ثقافات

ممدوح حبيشي

لماذا يختار المصريون مفردات اللصوصية للتعبير عن النجاح؟!

2024.06.08

مصدر الصورة : ويكبيديا

لماذا يختار المصريون مفردات اللصوصية للتعبير عن النجاح؟!

 

"شاطر" هي اللفظة التي يطلقها المصريون في العامية المصرية للدلالة على النجاح وتفوق صاحبها، وقد تم إدراجها في معاجم الفصحى بنفس المعنى الدال على التفوق والمهارة، وإذا تتبعت سيرة هذه المفردة ومعناها في اللغة والثقافة العربية قديمًا فسيسطر على ذهنك سؤال مُلِح حول قاموس النجاح عند المصريين، المكون من مفردات مستعارة من الخروج على القانون، مثل: اللصوصية والبلطجة والنصب، فلمَ اختار المصريون مفردات اللصوصية لا غيرها تقريبًا للتعبير عن النجاح والتفوق؟!

 والسعي للإجابة على هذا السؤال لن يبرأ من ارتكاب التأويل بقدر حرصه على موضوعية البحث الدقيق.

الشاطر والعايق

كلنا نَصف الماهر منا بالشاطر، لا يتوقف ذلك عند طبقة معينة أو شريحة اجتماعية أو ثقافية ما، بل إن الأمر تخطى ذلك إلى أن لفظة شاطر ليست لفظة عامية كما يتخيل الكثيرون بل تُعتبر لفظة فصحى موجودة بمعنى: الحذق والسبق والمهارة والتفوق، في معاجم العربية الحديثة والمعاصرة، ولكن إذا تتبعت هذه اللفظة داخل أمهات كتب اللغة العربية، فستجدها ذات معنى يختلف تمامًا، فهي كلمة ذات معنى سيئ في أغلب استخداماتها، حيث تعني اللص الذي يشاطر الناس حقوقهم ويهضمها، كما إن الشاطر تعني: الخبيث الماكر، الذي يتحايل على الناس فيأكل أموالهم بالحيلة والدهاء، يصف الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجمه "العين" الشاطر بالرجل "الذي أعيا أهله ومؤدبه خبثًا"، بينما يزيد الزمخشري في معجمه "أساس البلاغة" جانب الخلاعة فوق جانب مواجهة الأهل حينما يذكر "وفلان شاطر: خليع".

كما نجد القلقشندي في كتابه صبح الأعشى يؤكد نفس المفهوم فعنده الشطَّار هي جمع شاطر، والمعنى في أصل اللغة: اسم لمن أعيا أهله خبثًا، وهو نفس المعنى الذي ستجده يتكرر في القاموس المحيط والمعجم الوسيط، ويزيد بعضهم على ذلك المعنى فعل قطع الطريق، مثلما يذهب الشيخ بكر أبو زيد في مؤلفه معجم المناهي اللفظية وابن المعين، والذهبي الذي ذكر الفضيل بن عياض في كتابه "سير أعلام النبلاء"، ووصفه قائلًا: "كان الفضيل -ابن عياض- شاطرًا يقطع الطريق".

بطبيعة الحال قرر العلماء دمج المعنى الدارج في لغة الناس بمعنى الحاذق والماهر، حيث أجاز مجمع اللغة العربية المصري استعمال كلمة شاطر بالمعنى السابق الذي يأخذ المسافة البعيدة في المدة القريبة، كما أجاز المعجم الوسيط هذه الكلمة بمعنى: الفَهِم المتصرف، وذكرها المنجد بمعنى: النّبيه الماضي في أموره، والأساسي بمعنى: الحادّ الفهم السريع التصرف، لكن ذلك لا يمنع سيرة اللفظة وتاريخها داخل اللغة والثقافة العربية.

على مستوى آخر نستخدم لفظة "العياقة" أو "العايق" بمعنى المزهو بنفسه والمهتم اهتمامًا مبالغًا فيه بمظهره وشكله، وهذه اللفظة تستخدم على كلا المحملين، المحمل الإيجابي للوصف والسلبي له، ولكن في الأغلب ما تستخدم بشقها الإيجابي، لكن جذور هذا المصطلح كذلك إذا تتبعت تراثه وسيرته فستجد العايق هو قاطع الطريق، أو اللص الذي (يعوق) طريق التُّجّار وينهب قوافلهم، وأصلها في اللغة العربية "العائق". وقد ظهرت في المجتمع المصري في العصر المملوكي فئة "العُيَّاق" وهم اللصوص وقُطّاع الطرق، الذين كانوا يتربصون بالقوافل في أوقات ضعف الدولة والحكومات ويحاربهم الولاة في أزمنة المجد والقوة.

