التحطيب من فوق ظهر الحصان بين رجلين يمكن اعتباره إحدى ثمرات التزواج الثقافي بين ثقافة البدو وثقافة الصعيد، فالخيل والرقص من فنون البدو، والتحطيب من فنون الصعيد وثقافة مشتركة وسط جميع محافظاته.

وهناك أكثر من طريقة لإمساك العصا، فيمكن إمساكها بيد واحدة من أحد طرفيها، ولا بد أن تمسك على بعد قبضتي يد من أحد طرفيها لكي يستطيع التحكم في العصا أثناء الرقص، أو إمساك العصا باليدين من أحد طرفيها وهو أن يقبض على أحد أطراف العصا على بعد قبضتي يد وتكون الكفان قابضتين على العصا إحداهما فوق الأخرى.

وعند إمساك العصا باليدين لا بد أن يراعي المؤدي أن يمسك العصا من طرفيها عند قيامه بصد هجوم من خصمه، فبدون ذلك يعرض جسمه أو رأسه للخطر عند عدم إمساك العصا بقوة ضد الضربة الموجهة إليه، ولذلك فلا بد أن يكون ممسكًا بها بعد قبضتي يد من طرفها الأيمن، أما اليد اليسري فتكون ممسكة بالعصا على مسافة تسمح له بالتحكم في العصا، أي تقريبًا على مسافة أوسع قليلًا.

ولايزال التحطيب من فوق ظهر الخيل حاضرًا في المناسبات، وكثيرًا ما تقام حلقات لرقص الخيل والتحطيب ابتهاجًا بإقامة زفة عرس، أو احتفالًا بذكرى مولد أحد أولياء الله الصالحين، أو للاحتفال بجني المحصول، حيث تقام حلبة الرقص والتحطيب في مكان متسع وعلي أنغام المزمار البلدي أو الصعيدي يتبارى الفرسان والخيالة في إظهار بطولاتهم وشجاعتهم ويتفنون في أساليب الكر والفر والنزال ويعتمد ذلك على ذكاء الفارس وقوة صبر الحصان عند الاحتدام والنزال.

ويحتاج رقص الخيل إلى خيول أصيلة لديها الاستعداد لأداء الرقصات على أنغام المزمار وللخيل أشكال مختلفة من الرقص، يحددها ميول الحصان وتكوينه واستعداده وتقبله للمران على نوع معين من التشكيلات المتعددة الإيقاعات، ويُظهر رقص الخيل مدى تمكن الفارس من حصانه والسيطرة عليه، وتفاهمه معه ومدى طاعة الحصان في تأدية كل ما يتطلب منه، مرونة ورغبة في الرقص والأداء، ويعتبر ركوب الخيل عمومًا، مظهرًا من مظاهر الإجلال والإكبار حيث يمتطيه رجل الدين في الاحتفالات الدينية، ويمتطيه الفارس في معاركه، وتمطيه العروس حين تزف إلى عريسها، وكذلك العريس حينما كان يذهب لإحضار عروسه.

لقد أثبت المؤرخ هيرودوت في كتاباته عن التحطيب في مصر القديمة أن المتبارين كانوا يصيب بعضهم بعضا بإصابات قاتلة، ولو أنه لم يسجل في التاريخ المصري القديم أي إشارة لحدوث حوادث مؤسفة نتيجة لتلك المباريات التي كانت أشبه بمعارك غايتها النيل من الخصم بإصابته بضربات قد تكون مؤثرة أو عديمة التأثير، لكنها على أقصى تقدير لن تقتله إلا في بعض الحالات الشاذة. أما التحطيب الآن فقد تغير شكله بتغير وظائفه، ومع ذلك فهو جزء أساسي من تقاليد الريف المصري فهو إحدى المهارات التي يتعلمها الشاب في الصعيد. رقصة التحطيب فرعونية قديمة ولها وظائف متعددة من أهمها أنها علامة على القوة والفتوة، وسلاح حربي، ولعبة في أوقات الفراغ والسمر والاحتفالات.