فنون

طه سويدي

الطيب والعلي: الإرث ينجو من الاغتيال

2024.08.30

تصوير آخرون

كلما ضاقت علينا الساحات، ينقذنا حنظلة

 

في الخامس والعشرين من مايو الماضي، استقبل استاد القاهرة مباراة إياب دوري أبطال أفريقيا، التي شهدت مواجهة كلاسيكية بين الأهلي المصري والترجي التونسي، وانتهت مباراة الذهاب بملعب رادس بالتعادل، وكان الحدث الأبرز في هذه المباراة هو التضامن الصريح لجماهير الترجي ضد الإبادة الجماعية التي تُرتكَب بحق شعبنا في غزة بدعم عالمي وإقليمي، احتفت وسائل التواصل الاجتماعي بهتافات رادس، وشارك المتابعون صورة التيفو العملاق لجماهير رادس المعنون بـ"صُنع في غزة"، ترقب المتابعون ردة فعل الجمهور المصري الذي استعاد مؤخرًا بالكاد بعضًا من الوجود المنتظم في المدرجات بعد عشرية الإبعاد والمنع. لسبب ما اختير الممثل المصري محمد رمضان -صاحب أزمة التطبيع في صيف 2020- لإحياء حفل المباراة النهائية، وما إن بدأ الحفل حتى أقدم جمهور الأهلي على فعل جماعي صامت استحوذ على اهتمام الكاميرات؛ إذ شبَّك المتفرجون أيديهم خلف ظهورهم التي أداروها للممثل المعروف بـ"نمبر وان"، في تجسيد جماعي لأيقونة الراحل ناجي العلي حنظلة.

كالكثيرين من أبناء جيلي عرفوا ناجي العلي عبر حنظلة، الذي لطالما احتل عن جدارة صورة حساباتنا الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي في العشرية الأخيرة كلما ألمت بنا نازلة، وما أكثر النوازل! على الرغم من الإرث الكبير للشهيد ناجي العلي، فإن المقتفيَ لأثره يجد نفسه محاصَرًا بالكثير من الوثائقيات والمقالات عن قضية اغتياله الذي يظل جانيه "مجهولًا" حتى يومنا هذا. ثمة حقيقة أخرى قد تبدو مثيرة لاهتمام مقتفي الأثر، وهي أن ناجي العلي هو الوحيد من رموز القضية الفلسطينية التي قدمت السينما المصرية فيلمًا تناول سيرته، ويزداد الفضول بطبيعة الحال عندما نعرف أن هذا الفيلم صنعه رائد الواقعية المصرية الجديدة عاطف الطيب، مع رفيق رحلته الأبرز المؤلف بشير الديك، وقام ببطولة الفيلم واحد من ألمع ممثلي السينما العربية وهو الراحل نور الشريف. فيلم سيشهد عملية اغتيال معنوي ربما كانت الأعنف في تاريخ السينما المصرية.

1992: فيلم عن أصخب ظواهر الكاريكاتير العربي

في مطلع عام 1992 كانت قد انقضت عشر سنوات كاملة على اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات، وهو الحدث الذي دشن حقبة دامية للإرهاب في مصر، كانت آخر حلقاتها قبل أقل من عامَينِ من هذا التاريخ عندما اغتيل رفعت المحجوب رئيس البرلمان المصري في وسط القاهرة، وفي هذه الفترة كان النظام المصري يتنفس الصُّعَداء بعد انفراج الأزمة الاقتصادية عقب إسقاط الولايات المتحدة لبعض الديون المصرية نظير المشاركة المصرية في قوات التحالف ضد غزو العراق للكويت، انفراجة سيعكر صفوها بعد شهور بسيطة وقوع أقوى زلزال سيضرب مصر في تاريخها المعاصر، وقبل الزلزال بشهور أربعة ستُفجَع الأوساط الثقافية في مصر باغتيال الكاتب فرج فودة. تلك كانت أجواء العام الذي ساق فيه القدر عاطف الطيب ونور الشريف لطرح فيملهما عن واحد من أصخب ظواهر الكاريكاتير العربي، أو لنقل: تلك كانت الأجواء المحيطة بالاغتيال الثاني لناجي العلي.

