دراسات

أحمد زكريا الشلق

الجمعية التشريعية (1913-1914) تجربة ديمقراطية وأَدَهَا الاحتلال – الجزء الثالث

2024.11.30

مصدر الصورة : ويكيبديا

الجمعية التشريعية (1913-1914) تجربة ديمقراطية وأَدَهَا الاحتلال – الجزء الثالث

 

كان طبيعيًّا أن تجرى الانتخابات لتأتي للجمعية الجديدة بستة وستين عضوًا منتخبًا.. ويشير لاشين إلى أن إقبال المصريين على انتخابات الدرجة الأولى لم يكن كبيرًا في محافظات القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسويس ودمياط حيث بلغت نسبة الحضور 11.6% بينما بلغت في المحافظات الأخرى 64.9% بسبب مسلك الجهات الإدارية في حمل الفلاحين على الإدلاء بأصواتهم.. ومع ذلك جرت أول معركة انتخابية حقيقية في التاريخ البرلماني المصري عندما رشح سعد زغلول نفسه لعضوية الجمعية في ثلاث دوائر انتخابية، هي الدرب الأحمر وبولاق والسيدة زينب، من دوائر القاهرة الأربع، وكان يطمح لأن يصبح وكيلًا منتخبًا للجمعية، وقد خشي كل من كيتشنر والخديوي من أن يصبح سعد رجل معارضة قويًّا في الجمعية، ولكنه طمأن رسلهما بأنه سيعمل بروح المسالمة، فوعداه بدورهما ألا يتعرضان لانتخابه.

أول معركة انتخابية حقيقية في تاريخ مصر

وما أشعل المعركة أن سعد أصدر بيانًا انتخابيًّا (بروجرامًا) نُشر في الصحف في 29 أكتوبر 1913، كان أول بيان انتخابي في تاريخ مصر، وحذا حذوه الكثير من المرشحين "مما أثار حول الانتخابات رأيًا عامًّا وضجة كبيرة"، وقد تضمن بيان سعد نقاطًا أساسية تتمثل في البحث عن أسباب شكوى الناس من قوانين المحاكم المدنية والجنائية واقتراح العلاجات التي تقتضيها، والعمل على توسيع نطاق التعليم لجميع الطبقات وتيسيره لأبناء الفقراء، وإعطاء الصحافة الحرية اللازمة لارتقائها بوضع قانون يصونها ويصون النظام العام من شططها، وأن يبذل جهوده لإزالة شكوى سكان شوارع القاهرة خاصة سكان الشوارع الوطنية (يقصد الشعبية)، والاهتمام بحاجات المزارعين في شؤون الري والزراعة ورفع أسعار القطن.. إلخ، وقد خلا البيان من تحديد المسائل التي تهم الأمة في ذلك الوقت تحديدًا قاطعًا، إذا ما قورن بغيره من البيانات، وعلقت عليه بعض الصحف، كما ذكر لاشين، بأنه يردد الأقوال العادية المحفوظة.. وأنه عندما كان ناظرًا لم يضمن لأهل بلده تحقيق شيء مما يعدهم به الآن.

المهم أنه دبت الروح في الانتخابات وتوالت الاجتماعات والخطب، وكان لسعد وأنصاره من رجال الحزب الوطني دور بارز فيها، حتى ظفر سعد بالفوز في دائرتين هما بولاق والسيدة، ثم تنازل عن الدائرة الأولى لكي يفتح باب الترشح فيها. بعد ذلك التقى سعد بكيتشنر في 24 ديسمبر 1913 وهنأه المعتمد بالفوز معبرًا عن رغبته في أن يعمل لمصلحة البلاد وأن يهتم بالجمعية، وأراد أن يلفت نظره بعدم الحدة مع خصومه، فطمأنه سعد بأن ذلك ربما يحدث في المحادثات العادية لكنه يضبط نفسه في المسائل الرسمية، ثم تحدثا عن المشروعات التي ستعرض على الجمعية والخطة التي ستتبع بشأن كل مشروع منها.

وقد أسفرت الانتخابات عن فوز 65 عضوًا منهم 49 من ملاك الأراضى و8 محامين، و4 من التجار، و3 من رجال الدين، ومهندس واحد، أما العضو رقم 66 فلم يكن قد تم انتخابه بعد. ويلاحظ أن 21 عضوًا من الفائزين في هذه الانتخابات كانوا أعضاء سابقين في مجلس شورى القوانين أو الجمعية العمومية.. كما أن منهم 14 عضوًا يحملون لقب باشا، و38 لقب بك، و8 لقب أفندي، و6 لقب شيخ، مما يعد انعكاسًا للشروط المقررة في قانون الانتخاب[1].

