تحقيقات
حسناء الجريسيسور الأزبكية بين الماضي والحاضر
2025.01.26
تصوير آخرون
أصحاب المكتبات والباعة متفاءلون بمستقبل الكتاب الورقي رغم التحديات
تغيرت معالمه كثيرًا لم تعُد كما كانت في السابق منذ عشرين عامًا، أصبح يعج بالباعة الجائلين المحيطين به من كل مكان بنداءاتهم على بضاعتهم التي طغت على ملامح سوق الكتب "سور الأزبكية" أشهر سوق للكتاب في مصر، كان يأتي إليه محبو القراءة من كل حدب وصوب يجدون فيه ضالتهم، كتب قيمة ومخطوطات وحكايات ألف ليلة وليلة، وكتب أجنبية على مختلف أشكالها وأنواعها، الأدب العربي، وأدب أمريكا اللاتينية، مشاهير الكتاب من كل دول العالم كانت كتبهم تتواجد في هذا السوق، الذي كان يتردد عليه منذ عهود قديمة مضت كبار الكتاب والمفكرين أمثال عباس العقاد، ونجيب محفوظ، ومحمد حسنين هيكل، وغيرهم.
هذا السوق لعب دورًا مهمًّا في تشكيل وعي عدد كبير من مثقفي مصر، وكان له دور تنويري منذ بداياته عام 1907 وعلي مدار أكثر من قرن من الزمان، فقد حمل على عاتقه ثقافة شعب. كان يجد فيه الغني والفقير وجبته المشبعة من القراءة، والكتب جميعها كانت في متناول الجميع فما زال الكتاب بجنيه يتصدر عرش سور الأزبكية.
في الفترة الأخيرة تبدلت أحوال المكان وتغيرت معالمه بشكل واضح، وأصبحت هناك العديد من المشكلات تواجه بائعي كتب "سور الأزبكية" أبرزها مشاركتهم في معرض القاهرة الدولي للكتاب بسبب زيادة أسعار الإيجارات من ناحية، ومنعهم من ناحية أخرى نتيجة لاكتشاف عدد كبير من الكتب المزورة. ولحل جميع مشاكلهم قرر بائعو السور القدامى تأسيس جمعية أطلقوا عليها "أصدقاء سور الأزبكية" ولها مقر بجوار الجامع الأزهر، ويرأس مجلس إدارتها الحاج هاشم أقدم بائع في السوق، والذي تعد مكتبته شاهدة على عصور عدة من تاريخ هذا السور، وكان يتردد عليه كبار مثقفي مصر لشراء الغالي والنفيس من الكتب ذات القيمة العلمية والجودة العالية.
وبعد تشكيل الجمعية تم علاج مشكلة الكتب المقرصنة واختفت تمامًا من سور الأزبكية. كما نجحت الجمعية أن تشارك في معرض الدوحة للكتاب العام الماضي، ولازالت تسعى إلى المزيد من المشاركات في المعارض الخارجية.
يقع سور الأزبكية في منطقة العتبة بالقرب من المسرح القومي وجراج العتبة ومسرح العرائس تلك المنطقة التي كانت ولازالت مركزًا للإشعاع الثقافي والفني. وعندما تتجول داخله ستعثر في البداية على مكتبة الإسكندرية لصاحبها الحاج علاء عبد ربه، التي تقع بجانب مترو العتبة، وهي تتواجد في هذا الموقع منذ ما يقرب من خمسين عامًا. مكتبة بسيطة تجمع بين جنباتها عديدًا من الكتب والمخطوطات المختلفة، وعندما تجلس بها ستملأ أنفك رائحة الورق القديم، ولن تقدر على مقاومة الرغبة في تصفح الكتب القديمة. يحدثنا الحاج علاء عن أحوال السور في الوقت الحالي، بصوت يملؤه الحزن على تردي أحوال السور اليوم، ذلك الذي كان يعج بالمثقفين والقراء والمارة من كل مكان.
يقول الحاج علاء: "أعمل في تجارة الكتب منذ أكثر من خمسين عامًا وكنت أتاجر في جميع أنواع الكتب، كان عندي كتب لجميع أساتذة الجامعة المشاهير في القانون، المرحوم فتحي سرور والمحاسبة للدكتور علي عبد الراضي، وكنت أبيع المخطوطات والمجلدات للقراء، راغبي عمل دراسات وأبحاث من أساتذة الجامعة وكبار المفكرين والمثقفين".
ويحكي: "كنت أشتري مكتبة كاملة وقبل اليوم الثاني كنت أبيعها وهكذا وكانت عملية الشراء والبيع تسير بيسر.. كان يصعب عليَّ أن يبيت في جيبي 5000 جنيه، قبل الصباح أتوجه لشراء مكتبة وكنت أبيعها في أقل من يومين.. كان لدينا مكتبات لكتاب كبار وافتهم المنية، اليوم الوضع اختلف كثيرًا ولم نعُد نشتري أو نبيع كتبًا، كما كنا في السابق".