ما إن يُكتب اسم الفيلم في محركات البحث حتى تطفو على الشاشة العديد من المواد المتناولة لأزمته، ولا نكاد نجد أي محاولة لتناول الفيلم فنيًّا وتأمله ضمن مشروع عاطف الطيب. يحاول الفيلم طيلة مدة عرضه التي تقارب الساعتين تتبع حياة ناجي العلي، فتبدأ الأحداث بمشاهد من النكبة، ثم ينتقل الفيلم إلى مشهد الاغتيال، وتدور باقي الأحداث بين محورَينِ؛ هما: غيبوبة ناجي العلي، واستعادة مراحل حياته. يعرِّج السرد مرتبكًا على مرحلة شباب الشهيد، فلا نجد سوى مشاهد سريعة عن اعتقاله شابًّا ورسمه على جدران الزنزانة، ولكن المرحلة التي هيمنت على زمن الفيلم كانت الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 والذي عايشه العلي ورسم فيه إحدى أشهر رسماته «صباح الخير يا بيروت» تستحوذ مشاهد القصف والاشتباكات بين مقاتلي المقاومة وجيش الاحتلال على أغلب مشاهد الفيلم، والفينة بعد الفينة يظهر ناجي العلي حانقًا على مشهد السياسة وفساد السلطة، وعندما يعود السرد إلى محور غيبوبة ناجي، تظهر لنا السلطة مرة أخرى، تطلب التكتم في جو غامض يحاول فيه السرد أن يرسل للمشاهد إيحاءات بالتآمر على حياة العلي دون التصريح بأطراف المؤامرة. وتنتهي أحداث الفيلم بوفاة الفنان. وينتهي محور السرد في لبنان بخروج منظمة التحرير من بيروت، والذي مثل هزيمة قاسية لناجي العلي، وكل المقاومين في العاصمة.

لا نشعر بعد النهاية أننا شاهدنا فيلمًا عن ناجي العلي، وإنما شاهدنا عملًا سينمائيًّا استخدم العلي كعدسة لرواية فصل دامٍ من فصول الهزيمة العربية. لا يتكلم نور الشريف كثيرًا في الفيلم، يشاهد أكثر مما يحكي، يخرج عن طوره نادرًا ويصرخ؛ كما فعل في مشهد المواجهة مع شخص لم يسمه الفيلم، ولكن نفهم سريعًا أنه مندوب منظمة التحرير، يصرخ نور الشريف منتقدًا كراهية السلطة للنقد وحصارهم بالحرية، وهو قدح لا يقتصر على منظمة التحرير بالطبع. المثير للاهتمام أيضًا أن أكثر مشاهد الفيلم الحوارية شهرة بين الجماهير حتى يومنا هذا لم يكن من نصيب نور الشريف/ ناجي العلي.. الذي سُمِّي الفيلم على اسمه، وإنما من نصيب شخصية لم نعرف اسمها، ولكنها سألت السؤال الذي ربما أزعج الكثير من أصحاب السلطة، وهي شخصية الفنان الراحل محمود الجندي، الشخصية المصرية الوحيدة في الفيلم، والذي سأل بسخرية مريرة وهو سكران بينما بيروت تُدَك بالقنابل: «هي الجيوش العربية مش هتيجي؟ هي بتحارب في حتة تانية؟!».

في حوار له مع التلفزيون الكويتي حكى العلي قصة ابتكاره لشخصية حنظلة، وكيف كان هذا الطفل الفلسطيني صك حمايته من النسيان والتنكر لأصله، والسقوط في براثن المجتمع الاستهلاكي بالكويت على حد وصفه. تحدث العلي عن البدايات، وكيف وصل إلى الصحافة. وعلى الرغم من قلة أحاديث العلي الصحافية والتليفزيونية فإن المتابع سيلحظ بسهولة كيف كان ناجي العلي مثقلًا بقلق نسيان الأصل، وكيف حرص طيلة حياته على تقديم نفسه بوصفه ابنًا من أبناء مخيم عين الحلوة للاجئين بلبنان، إلى درجة كانت تزعج معارفه القدامى بحسب تصريح تلفزيوني لأرملته السيدة وداد العلي. كان صاحب وعي خاص وانحياز صاخب غير مؤدلج إلى الجماهير أكسبه هذه الفرادة التي خلدت اسمه، ولكننا لا نجد في الفيلم إلا ومضات خافتة جدًّا عن تطور شخصيته ووعيه من خلال مقاطع الأداء الصوتي القليلة التي أداها نور الشريف. بعبارة أخرى: لا أستطيع القول بأن الفيلم يشبع فضول المشاهد في الاقتراب أكثر من شخصية العلي إنسانًا وزوجًا وأبًا وفنانًا خلال حياته القصيرة التي حفلت بالمحن والمخاطر والمشاكسات والصراع مع السلطة، وهو ما نأمل دومًا من التناول السينمائي أن يقدمه لنا عندما يتناول حياة المشاهير.