وفى يوم 22 يناير 1914 افتتح الخديوي عباس حلمي الثاني دور الانعقاد الأول للجمعية التشريعية بسراي وزارة الأشغال (مكان مجلس الشيوخ قبل ثورة يوليو) في احتفال وصفه محمد فريد في مذكراته بأنه تغرير بالأمة، وإيهام لها بأنها نالت شيئًا يذكر، ولكن الحزب الوطني لم يتركها تحت هذا التأثير، فاجتمعت لجنته الإدارية وقررت إرسال برقية للخديوي بأن هذه الجمعية ليست هي ما تطلبه الأمة، بل إنها تطالبه برد الدستور، وأرسلت البرقية فعلًا ونُشرت بصحيفة "الشعب"، كما أورد فريد أيضًا أن الحزب الوطني نظم مظاهرة على طول الطريق بين نظارة الأشغال وسراي عابدين تهتف للخديوي بطلب الدستور.

كذلك أرسلت جمعيات الطلبة بأوربا عرائض لرئيس الجمعية أحمد مظلوم يطلبون فيها إلغاء القوانين الاستثنائية والعفو عمن حكم عليهم بموجبها، وقد نُشرت هذه العرائض في صحف "الشعب" و"الجريدة" و"الأهرام".. وأضاف محمد فريد بأنه ما أساء الأمة في يوم الافتتاح وقوف العساكر الإنجليز على جانبي جزء من الطريق ساعة الاحتفال بينما كانت الجنود المصرية في الجزء الثاني، وهذا الاشتراك يقصد به الإنجليز إظهار سلطتهم ووجودهم.. وما أساء الأمة كذلك دعوة كيتشنر لجميع أعضاء الجمعية لتناول الشاي عنده في 21 ديسمبر 1913 أي قبيل الاجتماع.. ووصف فريد خطبة الخديوي في افتتاح الجمعية بأنها "ركيكة ولا شيء فيها عن التعليم أو السياسة، بل كلها حض على الاشتغال بالزراعة وترقيتها، وقد انتقدها أمين أفندي الرافعي انتقادًا أعجبت به كثيرًا"[2].

وفيما يتصل بالمنافسة الحزبية في الانتخابات وداخل البرلمانات، أشار يونان لبيب إلى أن الكثيرين يظلمون التاريخ البرلماني المصري عندما يتحدثون عن نشأته الأولى ويرون أنه قد ولد ولادة مبتسرة، لم تنبثق عن منافسة حزبية، وإنما تكون من عُمَد ومشايخ الريف ووجوه المدن وأعيانها، وهذا التكون كان أشبه بالاختيار منه بالانتخاب، وهم في ذلك يقارنونه بالمجالس النيابية العريقة التي عرفتها إنجلترا وفرنسا، تلك التي نشأت قبل المجلس المصري بنحو خمسة قرون، وأنها نشأت من لوردات وبارونات، ممن احتلوا نفس مكانة العمد والشيوخ والوجوه، وكان هؤلاء، بعد تطورات اقتصادية واجتماعية طويلة هم الذين صنعوا هذه الأحزاب لتدافع عن مصالحهم وانخرطوا في المجالس النيابية.

ويعتقد أن شيئًا من هذا كاد يحدث في مصر خلال السنوات التي ظهرت فيها التجربة الحزبية الأولى (1907-1914)، التي ظهرت فيها ثلاثة أحزاب رئيسية هي: حزب الأمة والحزب الوطني المصري وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، وكانت نسبة كبيرة من نواب مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية من أعضاء هذه الأحزاب، وكان متوقعًا أن تمر الحياة البرلمانية المصرية آنذاك بما مرت به الأمم البرلمانية العتيدة، ولكن ذلك لم يحدث، فلم يتوفر للهيئتين الحد الأدنى من الاستقلالية، حيث لم تسمح سلطات الاحتلال البريطاني بذلك، ومن هنا طالب الحزب الوطني بمجلس نيابي تام السلطة، وهو ما قاومه الإنجليز بتصميم..، ويضيف يونان أن فكرة الصراع الاجتماعي التي تنشأ في أحضانها عملية التنافس الحزبي بشأن دخول البرلمانات، كانت غائبة عن بعض أطراف العمل السياسي، وربما كانت من قبيل الترف الذي لا تحتمله قوى وطنية رأت أن ذلك يمزق الصف الوطنى ويمكِّن من استمرار الوجود الاحتلالي.

