دراسات
شريف إمامالسنهوري وأزمة مارس – الجزء الثالث
2024.09.07
مصدر الصورة : ويكيبيديا
مسؤولية جمال عبد الناصر عن الاعتداء على السنهوري
تشير بعض الدراسات إلى أن الصف الثانيَ من الضباط كان وراء هذا الاعتداء، وأنه كان يتصرف من تلقاء نفسه دون انتظار أوامر من عبد الناصر([1])، لكن رواية وكيل النيابة في القضية تقول: إنه قصد منزل السنهوري مساء الحادث لأخذ معلومات في التحقيق، وكان لديه وقتذاك الأستاذ السيد علي السيد، ولقد رفض السنهوري أول الأمر الإدلاء بأقواله في التحقيق، وردد أقوالًا عن مسؤولية الرئيس الفعلي (جمال عبد الناصر) لا رئيس الوزراء الصوري (محمد نجيب)، لكنه وافق على الإدلاء بأقواله ووقَّع عليها بعد ذلك، وهي أقوال تشير بصراحة تامة، وتوجه أصبع الاتهام إلى بعض المسؤولين([2]).
وتشير أوراق السنهوري -حسب ما جاء على لسان زوجته- أنه رفض مقابلة عبد الناصر عندما جاء لزيارته، وحسب روايات الكثير من الضباط الأحرار، فإن عبد الناصر هو المسؤول عن أحداث الانفجارات الستة التي وقعت بالقاهرة في 20 مارس؛ يقول عبد اللطيف البغدادي في هذا السياق: إنه كان هو وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم في 21 مارس في زيارة لعبد الناصر في منزله لمرضه، فأبلغهم بأن الانفجارات التي حدثت في اليوم السابق، وأشار إليها في اجتماع مجلس قيادة الثورة، إنما هي من تدبيره؛ لأنه يرغب في إثارة البلبلة في نفوس الناس ويجعلهم يشعرون بعدم الأمن والطمأنينة، وحتى يتذكروا الماضيَ أيام نسف السينمات، وليشعروا بأنهم في حاجة إلى من يحميهم([3]).
وهذا الأمر أكده خالد محيي الدين في شهادته، الذي أشار إلى أن ناصر قال له: إن تلك الاضطرابات التي شهدتها البلاد في 26 إلى 29 مارس تكلفت أربعة آلاف جنيه([4])، وكما أشارت روايات رجال البوليس الحربي إلى أن ناصر كان على علم بأن تلك المظاهرات خرجت تأييدًا له، وحسب رواية طعيمة فإنه أنفق عليها خمسة آلاف جنيه([5])، وكان عبد الناصر في صراعه مع نجيب قد استخدم هيئة التحرير والبوليس الحربي والعمال([6])، وهذا على الرغم من أن الثورة قد نصت على تحريم الاضطرابات([7]).
وهذا الأمر أكده فتحي رضوان في شهادته عن مسؤولية مجلس قيادة الثورة عن الاعتداء، وكذلك الدكتور وحيد رأفت([8])، وهو ما ترجح لسليمان حافظ رغم استبعاده ذلك في البداية([9]). لقد سرب أعضاء مجلس قيادة الثورة أنباء الخلاف مع نجيب، وما كان يثار حول تعاون نجيب مع القوى الرجعية، وعلى رأسها الوفد والإخوان([10])، ومن ثم كسب مجلس قيادة الثورة تأييد صغار الضباط وضباط البوليس الحربي([11])، لقد كان تسريب قرارات وآراء نجيب حول عودة الأحزاب القديمة والحياة البرلمانية، يثير ضباط الجيش وغيرهم ممن أحسوا أن نصيبهم من النفوذ والسلطة والمميزات الخاصة قد انتهى([12]). كان هذا الشعور -الذي أشاعه ناصر ورفاقه- كفيلًا بإحداث مثل تلك التعديات، لا سيما أن السنهوري قد أشيع عنه تعاطفه مع نجيب([13])، أو بمعنى أدق مع عودة الحياة البرلمانية.
وإذا نظرنا لشهادة من عاصر الواقعة، فشهادة المحامي كمال خالد -وكان يومها من ثوار الجامعة- أن الضباط التابعين لعبد الناصر كانوا وراء الحادثة([14])، وهو ما أكده إبراهيم عبده من أن رجال البوليس الحربي الذين اشتراهم ناصر كانوا وراء الحادثة([15])، ويذكر السيد يوسف أن عبد الناصر أظهر في قناعته بما آلت إليه الأمور، لكن في الخفاء دبر هو وأعوانه طعيمة والطحاوي تلك التحركات([16]).