ويضيف: "أساتذة الجامعة كانوا يطبعون أعدادًا كبيرة من الكتب، كنا نحصل على المرتجعات ونبيعها للطلبة بأسعار زهيدة". ويشير الحاج علاء متذكرًا إلى أن الكاتب محمد سلماوي كان يأتي إليه دومًا لشراء الكتب المختلفة. وأيضًا الكاتب وزير الثقافة الأسبق حلمي النمنم، ومحمد الإمام، وكانوا يشترون الكتب غير المتداولة، مثل مجلة الرسالة، ومجلة المجمع، ومقتنيات أخرى كان يملكها علماء وشيوخ وكتاب كبار.
ويواصل: "للأسف لم يعد سور الأزبكية حاليًا كما كان في السابق.. وكأننا أصبحنا مستهدفين لوقف لقمة عيشنا، ولا نجد إقبالًا على شراء الكتب مثل السابق كما أن أسعارها أصبحت غالية بشكل كبير".
وعن حصوله على الكتب القديمة يقول: "زمان كنت ألف على المكتبات خصوصًا مكتبات كبار المفكرين والشيوخ، وكنت أتواصل مع ذويهم، اليوم أصبحت أكتفي بعمل إعلان في الوسيط أو البحث على صفحات السوشيال ميديا". ويشير إلى أن المؤسسات الحكومية نفسها، أصبحت تبيع لنا الكتب المرتجعة بأسعار غالية، لا تتناسب مع قارئ سور الأزبكية الذي يرغب في الحصول على كتاب بسعر رخيص. "كنا نحصل من دار المعارف على كتب رخيصة الثمن، اليوم يبيعون لنا شخصية مصر بـ800 جنيه".
وعن مشاركتهم في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ56 هذا العام يقول: "لم نشارك في المعرض نظرًا لارتفاع أسعار إيجار المتر في الأجنجة". لافتُا إلى أن نسبة المبيعات انخفضت عن ذي قبل: "طبعًا نظرًا لأننا في السوق منذ سنوات عدة، عندي زبوني الخاص لكن المكسب لم يعد مثل السابق".
رغم ما يحكيه الحاج علاء عن عملية البيع والشراء في سور الأزبكية فإنه يتفاءل قائلًا: "الكتاب الورقي سيظل رغم كل الظروف، وخلال عملي في مجال الكتب قرأت الكثير من الطبعات القديمة، منها كتب الفلسفة لزكي نجيب محمود". ويؤكد أن طبعات بولاق تمثل كنزًا بالنسبة لهم، ولها جمهورها الخاص، طبعة بولاق اليوم يصل سعرها إلى 80 ألف جنيه.
حكاية تأسيس جمعية "أصدقاء سور الأزبكية"
وعلى بعد عدة أمتار من مكتبة الإسكندرية استجد أمامك مكتبة "هاشم للتراث"، التي يمتلكها الحاج هاشم أقدم بائعي سور الأزبكية، ورئيس جمعية "أصدقاء سور الأزبكية". يحكي ابنه مصطفى هاشم: "والدي يعتبر أقدم بائع كتب في سور الأزبكية، ودائمًا كان يحكي لي عن وضع السور قديمًا، ومدى الرواج والإقبال على الكتاب الذي كان يشهده السور زمان، وأنه كان يبيع الكتب لمشاهير الكتاب والمفكرين والفنانين أيضًا".
يضيف: "باع للرئيس محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر العربية، وقابله واشترى منه عدة كتب مختلفة، أيضًا كان الكاتب إحسان عبدالقدوس يتردد على مكتبة والدي لشراء الكتب منها وكذلك الكاتبان مصطفى أمين وعلي أمين ... حكى لي والدي أن هؤلاء الأدباء كانوا معتادين على شراء الكتب من مكتبتنا، وأغلب اهتماماتهم تعلقت بالكتب الأدبية والتراثية.. وكان الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل يشتري من عندنا كتبًا سياسية".
ويرى مصطفى هاشم أنه مهما انتشرت الكتب على الإنترنت، فالكتاب الورقي له جمهوره الخاص، وله متعته في القراءة والمعلومة لا تثبت في العقل إلا من خلال تصفح الكتاب الورقي، وليس عن طريق جوجل.
ويشير إلى أن: "الازدحام ووجود الباعة الجائلين بكثافة عالية تسبب في عزوف كبار الكتاب عن المجيء للسور مثل السابق، وكثير منهم يتصل بنا ونرسل له الكتب التي يحتاجها.. وكان المرحوم وائل الإبراشي وعدد من كبار الكتاب يتصلون بنا ويرسلون السائقين الخاصين بهم ويرسلون معهم عناوين الكتب".
ويواصل: "في الوقت الحالي أشاهد إقبالًا من الشباب على قراءة روايات كل من نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس. وأكثر فئة تقبل علينا هم الشباب بشكل دائم، وطبعًا الأسعار في متناول الجميع، وما زال عندنا الكتاب بجنيه".
ويؤكد: "على الرغم أننا نخدم المجتمع، ونقدم للقارئ كتبًا بأسعار زهيدة، لكن للأسف لم نجد تعاونًا من وزارة الثقافة، ولم نشارك في المعرض هذا العام، لأنهم ضاعفوا علينا أسعار الإيجارات وأصبحنا نشعر بالاضطهاد لعدم مشاركتنا في المعرض".