ويلاحظ أن حزب الأمة قد فطن، حيث كان يضم الأعيان والوجهاء والمثقفين، وقد وجد هؤلاء أنهم يستحوذون على الأغلبية في الجمعية العمومية (19من 46 منتخبًا) كما ضم مجلس شورى القوانين (10 من 30 عضوًا)، وعندما تحدث علي شعراوي، عضو مجلس شورى القوانين ووكيل حزب الأمة، في إحدى المسائل المعروضة في جلسة 31 يناير 1910، باعتباره يمثل زملاءه من حزب الأمة الموجودين بالمجلس، قاطعه الرئيس بأنه لا يوجد في المجلس أحزاب مختلفة، فطلب شعراوي باسم زملائه ترك الحديث في هذا الموضوع.. وسوف يثبت فيما بعد أن نواب حزب الأمة، رغم التمثيل الكبير نسبيًّا في الهيئات شبه النيابية لم يعملوا باعتبارهم هيئة برلمانية لحزب سياسي، وإنما بصفاتهم الشخصية دون برامج أو انتماءات حزبية، مما يمكن القول معه إن هذه المجالس قد تكونت من مجموعة من المستقلين[3].

ومن خلال متابعة انتخابات الجمعية وبروز شخصيات سياسية لها وزنها ونجاحهم في الانتخابات، أُشيع أن سعد زغلول وعبد العزيز فهمي، وهما من أنصار وأصدقاء حزب الأمة، سوف يشيعان روحًا جديدة وسيتوليان زعامة المعارضة فيها، حتى إن الحكومة رأت أن تتخلص من خطرهما داخل الجمعية، فحاولت تعيين سعد زغلول وزيرًا، لكنه طلب استشارة أنصاره وناخبيه، كما عرضت الحكومة وظيفة مستشار بالاستئناف على عبد العزيز فهمي ولكنه أبى، وقد علقت صحيفة "الجريدة" على ذلك بأن الحكومة لم تقصد حرمان الجمعية منه فهي تحتكر بيدها كل السلطة ولا ترى أمامها إلا جمعية شورية غير قادرة على إسقاط الوزارة، وأكدت الصحيفة عدم خشية الوزارة من "أحرار الجمعية" وربما كان عبد العزيز فهمي مدينًا بما أحرزه من مستقبل سياسي مرموق فيما بعد لفترة نشاطه بالجمعية التشريعية على الرغم من قصر عمرها[4].

ومن جانب آخر كان الحزب الوطني يأمل أن يكون له أنصار كثيرون ضمن أعضاء الجمعية، خاصة وأن الحزب رشح ودعم سعد زغلول "بعد أن عاهدناه أن يكون معنا قلبًا وقالبًا وأشهر هذا التعهد" وعندما علم محمد فريد بذلك، وهو خارج مصر أرسل خطابًا يطلب إليهم أن يعلن سعد انضمامه للحزب "بعد أن تأكدوا من إخلاصه وأن قصده لم يكن الاستعانة بنا للوصول إلى الوزارة ثم ينقلب.."، بل إن فريد عندما واتته أخبار من مصر تفيد بتقدم الحزب الوطني وتقوية مركزه عن ذي قبل، وتنبئ عن السعي في تشكيل حزب معارضة في الجمعية يكون تحت رئاسة سعد زغلول، كتب لأنصاره في 31 يناير 1914 بأن "يجتهدوا في إدخال سعد باشا في اللجنة الإدارية وانتخابه وكيلًا للحزب الوطني"[5]، ولكن هذا الأمل لم يتحقق بطبيعة الحال، فقد كان سعد يعلم الطريق الذي ينبغي عليه أن يسلكه والذي لا يتفق مع موقف الحزب الوطني من اللورد كيتشنر وسلطات الاحتلال بمصر.

افتتاح الجمعية وممارسة نشاطها

وفي يوم الخميس 22 يناير عام 1914 انعقدت الجلسة الافتتاحية للجمعية التشريعية برئاسة أحمد مظلوم، وحضور محمد سعيد رئيس النظار وناظر الداخلية، والنظار: حسين رشدي (الحقانية) وإسماعيل سري (الأشغال العمومية والحربية) وأحمد حشمت (الأوقاف) وأحمد حلمي (المعارف) ويوسف وهبة (الخارجية) وسعيد ذو الفقار (المالية) ومحمد محب (الزراعة)، وحضور عدلي يكن (الذي عين وكيلًا للجمعية في 23 ديسمبر 1913) وسعد زغلول (الذي انتخب وكيلًا للجمعية في 22 يناير 1914) ثم سجلت المضبطة أسماء الأعضاء جميعًا بأسمائهم دون وظائف، وكان كاتب الجلسة والسكرتير العام مصطفى كامل الخولي.

