فنون
مينا ناجيماذا تبقى من مشهد الراب حاليًّا؟
2024.08.03
مصدر الصورة : آخرون
ماذا تبقى من مشهد الراب حاليًّا؟
كثيرًا ما يقول مؤديو ومستمعو موسيقى الراب: "إننا مللنا من تكرار أغاني الحب الرومانسيَّة التي لا تتكلم عن واقع حياتنا". لتقام مقابلة بين "الأغاني الرومانسيَّة الساذجة" وبين "الكلمات والموسيقى الواقعيَّة"، بين تكرار وتشابه الأولى وجِدة واختلاف الثانية.
ابتلاع وهضم
اعتبرتْ موجة انتشار الراب الأولى على مدى واسع، حوالي سنة 2016، وقبلها صعود موسيقى المهرجانات، في حد ذاتها - نقدًا لأغاني موسيقى "البوب"، التي أصبحت مقولبة بشكل غير مسبوق، من مطلع التسعينيات إلى تلك اللحظة، حتى أن مجرد تغيير مقام التلحين أو شكل الإيقاع أو إدخال مفردة جديدة في الكلمات، تكون مُناسبة للاحتفاء، واعتبارها "تجديد في القالب الموسيقي".
لم تلق موجة الانتشار في البداية بالترحاب، بل بكثير من المقاومة والرفض الهجومي: موسيقى جديدة غريبة على الأذن العامة، غربيَّة المصدر والنمط، كلماتها غير مفهومة وعنيفة وسوقيَّة، والأدهى أنه لا يوجد لحن موضوع لها. لكن لدى موسيقى "البوب"، مثل الرأسماليَّة، القدرة الفائقة على ابتلاع أي شيء وهضمه واستخدامه في صالحها. وهذا ما حدث ويحدث مع كل موسيقى "مستقلة" أو "بديلة" نجحت في تجاوز حدود جمهورها الخاص الأولي.
لا تختفي تلك الأنواع الموسيقيَّة داخل جوف "البوب"، بل توسم بوسمه أيضًا (تحوُّل الراب مثلًا إلى تراب في صراع بين "المدرسة القديمة" و"المدرسة الجديدة" لصالح الأخيرة)، وتشذَّب للاستهلاك العام، على مستوى اللغة (حذف تعبيرات جارحة، سوقية وشتائم، إلخ..) والتوزيعات والموضوعات. أو كما يقول المنظِّر والناقد الموسيقي الإنجليزي مارك فيشر في كتابه "الواقعيَّة الرأسماليَّة" (2009):
"البديل" و"المستقل" لا يشيران إلى شيء خارج الثقافة السائدة، بل هي أنماط، في الواقع، الأنماط المهيمنة، ضمن الاتجاه السائد. لدرجة أنه يمكننا بسهولة الآن التعليق على مشهد موسيقى الراب/التراب، بنفس ما كان يقال هجومًا على "البوب": "مللنا من أغاني تفخيم الذات والحط على الأخصام التي لا تتكلم عن واقع حياتنا".
تغيُّر البوصلة التي ضاعت: "صايع فبعرف التزم"
باستثناء ربما أبيوسف (الذي كان يُسخر منه لغياب التيمات في أغانيه) وشاهين (الذي تحوَّل جذريًّا عما بدأه هو وجيله)، فالجيل المهيمن على مشهد الراب من 2016 صعودًا هو ما يسمى "جيل ما بعد الثورة"، الذين كانوا أحداثًا حين قامت ثورة يناير وانتفاضات الربيع العربي. بوصلة هذا الجيل ليس الاحتجاج الاجتماعي بل التفوق الاجتماعي، قبول الواقع واللعب عليه لا تغييره.
لذا فاستبدال توجُّه السعي لتغيير الواقع ليس لانسداد الأفق السياسي، كما يُدعى دائمًا، أو على الأقل ليس ذلك فقط، بل لأن الواقع نفسه من الأساس أصبح زلقًا ومتلونًا ومتغيرًا بشكل مستمر: القيم والقواعد الاجتماعيَّة التي يُعمل بها اليوم تتغير في الغد، لترجع إلى الأولى ثم تختفي، ليظهر شيء آخر سريعًا. على المستوى الاقتصادي أصبحت فترات العمل واللا-عمل تتتالى بشكل سريع. وانتشر العمل بدوام جزئي أو بالقطعة (فري-لانس) دون أي ضمانات مادية أو رعائيَّة. اكتساب مهارات أو شهادات خبرة في مجال ما لا يعني الترقي المهني فيه على مدى طويل في مؤسسة ثابتة، بل في الأغلب يُطلب اكتساب مهارات جديدة في مجال جديد بعد فترة أعوام قليلة. لا يمكن التخطيط طويل المدى للمستقبل، بل السعي إلى التأمين المادي والإشباع اللحظي، إلخ..
في واقعٍ مثل هذا، يصعب تخيل الإمساك به أو حتى المطالبة بتغييره، تغيير التغيُّر؟ الحل الوحيد إذًا هو اللعب عليه والسعي للوصول إلى أعلى قمته (الماديَّة والاجتماعيَّة) حيث امتلاك الدنانير والبلانكو وفلوس بالكوم بالبانكو، وذلك عبر التفوق في لعبة الترفيه والقولبة الموسيقيَّة السائغة. في سياق كهذا، يفوز نمط أبيوسف الذي يبتعد عن الموضوعاتية (النقديَّة) ويعتمد على السرد الذاتي، وصنع شخصيات خياليَّة داخل أغانيه، مع الاهتمام بالتجديد التقني أكثر من أي شيء آخر.