كما استخدم ابن إياس مصطلح عائق وعياق بمعنى عائق الطريق وقاطعه، حين ذكر لنا حكاية: "مجرم مسرف على نفسه كان يراقب المماليك السلطانية ويخطف كل شيء لاح له، ويؤذي الناس بطول الطريق ولهذا رسم السلطان بشنقه حيثما وجد، من غير مشورة، فقيل إنه قبض عليه وشنق على شجرة في بلبيس"، ويذكر ابن إياس كذلك أن السواد الأعظم من عيَّاق مصر: "كانوا يجتمعون في يوم النيروز، وهو أول أيام السنة القبطية، يقفون على أبواب الأكابر من أعيان الدولة، فيفرض على الأغنياء وقتها الدفع لهم وإذا قرر أحد هؤلاء الأغنياء الامتناع عن الدفع للعيَّاق بهدلوه بل وسبوه سبًّا قبيحًا، ولا يزالون مترسمين على بابه حتى يأخذوا منه ما يقرون عليه من دراهم.. فيأخذون ذلك غصبًا، ويمضون، وكان ذلك السواد الأعظم من العيَّاق، يقفون في الطرقات ويرشون بالماء على الناس الطريق، ويمتنع الناس من الخروج في ذلك اليوم إلى الأسواق، وتغلق في ذلك اليوم أسواق القاهرة ودكاكينها، وكل من ظفروا به في الطرقات بهدلوه". كما يذكرهم الجبرتي في تاريخه حينما يطلق على بعض الفساق وأهل الأهواء والحشاشين والغوازي والرقاصين "العيَّاق" من أولاد البلد.

سيرة الشطارة والعياقة

في كتابه المهم "حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي" يتتبع محمد رجب النجار الأدب الذي تغنى بمغامرات وبطولة الشطار والعيارين والعيَّاق داخل التراث العربي، سواء كان ذلك التراث رسميًّا أو شعبيًّا، ويرصد عددًا من الأمور المهمة، التي ترسم لنا ملامح خط سيرة الشطارة، داخل الثقافة والوجدان العربي، حيث وجد الباحث حظوة هؤلاء الخارجين على القانون بإعجاب العامة في عصرهم، فيتعاطفون معهم، ويشيدون بأفعالهم ويتسترون عليهم، ولأمر ما أيضًا يؤثر عن هؤلاء حكايات وقصص وأخبار ونوادر وبطولات، يرددها الخاصة والعامة جميعًا، ويتناقلونها جيلًا وراء جيل.

عديد من الباحثين أقروا بأن العيّارين والشطّار في المجتمع الإسلامي كانوا في حقيقة الأمر امتدادًا لطبقة الصعاليك، الذين كانوا موجودين في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام، هؤلاء الصعاليك الذين تشكلوا من الفقراء ووضيعي النسب أو مرفوضي النسب إلى الوالد لكونهم أُنجبوا من جارية أو للون البشرة أو غيرها من أسباب، والذين خرجوا عن النظام القبلي، وكانوا يتبعون القوافل التجارية الضخمة ويستولون عليها، ويوزعون أسلابها فيما بينهم.

أرجع بعض الباحثين خروجهم على القانون إلى التفاوتات الطبقية والاقتصادية الصارخة التي شهدتها بغداد خلال العصر الذهبيّ للخلافة، فكانت أعمالهم كما يرى الكاتب علي بنهرار احتجاجًا ضمنيًّا لفقراء يموتون جوعًا ولا يملكون أي شيء، ضدّ أغنياء يملكون كلّ شيء تقريبًا.

كما يكشف النجار عبر كتابه المهم ودراسته الرائدة أن كثيرًا من الأبطال الشطار الذين تزخر بهم أهم مجموعتين من أدب الشطار العربي (ألف ليلة وليلة وسيرة على الزيبق)، ممن كنا نظن أنهم شخصيات خيالية مثل دليلة المحتالة، وعلى الزيبق وأحمد الدنف، وغيرهم، هم جميعًا شخصيات حقيقية، تمتلك واقعًا تاريخيًّا، لا يختلف عن واقعها الفني كثيرًا، فكلهم لصوص محتالون وشطار وعيارون.