وعن تأسيس جمعية "أصدقاء سور الأزبكية"، يوضح مصطفى هاشم: "لقد أسسناها لحل المشاكل التي يواجهها البائعون في السور، ومحاسبة من يخرج منهم عن النص والاتفاقيات". ثم يشير إلى أن الجمعية وقعت بروتوكول تعاون مع الهيئة المصرية العامة للكتاب خاص بمنع تزوير الكتب وبيعها في السور أو معرض الكتاب، ومن يومها لم يحدث أي تزوير، وكل المعروض من الكتب في السور لها حقوق ملكية فكرية، والجمعية تعمل بشكل منظم وتقع بالقرب من الجامع الأزهر.
وعن معالجة الكتب يقول: "عندنا أدوات نعالج بها الكتب القديمة ونقوم بعمل ترميم للكتب بحسب الإمكانيات العادية وأحيانًا نصرف على الكتاب أكثر من قيمته". ويشير إلى أن هناك ثلاث مكتبات شاركوا في معرض أبو ظبي الأخير بشكل مستقل، لكن الجمعية شاركت بصفتها في معرض الدوحة، كما حصلت على موافقة على المشاركة في معرض الشارقة القادم.
ويؤكد مصطفى هاشم: "أنا ملم بكل الكتب الموجودة في مكتبة والدي حتى أستطيع مساعدة القراء والشباب، الذين يأتون لشراء الكتب، وأي كتاب تم طباعته يكون عليه إقبال حتى لو تُرك لفترة طويلة".
وبسؤاله حول مستقبل الكتاب المطبوع، يرد: "طبعًا الكتاب المطبوع لا غنى عنه لأن باحثي الماجستير والدكتوراه لا بد أن يعودوا للمراجع وهي الكتب المطبوعة، كما أن ليست كل المعلومات متوفرة على شبكة الإنترنت بشكل كامل، لذلك لا أحد يستغني عن الكتاب المطبوع، مهما بلغت درجات توسع وانتشار التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والتجربة أثبتت ذلك، وقيام الشباب بشراء الكتب المطبوعة خير دليل".
وخلال تجوالك في سور الأزبكية ستجد أمامك فجأة أعدادًا كبيرة من كتب الأطفال، وستكتشف أنك أمام مكتبة الحاج حسن طلبة، الذي بدأت علاقته بالسور منذ عام 1984. يقول: "كان الإقبال واسع على شراء الكتب في فترة الثمانينيات، وكنا نعمل أوكازيون على الكتب.. كان الكتاب سعره يتراح من 10 قروش وحتى 15 قرش، وكان يحضر إلينا الكثير من المشاهير.. الكاتب الكبير نجيب محفوظ كان يحضر إلينا ليشتري الكتب، وأيضا الكاتب المسرحي نعمان عاشور، وغبرهم".
ويضيف: "لقد دخلت مهنة بيع الكتب لأني تربيت على القراءة.. عندما كنت طفلًا كنت أقرأ ميكي والألغاز وألف ليلة وليلة، واشتغلت في الثمانينيات في قصص الأطفال، وكان عدد كبير من الشباب يأتون لشراء ميكي والألغاز وتان تان وسمير، سوبر مان وطرزان.. وحاليًّا أركز على الكتب المدرسية حتى أستطيع المواصلة وسط التحديات الكبيرة التي تواجه السوق".
ويشير هنا إلى أن: "هناك إقبالًا على الكتب المدرسية، بسبب رخص أسعارها عن المكتبات الخارجية، خصوصًا بعد زيادة أسعار الورق، ونحن نبيع الكتاب بسعر رخيص".
وخلال جولتك ستلتقي بالتأكيد بمحمود قاسم محامي سور الأزبكية، الذي يملك مكتبة شهيرة في السور، لأنها تهتم ببيع الكتب الأجنبية بمختلف أنواعها، ويعتبر قراؤه من الصفوة، يقول: "أصبحنا نعاني بشكل كبير من وجود الباعة الجائلين وألفاظهم التي يتلفظون بها طيلة اليوم".
"أنا أعمل منذ سنوات في السور وركزت على الأدب الإنجليزي والكتب الأجنبية التي لها جمهور خاص ومتميز، وعدد كبير من الشباب يقبلون على شراء الكتب من عندي، أحمد مراد مثلًا كان يشتري من عندي كتب كثيرة، وأيضًا الكاتب خيري شلبي رحمة الله عليه كان يتردد كثيرًا على مكتبتي.. وفي الماضي كنت أشاهد محافظ القاهرة الأسبق عبدالرحيم شحاتة يأتي السور كثيرًا، لأنه كان عاشقًا نهمًا للكتب، وكان دائمًا يتابع مشاكلنا ويتجاوب معنا".
ويؤكد أخيرًا: "حاليًّا لا نجد أي اهتمام من المسؤولين كما في السابق، ولا نشاهد أحدًا يهتم بمشاكلنا أو يحاول اتخاذ قرارات تساعدنا".
ترشيحاتنا