على عكس ما هو مستقر في مجال الراب تحديدًا، كون الفن هو امتداد للواقع وانعكاس له، بحيث الشخصية في "الشارع" هي نفسها التي في "الإستديو"، أصبحت القاعدة الأساسيَّة الآن، هي التمييز صراحة، بين الشخصية الغنائيَّة، التي غالبًا ما تكون متعالية وقاسية، نرجسيَّة وخطرة، ولا تهتم بالقواعد الاجتماعيَّة، وبين شخصية الفنان في الحقيقة التي هي بالضرورة مقبولة اجتماعيًّا ولطيفة ومحافظة على التقاليد العامة، حتى لا تصدم الحساسيَّة العامة فتعوق انتشار فنها وعوائدها المادية. كما أصبحت القاعدة الآن هو النفور من تناول موضوع اجتماعي معين (باستثناءات بالطبع، تثبت القاعدة، مثل بعض أغاني الجوكر أو الأغاني التي أديت في سياق حرب غزة)، بل سرد الواقع من خلال عدسة الذات، المهلوسة واللاهية أحيانًا، والمتفاخرة والمتعاليَّة أحيانًا أخرى، والاهتمام حصرًا بعالمها الضيق وتفاصيله. وذلك كله في عرض ترفيهي لا يستغرق أربع دقائق.
من بوق الواقع إلى بوق الأيديولوجيا
بهذا المعنى يُعتبر أبيوسف بالفعل سابقًا لوقته، لكن لا يعني هذا أن الراب كان في لحظة من اللحظات، طاقة نقديَّة للمجتمع والأيديولوجيا، ربما حدث هذا في لحظات تاريخيَّة محددة ومحدودة، مثل فترة نشوئه في السبعينيات والثمانينيات في الولايات المتحدة حيث كان تعبيرًا عرقيًّا، وتعليقًا اجتماعيًّا متمردًا. لكن في أغلب الأحوال كان الراب "المعارض" بشكل مباشر فجًّا وسطحيًّا على المستوى الفني والخطابي، مثل كل الفنون المباشرة الدعائيَّة.
تأتي طاقة النقد في الراب، وربما في أنواع الموسيقى المستقلة والبديلة المختلفة، من حيث أنها تعبير أكثر قربًا إلى الواقع وتناقضاته العنيفة، كما حدث في مصر مثلًا حين كان تعبيرًا عن الوضع الضاغط الذي تتعرض له الطبقة الوسطى من الأجيال الجديدة، الذين استطاعوا بوسائل تكنولوجيَّة بسيطة إعطاء شكلًا فنيًّا جديدًا بحسب هذه الحساسيَّة المختلفة. وكما حدث مع ظهور أغاني المهرجانات، بأسلوبها التوليفي، في التعبير عن طبقات أخرى أدنى، تنتمي إلى المناطق الشعبيَّة التقليديَّة والجديدة (التي كانت تسمى عشوائيَّات)، اللتين حدث بينهما تقارب حد الامتزاج، سواء فنيًّا أو شخصيًّا، أثناء عملية الرسملة ومركزة الانتشار السوقي.
ما حدث إثر عملية الابتلاع والرسملة، هو أنه بعد استنكار ادعاء أشياء غير حقيقية عن الذات، مثلما في الترند الشهير لمروان موسى:
"يو دونت هاف ذا رايت تو كول يورسيلف ويست كوست جانجستر عشان أنت معِشتش اللي همه عاشوه"
خرجت في السنتين الأخيرتين موجة من طلبة الجامعات وموظفي الشركات الصغار الذين يصنعون شخصيات عصاباتيّة إجراميَّة فيما يسمى موسيقي "الدريل" التي تمزج بين "التراب" (على جانب البوب - السائد الممثل للأيديولوجيا) توزيعيًّا، و"الجانجستا [العصابات]" (على جانب الراب - التمرديّ/الواقعيّ) أداءً، في تخييل محض، يقول صُنَّاعه تبريرًا اجتماعيًّا، أنهم يعطون جرعة نشاط وثقة بالنفس لمستمعيها، ولا يتبنون أيًّا من القيم التي يتغنون بها.
هذه الثقة بالنفس، غير المبنية على أساس واقعي، متماهية أيديولوجيًّا تمامًا مع نمط الحياة الحالي، فبدون هذه الثقة، حتى لو كانت مُتخيلة، لا يمكن الإنتاج. فالإنتاج المستمر يتعطَّل في ظل وجود شك في الذات وحالة تأمل ومراجعة، التي ربما تتساءل عن حدود هذا الإنتاج ومعناه ومعنى النجاح الذي يحققه، لعلها تسأل لماذا يذهب الواحد إلى قول:
"ما نمتش وسهرت الساعات عشان أعرف أفليكس بساعات"
كما تقول الأغنية الشهيرة.
لذلك كله، هناك حاليًّا الإحساس الخانق بأن نهاية مشهد الراب كمشهد حيوي مُبدِع قد أتت، فبعد موجات متتالية وصلت إلى التجارية الكاملة، أصيب بلعنة الجمود والتكرار والانفصال عن الواقع التي أصابت البوب قبله وتطوَّر وانتشر هو ردًّا عليها.