وحضر الخديوي عقب هذا الاجتماع، وافتتحت الجمعية بأمره فأدى رئيس الجمعية التشريعية بين يدي الخديوي اليمين الذي تعهد فيه بأن "يؤدى وظيفته بالصدق للحضرة الفخيمة الخديوية والطاعة لقوانين القطر" ثم أدى رئيس النظار والنظار نفس اليمين، وكذلك وكيل الجمعية وباقي الأعضاء الواحد تلو الآخر، ثم ألقى الخديوي خطبة الافتتاح، وأعقب ذلك بأن هتف رئيس الجمعية: "يعيش خديوينا ولي النعم" ثلاثًا وتبعه الحضور مكررين الهتاف.. وتوقفت الجلسة خمس دقائق حتى بارح الخديوي القاعة، ثم توقفت الجلسة حتى تتوجه هيئة الجمعية إلى سراي عابدين لتقديم الشكر للجناب العالي الخديوي، وأخيرًا أعيد انعقاد الجلسة في الثالثة بعد الظهر، وتقرر انتخاب الوكيل علنًا بالاقتراع والنداء بالاسم، فانتخب سعد زغلول بأغلبية 65 صوتًا.

وبدأت الجمعية اجتماعاتها الأولى تناقش وضع لائحة داخلية لها تنظم عملها، فشكلت لجنة لوضع اللائحة ضمت 15 عضوًا كان سعد زغلول بينهم، وانشغلت الجمعية خلال جلساتها الثلاث عشرة الأولى تقريبًا (2 فبراير حتى 22 مارس) بوضع هذه اللائحة، وهي الجلسات التي أثيرت فيها مشكلة من يحق له رئاسة الجمعية من أحد الوكيلين، المعين أم المنتخب، في حالة غياب الرئيس؟ وفي إحدى الجلسات (3 فبراير 1914) حدث خلاف بين لجنة وضع اللائحة الداخلية والحكومة التي أرادت أن يكون من سلطة رئيس الجمعية إخراج العضو الذي يتكلم فيما هو خارج اختصاصها، بينما رأت اللجنة أن هذا الحق للجمعية دون غيرها.. وقد سلمت الحكومة للجنة بهذه النقطة لكنها كسبت منها نقطة أخرى هي جعل الجلسات سرية في بعض الأحيان إن رأت الحكومة ذلك.. وهذا أمر مخالف للقانون الأساسي.

وخلال هذه الجلسات (جلسة 4 فبراير) عند مناقشة موضوع لجان الجمعية، طلب سعد زغلول حفظ حق الجمعية في مناقشة القوانين التي صدرت بتشكيل نظارتي الأوقاف والزراعة، حتى لا تقول الحكومة "إنكم صدقتم ضمنًا على وجود هاتين النظارتين عندما شكلتم لجنتين لنظر مشروعهما فليس لكم حق الاعتراض"[6]، وفي إحدى هذه الجلسات (10 فبراير) طالب عبد العزيز فهمي بأن كل محاضر الجلسات، سرية كانت أو علنية، يجب نشرها بدون استثناء، لا فرق بين محاضر اللجان العامة أو المؤتمرات أو الجلسات المنعقدة بمقتضى المادة 14 أو المادة 25 من اللائحة، فوافق الأعضاء. كما حدث خلاف في نفس الجلسة بين سعد زغلول ومحمد سعيد رئيس النظار بسبب ما أثاره الأخير حول ما ورد في محضر الجلسة السابقة بشأن بعض مواد اللائحة الداخلية، فرأى سعد أن ذلك ليس من حقه، واحتج عليه بشدة في مناقشة طويلة انتهت بالموافقة على محضر الجلسة السابقة..

بقيَ أن ندخل سراي الجمعية لنتابع نشاطها والقضايا التي ناقشتها.

***

القضايا التي ناقشتها الجمعية

مشكلة الوكيلين: أما مشكلة أي الوكيلين يتولى رئاسة الجمعية في حالة غياب الرئيس: عدلي يكن الوكيل المعين أو سعد زغلول الوكيل المنتخب، فقد أثارها العضوان السيد أبو علي والشيخ عبد الرحيم الدمرداش (في جلسة 2 فبراير) وهما من حزب الأمة، وكتب لطفي السيد أن المسألة ليست مهمة، وإن عاد ليذكر أن الوكيل المنتخب هو الأحق، وأن الأمة لا بد أن تجادل عن حقها في جعل وكيلها هو النائب عن الرئيس، ولكن الجلسة انتهت دون أن تحسم المسألة.

