ثقافات

ممدوح حبيشي

الخضر ومار جرجس الأولياء في الثقافة الشعبية – الجزء الثاني

2024.09.14

مصدر الصورة : ويكيبديا

الخضر ومار جرجس الأولياء في الثقافة الشعبية – الجزء الثاني

 

ثانيًا مار جرجس

عندما كنت صغيرًا في بني سويف مسقط رأسي، كنت كلما دخلت محلًّا أو ورشة يملكها قبطي كانت دائمًا حوائط المكان تتزين بإحدى أيقونتين وربما بالاثنتين معًا: أيقونة العذراء (العدرا) كما نطلق عليها بالعامية هناك، وصورة مار جرجس وهو يمتطى صهوة جوادة متدرعًا بدرع الفرسان اللامع وهو يطعن كائنًا مخيفًا يجمع بين التنين والثعبان، طالما تعلق ناظري بتلك الأيقونة أكثر، ربما للحركة المودعة بها والحكايات المثيرة العديدة التي تحكيها والأخرى التي تُلمِّح لها، وأبواب الخيال التي تفتحها على مصراعيها داخل عقلي القلق وقتها، فُتِنت به، وعندما حكوا لي حكاياته فُتِنت به أكثر، احتفظت بواحدة من تلك الصور الملونة التي يوزعونها في الكنائس بعد أن ألححت في طلبها من أحد أصدقاء الطفولة وزميل المدرسة آنذاك، وظللت رغم معرفتي بحكايته الشفاهية التي عرفتها من صديقي وأصحاب المحلات، هذه الحكاية التي لم تَقلَّ سحرية عن الأخريات اللواتي نسجتهن في عقلي، ظلت حكاياتي الخاصة حية وتزدهر، وأبقيت علاقة خاصة بيني وبين مار جرجس لم تنتهِ حتى هذه اللحظة التي أحاول فيها إمساك حال الكاتب والباحث الموضوعي، بينما في الحقيقة ما زال هذا الطفل المعلقة عيناه على هذه الأيقونة العامرة بالحركة، المشغول بكل حكاياتها المروية والمؤلفة، يعتمل بداخلي ولا أستطيع ترويضه كما يجب.

ما من كنيسة إلا وتحمل أيقوناتها صورة القديس «مار جرجس». ولا بلد إلَّا وتحمل كنائسها اسم هذا البطل الفارس الشجاع الذي يمتطى جواده الأبيض، وهو كما يرى الباحث أشرف أيوب بات رمزًا للنجدة الفورية لكل مستغيث. ولفرط تعلق الناس به بُنيت باسمه 371 كنيسة في مصر وحدها، وحاز مكانة عالية في نفوس المصريين مسلمين ومسيحيين، وأسموه "سريع الندهة"؛ لقدرته اللحظية على شفاء المرضى، ويشارك المسلمون المسيحيين هذا الاعتقاد، ويلجؤون إليه طوال العام، ويقيمون له «مولدًا» في عيده السنوي.

سريع الندهة هل هو الخضر؟

يرى الكثيرون أن مار جرجس هو هو الخضر، والبعض في هذا السياق يراه تجليًا مسيحيًّا؛ فهو كما يذهب الكاتب باسل جورج الزعمط في إثبات أن مار جرجس هو الخضر عبر التأويل أن أصل اسم "جورج" يعود في اللغة اليونانية جيورجيوس، حيث يأتي من الاسم اليوناني (Georgios) الذي يعني الحارث أو الفلَّاح أو الزرَّاع أو الكرَّام، وتتكون من الكلمتين (geo)التي تعني "الأرض" و (ergon) التي تعني "العمل".

ورد الاسم في الأصل اليوناني للإنجيل على لسان السيد المسيح كما يلي: "أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرَّام"؛ حيث تقابل لفظة "الكرَّام" كلمة georgos جيورجوس في الأصل اليوناني، ولو أخذنا لغة السيد المسيح الآرامية بالاعتبار، تكون الكلمة التي قالها السيد المسيح على الأغلب هي "الحارث".

ورد اسم "الحارث" في السجلات التاريخية قبل المسيحية في بلاد الشام كمرادف ولقب للسيد البعل باعتباره سيد الخصب والزراعة، وهو من الناحية الرمزية: الذي يحرث الحقول ويتعهدها بالسقاية عن طريق المطر (وما زال الاسم متداولًا حتى الآن للأراضي البعلية التي تعتمد على المطر)، وكان يلقَّب بـ"سيد المطر"؛ لأن البرق يعلن مجيئه، والرعد صوته، والغيوم حصانه. وكذلك أطلق على "الحارث" لقب النعمان؛ لأنه يفيض بالنعم على الإنسان.