هل سترت الأزمة الإخفاق الأبرز لعاطف الطيب؟

دومًا ما تَطرح تدخلات الرقابة ونوبات غضب السلطة تجاه بعض الأعمال الفنية سؤالًا عن جودة هذه الأعمال وقدرتها على البقاء في الذاكرة الفنية بدون تأثير هذه الأزمات، وهو تساؤل يسري بالطبع على فيلم ناجي العلي الذي لا يتردد البعض في وصفه بأحد أقل أعمال عاطف الطيب. ولكن بعيدًا عن الأزمة وإشكاليات التناول، يظل هذا الفيلم علامة مختلفة في مشوار عاطف الطيب السينمائي. صحيح أن تيمة الهزيمة والمقاومة كانت التيمة الأبرز والأكثر هيمنة على أعمال عاطف الطيب، ولكن في فيلم ناجي العلي خرج عاطف الطيب للمرة الأولى وربما الأخيرة من مساحة الهزيمة المحلية حيث المهمشون والفقراء في عالم ما بعد حرب أكتوبر وسياسات الانفتاح؛ ففي هذا الفيلم، خرج الطيب إلى الهزيمة الأكبر؛ هزيمة الأمة واجتياح عواصمها، وجرحها الغائر في فلسطين.

لم يختلف الفيلم في هذا التناول فقط، وإنما أيضًا على صعيد المعالجة؛ فالمتتبع لمعظم أعمال الطيب سيلحظ أنها كانت تعتمد على قصص الكفاح والمواجهة التي يخوضها بطل الفيلم ضد خصم أقوى وأكثر سطوة، وترتكز هذه القصة على الأداء التمثيلي أكثر من العامل البصري كما شاهدنا في "سواق الأوتوبيس" و"ضد الحكومة"، ولكن في فيلم "ناجي العلي" اعتمد الطيب اعتمادًا شبه كلي على العامل البصري إلى الحد الذي قد يدفع البعض إلى الظن بأن الفيلم كان وثائقيًّا أكثر منه روائيًّا في معظم مدة عرضه. وعلى ذكر العامل البصري، استوقفني تعليق أدلى به الصحفي المصري براء الخطيب في برنامج وثائقي أنتجته الجزيرة عن الفيلم ضمن سلسلتها الشهيرة «خارج النص»، إذ وصف الخطيب تجربة البصريات للفيلم بالفقيرة؛ لأن الطيب -على حد تعبيره- «فرقع المتفرقع». ويقصد الخطيب انتقاد تصوير الفيلم في الأماكن المتضررة والمدمرة بأثر الحرب الأهلية في لبنان؛ مما أفقر صورة الفيلم من وجهة نظره. وأظن أن الخطيب -سواء بقصد أو بدون قصد- قد عبر عن واحد من أسباب انزعاج الكثيرين من هذا الفيلم؛ لأن الفيلم على الرغم من تناوله المتواضع لسيرة ناجي العلي، فإنه قدم تناولًا بصريًّا قاسيًا ومؤلمًا لاجتياح لبنان عام 1982. تنقلت كاميرا الطيب بين شوارع بيروت المدمرة تحت القصف والاشتباكات، نزلت الكاميرا إلى الملاجئ. ولعل أكثر مشاهد الفيلم قسوة كان مشهد خروج أهل صيدا -حيث يعيش ناجي العلي- حاملين الرايات البيضاء، مستسلمين بعد دخول جيش الاحتلال إلى المدينة، وكيف نرى أن بعض أهالي المدينة لم يجدوا ما يصلح للاستخدام كراية بيضاء، فحملوا ما وجدوه من شراشف الأسرة والمناضد، وتساءلوا فيما بينهم إن كان جنود الصهاينة سيعتبرون ذلك إشارة للاستفزاز أم الاستسلام! في مشهد يُلقِم المشاهد علقمَ الهزيمة وفداحة المصيبة، فتلك كانت أول عاصمة عربية يجتاحها الصهاينة، وربما هذه المشاهد كانت مزعجة للكثيرين. والجدير بالذكر أن الجانب التقني والبصري الذي انتقده البعض حاز على إشادة أحد صناع أزمة الفيلم وهو السيد فاروق حسني وزير الثقافة المصري الأسبق؛ ففي تصريح صحفي، أشاد الوزير بالقيمة بصنعة الفيلم وتقنيته الفنية، وانتقد السقطة الكبيرة التي سنذكرها لاحقًا.