وأثيرت المشكلة مرة أخرى (في جلسة 24 فبراير) عند استكمال مناقشة باقي مواد اللائحة الداخلية، فجرت مناقشة طويلة بين الأعضاء وبين رئيس النظار الذي ذكر أن الحكومة ترى أن تكون الرئاسة للوكيل المعين، غير أن سعد تصدى له ليوضح أن المسألة لا تتعلق بشخص الوكيلين قدر تعلقها بحق الأمة في تقديم الوكيل المنتخب عنها على زميله المعين من قبل الحكومة، وعلَّق سعد على تصريح لرئيس النظار ذكر فيه: "هذا حق الحكومة وسننفذه" فسأله سعد: "هل ستنفذه بالقوة؟ لقد ذكرها عطوفة الرئيس وقال لا نريد أن نلتجئ إلى القوة.. إذن إلى أي شيء تريد أن تلتجئ إن لم تلتجئ إلى القوة؟ نحن لن نسلم لك بهذا الحق أبدًا". ويذكر لاشين أن هذه المناقشات أثارت عواطف الرأى العام فخاضت فيها الصحافة بين مؤيد لموقف سعد ومعارض له[7].

وفي جلسة 17 مارس 1914 عادت الجمعية التشريعية لمناقشة المسألة عندما اقترح بعض الأعضاء المؤيدين للحكومة إدخال نص جديد على اللائحة الداخلية للجمعية يقضي بأن يقوم الوكيل المعين مقام الرئيس في حالة غيابه، فإن غاب يقوم مقامه الوكيل المنتخب، وقد حاول المعارضون بزعامة سعد منع مناقشة هذا الاقتراح لعدم قانونيته، ولكن المعارضة أحست بضعف مركزها أمام إصرار الآخرين على الاقتراح فانسحب سعد ومعه ثمانية وعشرون عضوًا، وصار عدد الحاضرين أقل من العدد القانوني، فتقرر فض الجلسة على أن تعود للانعقاد في اليوم التالي لاستمرار دراسة الاقتراح، ويلاحظ أن صحيفة "الجريدة" الناطقة بلسان حزب الأمة انتصرت لفريق المعارضين ولقبتهم بالأحرار وهنأت الأمة بهم وبموقفهم الذي أدى إلى انسحاب سعد بهم "مما ثبت أن لدينا في المجلس ثلثه على قدرة واتفاق في الآراء"، وقد تقدم حمد الباسل وعلي شعراوي بحل وسط فاقترحا أن الرئيس يعين أحد الوكيلين بالمناوبة بينهما، كما قدم عبد العزيز فهمي اقتراحًا يجعل الإنابة للوكيل الأكبر سنًّا، ولكن رُفض هذا الاقتراحان[8].

وعندما عادت الجمعية لمناقشة المسألة في جلستها التالية نبَّه أحد الأعضاء بأن الموضوع تافه جدًّا وليس من مصلحة الأمة في شيء.. وناشد الأعضاء ألا ينشقوا على أنفسهم "حتى لا يجعلوا الأمم الأخرى تقول بأننا لم نصل بعد لمعرفة واجباتنا"، وأخيرًا انتهت المسألة في جلسة 19 مارس 1914 عندما تقرر إجراء تصويت، جاءت نتيجته في صالح أولوية الوكيل المعين (بنسبة 44 ضد 32 صوتًا) وبذلك حسمت المسألة لصالح الحكومة، وأدخلت مادة جديدة في اللائحة الداخلية تقضي بأن يحل الوكيل المعين محل الرئيس عند غيابه، وإذا غاب المعين يحل محله الوكيل المنتخب، وإذا غاب كلاهما تكون الرئاسة لأكبر الأعضاء سنًّا.. وحمَّلت "الجريدة" الحكومة مسؤولية تصرفها وهنأت الأمة "بالحريين" وهكذا أضاعت الجمعية أربع جلسات في مناقشة هذه المسألة، وأضاعت نحو شهرين من عمرها في وضع اللائحة الداخلية ومسألة الوكالة، وهي أمور لا علاقة لها بالمصالح الحقيقية للأمة[9].

ومن المسائل العامة التي ناقشتها الجمعية التشريعية مشروع ميزانية عام 1914، والتي بدأت باقتراح من عبد العزيز فهمي مؤداه أن كل لجنة من اللجان تدرس الفصل الخاص بها ثم تقدم تقريرًا إلى اللجنة المالية فيتوزع العمل وتكون كل لجنة على بينة بميزانية النظارة المكلفة ببحث أعمالها، وقد رفض الاقتراح على أهميته ووجاهته 42 عضوًا مقابل 28 عضوًا، كما لم يصوت إلى جانبه معظم المنتمين لحزب الأمة، وإن كان قد حظي بتأييد مجموعة كبيرة من "الأحرار" ورجال الحزب الوطني.. وقد طالب عبد العزيز فهمي بأن يشترك النظار في الإجابة على أسئلة الأعضاء واستفساراتهم، وإلا فما معنى وجودهم؟ فرد عليه ناظر الحقانية بأن القانون هو الذي أوجدهم، فطلب فهمي من النظار "أن يجيبوا الآن على الأسئلة الظاهرة البسيطة التي لا تحتاج إلى بحث". بيد أن عبد العزيز فهمي الذي بدا برلمانيًّا حاذقًا واعيًا لم يكن وعيه يتعدى حدود الطبقة التي خرج من صفوفها، فحين علق أحد الأعضاء على زيادة إيرادات الميزانية بأن معظمها يؤخذ من الفلاح عن طريق الضرائب الفادحة الشديدة الوطأة عليه الخفيفة على سواه، وطلب تعديل الضرائب بحيث تتحمل البضائع الكمالية والمشروبات وأوراق اللعب وأسهم وسندات الشركات سهمًا عادلًا من هذا العبء، علق فهمي "بأن هذه أمنية جميلة وتؤجل في التقرير إلى القسم الخاص بالأماني" فوافقه الأعضاء ببساطة شديدة رغم أن الأمر يتعلق بنفس الفقرة الجاري مناقشتها.