وهو تقريبًا ما يذهب له فراس السواح؛ حيث يقترح أن شخصية الخضر قد امتزجت في الموروث الشعبي بشخصيات بعض الآلهة، مثل: الإله "بعل" الفينيقي الذي يتحكم بالأجواء وينشر الخضرة، ويدلَّل على ذلك بأن الفلاحين الذين كانوا منذ قرون طويلة يذكرون بعل وهم يزرعون ويحصدون، قد صار أحفادهم الآن يذكرون اسم "الخضر" وهم يمارسون النشاط نفسه.

يكمل الكاتب جورج تصوره المثير حينما يرى أنه عند مجيء المسيحية اندمجت الثقافة المحلية في بلاد الشام مع الإيمان بالعقيدة الجديدة، فصار "الحارث" هو القديس الفارس الذي يعتلي صهوة الحصان ليقتل الشيطان. ويرى أن النصوص اليونانية المبكرة يتضح فيها أن كلمة "الحارث" قد تحولت إلى "جورجيوس" كترجمة حرفية من العربية إلى اليونانية.

ويستكمل تصوره عن مضاهاة القديس جيورجيوس (مار جرجس) لسيدنا الخضر في العربية؛ فهو أنَّ الأرض لولا الحارث تبقى عديمة الحياة أو الخضرة، فهو الذي يُخضِّر الأرض، ومنه أعطي اسم "خضر" الذي يكافئ لفظًا اسمَيِ "الحارث" و"الكرَّام". والعديد من الكنائس والمزارات تسمى باسم الخضر في بلاد الشام نسبة له.

لا يزال الناس في بلادنا يحتفلون إلى اليوم بعيد مار جرجس / الخضر / الحارث؛ وهو يقع في الربيع، حيث عودة الخصوبة إلى الطبيعة. وكان يشترك في تكريمه المسيحيون والمسلمون في العديد من القرى، وهو القديس الحارث الذي بدأ من الشام كما هو يقترح وانتشر بصيغته اليونانية إلى كل لغات العالم وأصبح اسمًا عالميًّا.

ويذهب المفكر السوري فراس السواح منحًى مشابهًا قليلًا حينما يقترح في كتابه "القصص القرآني ومتوازياته التوراتية" أنه أثناء عصر الحروب الصليبية والتبادل الثقافي الذي حصل بين الثقافتين العربية والأوروبية، ظهر إلى الوجود شخصية جديدة تجمع بين الخضر ومار إلياس إلى نموذج فرنسي هو القديس مار جرجس، كما يُدعَى في بلاد الشام، وقد نُسجت لهذا القديس سيرة حياة تقول بأنه كان بطلًا من أبطال الإيمان المسيحي، عاش في مدينة اللد بفلسطين، وأنقذ ابنة الملك التي اعتنقت المسيحية من تنين هائل صرعه بحربته.

كما يورد القس سليمان صائغ الموصلي في كتاب "تاريخ الموصل" في الجزء الثاني بعض المقولات التي تقترح أن الخضر لقب صاحب النبي موسى، ويكنى بأبي العباس، قيل: إنه هو إليا وهو نبي مشهور، وقيل: إنه مار جرس، وهو ما يتفق مع ذكره كتاب "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة، حيث يذكر في إحدى إشارات الكتاب توضيحًا عن "الخضر" أنه أحد الأنبياء الذي أرشد النبي موسى، وقد حظي عند الصوفيين بمركز ممتاز ويطلق عليه النصارى اسم القديس جرجس أو النبي إيليا.

المار جرجس ولي له مواويله وسيرته الخاصة:

لا شك أن مار جرجس يحتل داخل الثقافة الشعبية المصرية مكانة أحد الأولياء (ولا أرغب هنا في الدخول في جدل الفرق بين الولي في الإسلام والقديس في المسيحية؛ حيث إنني هنا أتحدث عن الثقافة الشعبية التي تتغذى بالعديد من الشرايين الثقافية والحضارية، ومن هذه الروافد الإسلام والمسيحية معًا، وبعض المعتقدات والطقوس المترسخة من مصر القديمة وغيرها).

وهناك موال قصصي أو قصة مغناة شعرًا في الثقافة الشعبية المصرية اسمها: "مار جرجس وبنت السلطان"، وهي تحكي عن نجدة مار جرجس لإحدى أميرات بيروت قبل أن يُضحَّى بها لثعبان ضخم يسكن منبع أحد الأنهار هناك في سبيل إرضائه وعدم حبس النهر عن المدينة، هذه الحكاية تتشابه مع الكثير من حكايات الأولياء التي تصور الولي ينهض لنجدة أميرة أو امرأة (أسير بشكل عام) في التراث الشعبي المصري، ومنها حكاية عن هَبَّة السيد أحمد البدوي لنجدة خضرة التي خطفها أحد ملوك اليهود ليتزوجها وتحريرها من الأسر، وقد عرضتها في مقال سابق: https://2u.pw/Q2PHXfmd