تستطيع تلمس أول بصماتهم المؤثرة في التاريخ العربي والإسلامي عند عام 196ھ، حين أخذت جيوش المأمون، بقيادة طاهر بن الحسين، تقترب من بغداد انقلابًا على حكم أخيه الأمين. واكبت هذه الفتنة حربٌ ضروسٌ دامت أربعة عشر شهرًا. 

حينما اقتربت جيوش المأمون من بغداد وحاصرتها وشرعت تقذفها بالمنجنيق حدث تدميرٌ فظيع للمدينة وسفكت دماء كثيرة، وأحرقت منازل للسكان وهدمت، واستمر العيّارون في القتال ولم يتراجعوا، رغم رفع بعض جنود الجيش النظامي للأمين راية الاستسلام.

منع العيارون جيوش المأمون من ولوج بغداد واستمرّ القتال بسبب بسالتهم. فهم يقاتلون هنا ويسلبون وينهبون هناك ليربكوا العدو والمتآمرين معه، آنذاك وقعت بين العيارين وابن الحسين أعنف معركة حينها، وهي المعركة التي عرفت بوقعة قصر صالح، وكانوا قد استماتوا في الدفاع عن بغداد بعد أن استسلم القائد الموكل بقصر صالح وصاحب الشرطة وهو ما يذكره ابن جرير الطبري في تاريخه حينما يحكي كيف أقبلت الغواة من العيارين وباعة الطرق والأجناد فاقتتلوا داخل قصر صالح وخارجه قتالًا عظيمًا، إلى ارتفاع النهار.

انتهت الحرب لصالح المأمون، وخلع شقيقه الأمين بالعنف والقوّة. إلَّا أنّ جماعة الشّطار والعيارين ظلّت محور اهتمام المؤرخين والباحثين منذ ذلك الزمن. وهناك بدأ أثرهم السياسيّ، كما يرى جل الباحثين والمؤرخين.

ويبدو أن هؤلاء "المجرمين" بالتعبير الرسمي، كانوا قريبين من نفوس الطبقات الشعبية الكادحة والفقراء والمهمشين، فنعم كانت حركة العيارين والشطار مرفوضة من الناحية القانونية والسلطوية لكنها كانت مقبولة من الناحية الاجتماعية، ويعد أصحابها من الأبطال في نظر العامة، تلهج بذكرهم وتشيد ببطولتهم في حديثها السيار، وللطبقات الشعبية مبرراتها في ذلك.. فهي تنظر إليهم وإلى تمردهم أو ثورتهم على الدولة والمجتمع باعتبارهم يمثلون ثورة الفقراء على الاغنياء. 

ويخلص في النهاية (ابن جرير الطبري) إلى أن هؤلاء الشطار (اللصوص وقطاع الطرق) يمثلون نوعًا مهمًّا من أنواع البطولة في التاريخ العربي، وهي البطولة خارج القانون، ووصف فروسية أصحابها بالفروسية المتمردة، اتخذ أصحابها من اللصوصية وسيلة من وسائل التمرد الرافض للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

على جانب موازٍ وعبر تتبعي للفظة الشاطر في القصص والسير الشعبية، ستجد أن الشاطر كان هو اللص أو البلطجي والنصاب حتى عصر إبداع السير الشعبية، الذي يقدره كثير من الباحثين في العصر المملوكي وهو العصر الذي يحمل الحمض النووي الأساسي لما أصبحت عليه الجماعة المصرية في القادم من الأيام وحتى وقتنا هذا، بل إن أمراضًا عديدة يعاني منها المجتمع المصري، مثل: الرشوة والفساد والمحسوبية واختلال قيم التفوق واستحقاقه، بل حتى والتوتر الطائفي هو ابن لذلك العصر، وما تلاه من موجات الاستعمار المتتالية، وفي المركز منه الاستعمار العثماني.