وقد عبر حمد الباسل عن نفس المصالح في تعليقه على الميزانية فطلب إلى الحكومة بيع أطيان الدومين -أو ما تبقى منها- بالطريقة التي اُتُّبعت في بيع أراضي الدائرة السنية لأنها بيعت للأهالي بأقساط مريحة، وحتى تتخلص الحكومة من أعمال الزراعة والإدارة وما تنفقه في سبيلها، لأنه ليس في الإمكان أن تكون حكومة وزارعة في آن واحد، وطالب بتخصيص ميزانية أكبر لنظارة الزراعة، فرد عبد العزيز فهمي بأنه -أي الباسل- يريد أن يجعل ناظر المالية "يأخذ من أموالنا" فعلق الباسل بأنه "سيصرف في الوجوه المفيدة للأمة".

وتكررت المواقف المتعارضة لرجال حزب الأمة داخل الجمعية التشريعية في أكثر من مناسبة، فحين اقترح أحدهم (محمد علوي جزار) أن تخفف نظارة المعارف العمومية رسوم الامتحانات وتعفي الفقراء منها وتقبل جميع طلبات دخول المدارس العليا من متوسطي الحال وإنشاء مدرسة ثانوية لتعليم الفقراء، طلب عبدالله أباظة -وهو من المنتمين لحزب الأمة- تأجيل هذه الاقتراحات على اعتبار أنها خارجة عن موضوع مناقشة الميزانية، وأيده عبد الرحيم الدمرداش وعبد العزيز فهمي وكثير من رجال حزب الأمة[10].

ومن الموضوعات التي أثيرت داخل الجمعية كثرة العرائض التي قدمها المواطنون، الأمر الذي أدى بسعد زغلول "وكيل الجمعية المنتخب وعضو لجنة العرائض والاقتراحات" إلى أن يقترح (في جلسة 18 إبريل 1914) ألا تنظر الجمعية في عريضة تقدم من الأهالي ما لم يكن مصدقًا عليها من جهة حكومية، معللًا ذلك بكثرة العرائض وضمانًا لمعرفة جنسية مقدميها، فعارضه الأعضاء لأن في ذلك تضييقًا على الأهالي وإحراجًا لهم، لأن عرائضهم كثيرًا ما تناقش أمورًا لا توافق عليها الجهات الإدارية.

وفيما يتعلق بقضايا التعليم، قدمت (في جلسة 24 مارس 1914) طلبات بشأن إنشاء مدرسة ثانوية للفقراء تضم أربع مئة تلميذ، ورجاءً إلى نظارة المعارف العمومية بقبول جميع الطلاب الذين يرغبون في الالتحاق بالمدارس العليا ممن يحوزون الشروط، خاصة مدرستي الطب والمهندسخانة، وتخفيض رسوم الامتحانات العمومية وإعفاء الطلبة الفقراء منها.. وقد أحيلت هذه الاقتراحات إلى اللجنة المختصة، وقد رفضت لجنة العرائض اقتراحًا بزيادة المصاريف المدرسية على أبناء الأغنياء وتخفيضها بنسبة تلك الزيادة على أبناء الفقراء مساعدة لهم على التعليم وتعميمه بين جميع الطبقات وتيسيره على الفقراء (جلسة 6 مايو 1914).

والثابت أن سعد زغلول وقف مدافعًا (في جلسة 13 يونيو 1914) عن الجامعة (الأهلية) وتعجب من أنه لا يسمح لها أن تعطي شهادات وأن الحكومة لم تقدر قيمة الشهادة التي تعطيها الجامعة، مع أنه مضى على تأسيسها سنوات عدة، وأن الشهادة احتكار لنظارة المعارف ومع كونها محتكرة لا تريد النظارة أن تقبل في الامتحان من لم يكن تلميذًا في مدارسها، والمدارس تضيق على الطالبين، وطالب سعد النظارة بالتوسع في إنشاء المدارس التي تكفى لتعليم الأبناء[11].