وقد صيغت هذه الحكاية المغناة الأسطورة بصيغ شعرية في 622 بيتًا، وطُبعت على نفقة مرقس جرجس سنة 1941م، وحتى الآن يُغنيها بعض الشعبيين على الربابة في موالد القديسين، ومنهم الفنان الشعبي «مكرم المنياوي»، والفنان «وهبة جرس»، ويطلقون عليها "مديحة مار جرجس الروماني".

https://www.youtube.com/watch?v=X8TkV6lFmO0

تبدأ الحكاية

أصل الحكاية يا أهل الحق

 في بيروت كان نازل نهر

 يشبه نهر النيل في مصر

 يسجي الناس والغيطان

 كان موجود ع النهر يا هوه

جاه وسكن فيه الملعون

 ودخل في بطن السلعون إبليس مخالف الدياني

وهنا كان من عادة هذه المدينة (بيروت) أن يقوم الملك بعقد قرعة علنية لاختيار فتاة عذراء جميلة تقدم هِبةً للثعبان/ إبليس حتى يرضى، هذا ما كان في الماضي، ولكن يحمل هذا الموسم مفاجأة غير سارة للملك حيث تختار القرعة ابنة الملك نفسه قربانًا للثعبان، بطبيعة الحال لم يتقبل الملك هذا المصير المأسوي لابنته وحاول جاهدًا تجنيبها ذلك المصير بعد أن فاق من صدمته؛ حيث جمع رجالات المملكة وحاول التفاوض معهم أن يعفو عن ابنته مقابل مملكته كلها والتنازل عن الحكم، لكنهم رفضوا خوفًا من بطش الثعبان الضخم، هنا طرأت للملك فكرة:

كان الملك سامع سمعة

عن بطل سريع الندهة

اسمه جرجس الروماني

صرخ وقاله يا جاري جریوس

يا صاحب الندهة يا مأنوس

أحلفك باسم القدوس

تنقذ بنتي یا نصراني

هنا تبدأ الشكوك وحتى السخرية التي تواجه الأولياء وكل المؤمنين بهم سواء كان عن تعالٍ أو عن جهل، هذه المرة يصوره الفنان الشعبي وكأنه من الطبقات الأرستقراطية المتحالفة مع الحكم أو رجالات الدولة التي لا يهمها سوى مصلحتها:

صاحوا الجميع: لمين تطلب

ومين غير الأصنام يغلب

وادي النيران ليها نعبد

ونقدر على الثعباني

قال: أنادي للمأنوس

بطل واسمه جاري

...

الراوي:

قالوا له: من هو جرجس

اللي تناديه هنا في المجلس؟

قوم روح لبنتك لبسها

نزلها للثعباني

لكن كعادة الأولياء في الثقافة الشعبية لم يُخيِّبوا ثقة الوجدان الشعبي في نجدتهم وسرعة تلبية النداء، هبَّ صاحب الندهة السريعة قادمًا لإنقاذ الأميرة وفعل كل ما يقترحه الخيال الشعبي وتحتاجه الجماعة، فها هي الفتاة وهي قانطة تساق لمصيرها المحتوم وتخطو نحو الردى تلمحه:

راكب على الأشهب فارس

كالبدر لكنه عابس

وفي الحرير غرقان غاطس

لحظة دخول البلداني

...

داخل و جاي ليها رامح

من فوق الأشهب طامح

بعيونها شافت الملامح

والسيف بيده أعياني

وحربته في إيده اليسرى

وسيفه في إيده الأخرى

شافت طرید بیزید خطره

خافت عليه م الثعباني

الفتاة تنسى ما تتعرض له أو ما ينتظرها مقابل حبها وخوفها على الولي (مار جرجس)؛ فهو ليس مِلكًا لها فقط، بل هو ملك للجماعة، هو أملها ورمز خلاصها لكنه يطمئنها:

الراوي:

قال البطل: شدي حيلك

واعلمي أن جرجس جاه لك

واطمني كده على حالك

أنا جرجس الروماني

ومن التنين جاي متعنت

إله الناس أرسلني

والثعبان أنا لا هعاتبه وهقتله في الودياني

يأتي البطل الذي يصفه الفنان الشعبي بعجائبية وبشكل عامر بالمبالغات، في سبيل أن تعظيم العظيم الخصم هو بشكل غير مباشر يصب في عظم النزال، ومن ثم عظم انتصار البطل على هذا الخصم:

الراوي:

وقتها جه التنين

ياخد البنية يا حاضرين

فاتح فمه يا سامعين

ماشي في حشيش الودياني

وراسه مثل جبل ظاهر ونابه سبع أصفر ظاهر

وهو كان كجبل زاجر وسمه بين الأسناني

وبالفعل يبدأ البطل في تحدي خصمه؛ كما هو الحال في جُلِّ السير الشعبية والحكايات الشعبية التي تتعرض للمواقف البطولية، وسير الفرسان والأولياء التي لا بد أن يسبق القتال الفعليَّ وأفعال المبارزة فيها نزال من نوع آخر هو نزال الكلام وتحديه:

قال له البطل: ما لي وما لك؟

العرس منصوب علشانك

أنا مستعد أجيزها لك

تعالى وخدها في أماني

تعالى وخدها يا شاطر

وامشي في البحر وسافر

وأنا على مهري مش فاخر

وهتركها لك في الودياني

...

قال له: تعالى يا كافر

يا أبو فم يشبه قناطر

وهنا يوجه البطل/الولي مار جرجس لخصمه الطعنة القاتلة ويصرعه، ويستطيع إنقاذ الفتاة وإرجاعها سالمة لأبيها وأمها:

قال له البطل: افتح فمك

واسأل قل لي وأنا أقول لك

خد الهدية وتكون لك

تشبع فيها في الودياني

...

الراوي:

والطعنة جت له في النني

جرجس آت له متعني

قال له هدية ولك مني

حافظ عليها يا ثعباني

خد الهدية وتكون لك

في نن عينك تسكن لك

وبرضو أرتاح من نسلك

...

رفع البطل من فوقه الحربة

من بعدها واصله الضربة

سقا له السم بالشربة

خدوه رموه في الودياني

خدوه رموه كده في الوادي

وبعدوه عنهم غادي

صرخ اللعين رد الوادي

من حظ ظعن الأعياني

..

صرخ اللعين دمه سايل

في النهر نازل سائل

قال البطل راكب خايل

وجندله في الودياني

قال للعروسة: أين خصمك؟

قتلته أنا قدام عينك

هيا روحي لأبوكي وأمك

لن ينحصر الانتصار في كونه انتصارًا فرديًّا وهو إنقاذ فتاة واحدة من فم الثعبان، أو حتي حماية أكثر من فتاة سيمثلن القادم من ضحايا الثعبان اللواتي كن سيُقدَّمْن له، بل كعادة هذا النمط من الفنون القولية الشعبية يحقق البطل انتصارًا كبيرًا وهو انتصار جمعي وعقائدي؛ وهو أن جميع أهل المدينة/المملكة قد اعتنقوا المسيحية، وهدموا المعابد الوثنية، وأقاموا بدلًا منها كنائس؛ وهو ما يساوي بعبارة أخرى إنقاذًا أضخم لكل هذه الأرواح التي تركت الوثنية وبرئت من الشرك واعتنقت المسيحية، فاستحقت الغفران والإنقاذ.

قال الملك: يا أهل مدينتي

اسمعوا لقولي ومشورتي

لازم تكونوا في طاعتي

تهدم جميع الأصنام

قوموا بكسر الحجارة

وحرقها للمنظرة

..

نحن قصدنا المسيحية

دخلنا دين النصرانية

وكلنا صافية النية

محبة وأخوة مسيحية

قوموا يا أهل بلدنا

نجيب قسيس يعمدنا

عشان الإله يرضى علينا

إله جرجس الروماني

...

الراوي:

في وقتها جاه لهم قسيس

أمر لكنيسة بالتأسيس

عمد جميعهم بالتقديس

وبالميرون الروحاني

عمدهم في المعمودية

جميعهم صافيين النية

والبنت سموها ماريا

تلميذة البطل الروماني

بسهولة نستطيع لمح التأثيرات المصرية بشكل واضح في الموال والقصص عبر ظلال حكايات إلقاء الفتيات الجميلات للنهر حماية من غضبه ومخاطبة وده وكرمه؛ وهي حكاية موجودة في التراث المصري كما هي موجودة في أغلب الثقافات الشعبية للجماعات الزراعية.

في كل الأحوال نحن هنا أمام نص واحد من عدة نصوص، وحكاية وحيدة من متن عامر بالكثير من أمثالها، صاغتها الجماعة الشعبية فنًّا تتعلم منه كما تستمتع به، وصاغتها لتستوطن الذاكرة وتتبادلها الأجيال إنشادًا ورواية، هنا البطل/الولي هو قديس فارس، ورغم التقديس والحب والتبجيل هو أحد أبطال آخرين صاغتهم الجماعة الشعبية وغزلت حكاياتهم على مقاس ما تحتاج وفق منطق الأحلام ربما، لكنه حلم كبيت من حجرتين واحدة منهما الماضي والتاريخ المقدر، والأخرى المستقبل المأمول وسقف مفتوح على سماء الخيال.