نعود مرة أخرى إلى جُمَل محمود الجندي الحوارية القليلة، وسؤاله المتكرر عن الجيوش العربية، الذي اعتبره مهاجمو الفيلم انتقاصًا من الجيش المصري وتقليلًا من انتصاره في حرب 6 أكتوبر –على حد تعبير فاروق حسني- الذي وصف إغفال ذكر نصر أكتوبر ودور مصر في حصار بيروت بالسقطة الكبيرة المتعمدة من طاقم الفيلم. وربما لذلك استبعدت اللجنة التي عينها وزير الثقافة لاختيار أفلام مهرجان القاهرة الدولي هذا الفيلم من العرض. من ناحية أخرى قال المؤلف بشير الديك في حوار تلفزيوني: إن شخصية الممثل محمود الجندي لم تكن سوى صدًى للضمير العربي الذي كان يتساءل عن دور الجيوش العربية في وقت تجتاح فيه دبابات الاحتلال عاصمة عربية. ولنا أن نسأل: هل طغى سخط بشير الديك على الواقع العربي على صوت ناجي العلي أكثر مما ينبغي؟

ما تخبرنا به الأزمة بعد مرور السنين

تظل أزمة فيلم "ناجي العلي" واحدة من أكثر أزمات الرقابة تعقيدًا واستحقاقًا للتأمل؛ فالهجوم الضاري الذي شنته المؤسسة الصحفية والثقافية الرسمية في مصر كان غير مسبوق، فقد أطلقت جوقة الصحافة اتهامات التمويل والخيانة، ونسبت تصريحات "لجماهير" غاضبة من الفيلم ومن رسام مغمور حولوه إلى بطل في مغالطة مألوفة من الصحافة الرسمية، ولعل أكثر جوانب الأزمة لفتًا للنظر هو التحاق أسماء فنية لامعة بالحملة، وبتصريحات ملغزة عن احترام رموز مصر، والذي يحتم على النجوم رفض بعض الأدوار، كما صرح الفنان حسين فهمي.

وعن تناقضات منظمة التحرير ورفعها رموزًا ممقوتة إلى مراتب الشهداء، كما قال كرم مطاوع، وبدورنا نسأل: أي رمز أهان الطيب وبشير الديك؟ كان ناجي العلي مزعجًا في انتقاده للواقع للكثير من السلطات، وكان الطيب كذلك مزعجًا في واقعيته المحلية، إلى الحد الذي دفع بعض المخرجين إلى وصف أفلامه بأنها سينما صراصير البلاعات. ولعلنا نسأل: هل كان هذا الفيلم فرصة للتنكيل بالطيب ومعاقبته على إزعاجه المتكرر للرقيب والسلطة؟ أميل إلى الظن. إن السبب الأكبر للاغتيال المعنوي للفيلم وصانعيه كان في زاوية الرواية التي اختارها؛ فالفيلم يروي قصة الهزيمة والاحتلال من وجهة النظر الشعبية عمومًا، والفلسطينية خصوصًا، ولعل ذلك كان السبب في عدم التطرق إلى ذكر حرب أكتوبر، ربما لأن هذه الحرب ومآلاتها لم تقدم الكثير للقضية الفلسطينية، ومجرد التلميح بذلك سيجلب بالتبعية غضب المؤسسات الصحفية والثقافية الرسمية في مصر، تلك المؤسسات التي كانت في هذه الحقبة مخلصة لمبدأ "مصر أولًا" الذي أطلقه الرئيس الأسبق أنور السادات قُبَيل مفاوضات السلام مع الكيان الصهيوني. أزعجت جملة محمود الجندي السلطة الثقافية الرافضة لأي رواية بديلة، ولسوء حظ الفيلم أن المناخ الرسمي كان مرتابًا ومثخنًا بضربات الإرهاب المتوالية التي طالت كل مستويات السلطة تقريبًا؛ مما تسبب في بطش رسمي مبالغ فيه، رافقته اصطفافة نخبوية نراها بعد هذه السنين مألوفة للغاية. 

الإرث ينجو من الاغتيال

مضت السنون ورحل أغلب صناع الفيلم وجلاديه، وظل حضور الفيلم أسيرًا تحت ظلال أزمته العجيبة، تعاطف معه الناس بمرور الزمن، وقل من تناولوه بمعيار فني بعيدًا عن أزمته. لم يكن فعليًّا فيلمًا عن ناجي العلي، ولربما نقول: إنه لم يكن من أفضل أعمال عاطف الطيب. ولكن الإنصاف يقتضي الاعتراف بأنه كان محاولة شجاعة وفريدة من أجل توثيق بصري مهم لذاكرة السينما المصرية التي لم تتعرض لهذا الفصل من التاريخ العربي في أعمالها، كما سيظل الفيلم مثالًا مهمًّا لفهم انحيازات منظومة الفن في مصر، وماهية السرديات المهيمنة على قيم الفن وحرية الإبداع وإهانة "الرموز".