وعندما طلب بعض الأعضاء من حسين رشدي رئيس النظار أن يوضح للجمعية مدى رقابة الحكومة على الشركات الأجنبية حماية لحقوق المواطنين، امتنع رشدي عن الإجابة، وأيده سعد زغلول معلقًا على ذلك بأن للناظر الحق في أن يجيب عن أي سؤال أو لا يجيب (جلسة 6 مايو 1914).

ومن الموضوعات المهمة المتعلقة بالتضييق على الحريات، ما أثاره العضو عبد اللطيف المكباتي (في جلسة 21 مايو 1914) بأن الجرائد كتبت أن بعض موظفي نظارة المعارف العمومية شرعوا في تقديم عريضة للخديوي أو لرئيس الجمعية التشريعية استعمالًا للحق الذي خوله القانون النظامي من حيث الحرية المطلقة في تقديم العرائض (المادة 25)، وذكر أن النظارة لمَّا علمت بذلك أرسلت مندوبًا للتحقيق وضبط العريضة، ففعل وأرسلها للنظارة التي اعتبرت أن استعمال ذلك الحق جريمة وعاقبتهم إداريًّا وهددتهم بمضاعفة العقوبة إن عادوا إلى ذلك، وتساءل المكباتي: "هل يوجد أمر وزاري يخرج المعلمين من هذا الحق دون باقي المصريين؟ وهل يصح أن يُلغى القانون النظامي لطائفة من المصريين بأمر وزاري؟"، فأجاب أحمد حلمي ناظر المعارف العمومية بأن الوزارة لم تمنع كل مدرس على انفراده من تقديم عريضة للجمعية، إذ إن هذا الحق مكفول لكل مصري، إنما منعت اشتراكهم في تقديم عريضة، وهذا الاشتراك ممنوع منعًا باتًّا بمقتضى المادة 119 من قانون نظام المدارس ونصها "محظور على كل موظف من موظفي المدارس التابعة لنظارة المعارف أن يشترك في تقديم عريضة أو مظاهرة عمومية"، وهذه المادة وضعت لمنع التحريض على مخالفة الأوامر والحض على الاعتصام والمظاهرات أيًّا كان نوعها.[12]

وقد رفضت الجمعية التشريعية اقتراحات ومطالب من بعض المواطنين، منها ما يطالب بتعديل قانون المطبوعات بحيث يجوز إيقاف التنفيذ في جميع الجنح والجنايات، وكانت حجة لجنة الاقتراحات في الرفض أن الوقت لم يحِن بعد، ومنها أيضًا ما كان يلتمس النظر في شأن الضباط المرفوتين في الواقعة (الثورة) العرابية ومساعدتهم رأفة بهم، وكانت حجة اللجنة "أن الموضوع شخصي" (جلسة 3 مايو 1914).

وعند مناقشة الجمعية مشروع ردم البرك والمستنقعات، الذي يقضي بإلزام الأهالي بالقيام بذلك، اقترح أحد الأعضاء تطبيق القانون على الحكومة أيضًا بحيث تقوم هي الأخرى بردم مستنقعاتها أو تجفيفها، عارض رئيس النظار ذلك بشدة ووصف الاقتراح بأنه " ثوروي" ورفض الاقتراح[13].

واختتمت الجمعية التشريعية دور انعقادها الأول بعد خمس وأربعين جلسة في 17 يونيو 1914 بعد أن تقرر عودتها إلى الانعقاد في أول نوفمبر 1915 إلا أن قيام الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وإعلان الحماية البريطانية على مصر وما أحاط بها من ظروف داخلية وخارجية، حال دون انعقادها، فصدر عن الخديوي أمر عالٍ بتأجيل انعقادها إلى أول يناير 1915 "نظرًا للظروف الحالية التي من ِشأنها أن توقف وضع منهاج نظامي للإصلاحات التشريعية، فضلًا عن أن تلك الظروف قد تضطر السلطة التنفيذية إلى اتخاذ تدابير استثنائية ومستعجلة"، ثم ظلت تؤجل بثلاثة مراسيم تالية (حتى 15 فبراير، و15 إبريل، وأول نوفمبر 1915) إلى أن صدر مرسوم سلطاني "بتأجيل اجتماعها، وبإيقاف العمل بأحكام القانون النظامي بالتجديد الجزئي فيها وفي مجالس المديريات، وإلى ميعاد يكون تعيينه بمقتضى مرسوم يصدر فيما بعد"، أي إن اجتماعاتها تأجلت لأجل غير مسمى[14].