تستطيع تلمس تغيير الصورة الذهنية لمفهوم اللص وقاطع الطريق إذا ارتحلت في عالم السير الشعبية وإذا خضت تلك الرحلة، بالترتيب الزمنى الذي اقترحه الباحثون لترتيب تأليف السير الشعبية، التي يُعتقَد أن معظمها إن لم يكن كلها، قد أبدع في مصر قبل أن ترتحل إلى بقية الوطن العربي، فتلتقطه وتتبناه قلوب وعقول العرب من المحيط إلى الخليج، فإذا بدأت بدوائر السيرة الأقدم، مثل: سيرة عنترة أو الزير سالم أو سيف بن ذي يزن، فلن تجد وجودًا حقيقيًّا يذكر للعايق أو الشاطر، فقد كانت البطولة والبطولة المساعدة تقريبًا للفرسان والنبلاء أو الشخصيات العجائبية فوق الطبيعية كالجان، بينما في الحلقات الأحدث نسبيًّا والتالية، مثل: سيرة حمزة البهلوان وذات الهمة والظاهر بيبرس -مثلًا- ستجد صعود حقيقي للشطار والعيَّاق والعيَّار في هذه السير، حيث بدءوا يشكلون الحلفاء والأصدقاء والمناصرين والأبطال المساعدين، بل تكاد تلحظ لهم أدوارًا، لا تقل أهمية عن دور البطل، مثل: البطال في سيرة ذات الهمة، وجمال الدين شيحة وعثمان بن الحبلي، شاطر مصر، الذي لطالما عجزت الدولة عن التصدي لخطره، والذي صار صديقًا مقربًا لبيبرس. 

نعم في سيرة الظاهر بيبرس كان لا يزال البطل ملكًا أو فارسًا، لكن أخيرًا سيتغير ذلك حينما يكون البطل نفسه من الشطار والعيَّاق، مثل علي الزيبق، السيرة التي يعتبرها جلة الباحثين آخر حلقات السير الشعبية الكبرى، التي تبنتها الصدور والعقول العربية، وأبدعت -في أغلب الظن- في وقت متأخر من العصر المملوكي، ما يشير إلى أن المصريين بدوا وقد فطنوا أن أحدًا لا يقدر على مجابهة سلطة المماليك الغاشمة، والنفاذ في نسيج علاقاتهم الفاسدة والمبنية على القوة والرشوة والمحسوبية، سوى الشطار معتمدين علي قدراتهم الجسدية والعقلية، مرتكزين علي الحيلة والكيد، فقط الشطار هم القادرون على نزع حقوقهم أو حتى الاستيلاء على ما ليس من حقهم، من عين وفم هؤلاء الوحوش الأجانب المسيطرين بالقوة والدم. 

نجح الشطار فيما فشلت فيه البقية فتبنت الجماعة الشعبية لقبهم وكرسوه معنًى للنجاح، فكأنهم يشيرون بذلك إلى أن لا مكان للذكاء أو المهارة أو التفوق في مثل زمان ومجتمع كهذا، لكن الحل في الشطارة، فهكذا تحولت هذه اللفظة إلى راية لتشخيص يائس ولكن موضوعي، لعصر ورمز لأمنية احتلال الناس العادية لمكان ومكانة هؤلاء، ومحاولة استبطان واستعارة القدرة والصفة، ممن يملك هذه المفردة وتطلق عليه، حيث أن أغلب الشعوب ترى في الكلمات قدرات مقدسة وسحرية دفينة، ولا فرق في ذلك عند المصريين، فهم يجدون أن النطق بالكلمة هو إيذان بالحدوث ومفتاح للفعل، فربما استعارتهم لمفردة الشطار ستخلع عليهم صفاتهم وتبلغهم قدراتهم، وفي الأخير مصيرهم ونجاحهم فيما فشلت الجماعة الشعبية فيه وقنطوا من تحقيقه.

ومع مرور الأزمنة وتغير الوقت لم يجد المصريون شيئًا حقيقيًّا قد تغير في البناء القيمي للمجتمع، فلم يجدوا ضرورة إلى تغيير اللفظة أو هجرانها، كما فعلوا مع مئات من الألفاظ الأخرى، وعشرات من النعوت عبر التاريخ، وظلت حية في العامية المصرية عبر كل الأجيال وتقريبًا في أغلب الطبقات والفئات الاجتماعية، حتى فرضت نفسها على الفصحى وأُدرجت ضمن المعاجم الحديثة والمعاصرة.

وتحول العايق من الخارج على القانون، قاطع الطريق، منزِل اللعنات بالأغنياء والأكابر إلى المزهو بنفسه ذي المظهر الجميل، فتحولت المفردتان إلى رمزين لن يبقيا شاهدين فقط على عصر مضى فحسب، بل إن المصريين استمروا عبر عاميتهم، يستخدمون مصطلحات الخروج على القانون والنظام لوصف التفوق. حيث تستمع الآن -مثلًا- إلى إضافة كلمة "سفاح" إلى صفة أو وصف لأحد الأشخاص، للتعبير عن تفوقه في هذه الصفة وغيرها من الاستخدامات المشابهة، التي تحتاج إلى دراسات مستفيضة.