وبطبيعة الحال لم يقدر للجمعية أن تنعقد في ظل تطورات الحرب وانعكاساتها على مصر، التي ظلت دون هيئة نيابية نحو عشرة أعوام حتى صدور القانون رقم 10 في 29 إبريل سنة 1923، بإلغاء جميع ما تعلق بالجمعية التشريعية من أحكام القانون النظامي رقم 29 لسنة 1913، وذلك عقب صدور دستور 1923.

بقيَ أن نلقي نظرة أخيرة على ما جنته مصر من الجمعية التشريعية خلال دور انعقادها الوحيد.. ومن الواضح أن قانون الجمعية التشريعية حال بينها وبين المطالبة بالاستقلال ومناقشة سياسة الاحتلال، وقد ذكر "الرافعي" أنها لم تُعنَ بالمطالب الكلية للحركة الوطنية، ولا احتجت على القوانين الاستثنائية المقيِّدة للحريات وخاصة قانون المطبوعات وقانون الاتفاقات الجنائية، ولا اعترضت على مصادرة حرية الصحافة، وحرية الاجتماع، ولا فكرت في طلب العفو عن المحكوم عليهم في القضايا السياسية، وفى مقدمتهم محمد فريد، كما لم تُعنَ بإصلاح أوضاع الفلاحين والعمال، وأضاعت جلسات في مناقشة مسألتي أي الوكيلين أولى بالرئاسة إذا غاب الرئيس، ومع ذلك يمكن القول إن الجمعية تحولت إلى مدرسة تدرب فيها كثير من السياسيين على أساليب المعارضة الوطنية، كما شهدت بروز أسماء سعد زغلول وعدلي يكن وحسين رشدي وعبد العزيز فهمي وعبد الخالق ثروت.. وغيرهم، فضلًا عن أعداد من المحامين والأعيان ممن احترفوا العمل السياسي فيما بعد وأمسكوا بزمام الحركة السياسية المصرية.


1- حول هذه التطورات راجع لاشين، مرجع سابق، ص 191-198، وبه اقتباسات عن مذكرات سعد زغلول وكتابات صحف المقطم والوطن والجريدة في شهر نوفمبر 1913 بشأن المعركة الانتخابية.

2- أوراق محمد فريد: مصدر سابق، ص 135-136، وراجع نص برقية الحزب الوطني إلى الخديو بكتاب الرافعي: محمد فريد، ص 384، ونص خطبة الخديو في حفل الافتتاح، وكذلك أورد أسماء الفائزين في الانتخابات 380-384.

3- راجع يونان لبيب: مرجع سابق، ص 58-61، وأحمد زكريا الشلق: حزب الأمة، ص 226،250-251.

4- أحمد زكريا الشلق: مرجع سابق، ص 247-248.

5- أوراق محمد فريد: مصدر سابق، ص 130،137.

6- عبدالخالق لاشين: مرجع سابق، ص 201.

7- لاشين المرجع نفسه، ص 200-206، والشلق: المرجع نفسه، ص 248.

8- أحمد زكريا الشلق: المرجع السابق، ص 248.

9- انظر هامش رقم 7.

10- راجع جلسات 24،22،19 مارس 1914 في مضابط الجمعية التشريعية، وقد قدمت في هذه الجلسات اقتراحات على جانب كبير من التطور والوعي، خاصة إلغاء القوانين المقيدة للحريات والنظر في حال الفلاحين والعمال، والاعتراف بنقابات العمال، والعفو عن المجرمين السياسيين، وسن قوانين لمراقبة المرابين، وتسعير أصناف الحبوب واللحوم وغيرها (خاصة جلسة 24 مارس 1914) وقد قدمت هذه الاقتراحات من أعضاء لا يمتون بصلة إلى حزب الأمة، راجع أحمد زكريا الشلق، مرجع سابق، ص 249-250.

11- عبدالخالق لاشين: مرجع سابق، ص 206-208.

12- مضابط الجمعية التشريعية، الجلسة رقم (29) في 21 مايو 1914.

13- المصدر نفسه: الجلسة رقم (34) في 30 مايو 1914.

14- الأمر العالي بالتأجيل الأول صدر في 18 أكتوبر 1914 بالوقائع المصرية بتوقيع حسين رشدي نيابة عن الخديوي عباس حلمي الثاني، أما مراسيم التأجيل الثلاثة التالية فقد صدرت باسم السلطان حسين كامل (نصوصها بالوقائع المصرية في 30 ديسمبر 1914 و13 فبراير 1915 و12 إبريل 1915)، أما مرسوم السلطان بتأجيلها إلى أجل غير مسمى فقد صدر بتوقيع السلطان والوزراء بالوقائع المصرية في 28 أكتوبر 1914.