كما أن الصحيفة التي نشرت الخبر هي جريدة الأخبار المملوكة للأخَوين علي ومصطفى أمين([17])، وحسب رواية محمد نجيب فإن الجريدة وقفت مع عبد الناصر بكل مدافعها الثقيلة([18])، حتى إنها نشرت نصَّ مكالمة بين نجيب والنحاس؛ لإثارة الرأي العام على نجيب في أثناء أزمة مارس؛ كما أشار ناتنج (Nutling) إلى أن صحيفة الأخبار هي التي قَوَّت عزيمة ناصر في صراعه عندما نشرت أن ناصر سيظل الزعيم الحقيقي للثورة([19]). ومن خلال متابعة كتابات الجريدة أثناء الأزمة، نجدها وقفت مع أختها الجمهورية ضد نجيب وضد الأحزاب وضد صحيفة المصرى الوفدية. كما أن رواية صلاح نصر تشير إلى ذلك: "كان علي أمين على صلة وطيدة بالبكباشي أحمد أنور قائد الشرطة العسكرية، وكان الأخَوان أمين يعتبران أن أحمد أنور مصدر سلطة ومعلومات لعلاقة الأخير المباشرة بعبد الناصر"([20]).
يبقى لنا رواية وهي الأهم، وهي التي جاءت في يوميات مدير مكتب عبد الناصر أمين شاكر عن حوادث يوم 29 مارس سنة 1954، يقول التقرير: "قابلت عبد الناصر ولاحظت أن حالته المزاجية معتدلة، وبادرني: ما رأيك فيما حدث من موقف العمال؟ فقلت له: إنه موقف طيب بطبيعة الحال. فأجاب: لقد كان هذا الأمر سرًّا عندي لاستخدامه في المستقبل، ولكن الظروف الماضية أجبرتني على إظهار هذه القوة التي تقف موقف المؤيد للثورة".
ثم شرح جمال كيف جرت الخطة: "أنه في جلسة 25 مارس سنة 1954 فاجأ أعضاء مجلس قيادة الثورة بالقرارات الخاصة بعودة الأحزاب وقيام الحياة النيابية وحل مجلس قيادة الثورة؛ ليقطع الطريق على محمد نجيب، حتى إن أنور السادات دهش، وأراد أن يتكلم، فنظر له جمال بعينه بما معناه "أنِ اسكت الآن وانتظر وستفهم" وفعلًا نجحت الخطة([21]). وهنا سألته: ما موقف نجيب الآن؟ فقال: أظنه قد فهم الآن أنه ليس بالقوة الحقيقية في البلاد، ويضحك قائلًا: حين سمع نجيب بما حدث أمام مجلس الدولة قال: لماذا لم يتوجهوا إلى علي ماهر ويخلصونا منه لأنه (عايز يعمل رئيس الجمهورية)"([22]).
نخلص من تلك الروايات إلى أن الخبر المكذوب صدر من البوليس الحربي لجريدة الأخبار لسان مجلس قيادة الثورة، وأن البوليس الحربي ذهب كفاعل خير لإبلاغ السنهوري بالمظاهرة القادمة، وأن الضابط حسين عرفة سهَّل مهمة دخول المتظاهرين للنَّيل من السنهوري، وعندما استغاث السنهوري بوزير الداخلية جمال عبد الناصر تأخر أكثر من نصف ساعة قبل أن يرسل صلاح سالم، وحسب ما روى السنهوري في محضر التحقيق على لسان الأستاذ السيد عبد الرحيم سكرتيره، أن صلاح سالم عندما قال للمتظاهرين: لماذا تعتدون على السنهوري وهو ليس بخائن؟ قالوا له: ولماذا أرسلتمونا إليه للاعتداء عليه([23])؟!
لقد أدرك أعضاء مجلس قيادة الثورة أن مشروع الدستور هذا -الذي ستناقشه جمعية تأسيسية وتقره في شهر يوليو سنة 1954- استهدف إقصاءهم عن أن يكون لهم وجهٌ من وجوه المشاركة في السلطة، كما استهدف إبعاد المؤسسة العسكرية عن أن يكون لها دور في العملية السياسية؛ إذ جعل مشروع الدستور رئاسةَ الجمهورية رئاسةً برلمانية تُختار من هيئات على رأسها وأقواها المجلس النيابي. كما حرص على ألَّا تتولى مسؤولية ما في تقرير السياسات وتنفيذها، وانحصر ما أنيط بالرئيس من سلطة يستخدمها منفردًا في تعيين خُمس أعضاء مجلس الشيوخ، وثُلث أعضاء المحكمة الدستورية. وحرص المشروع على عزل الجيش عن رئاسة الجمهورية وربطه بالوزارة؛ كما جعل القوة السياسية الدافعة لمؤسسات الدستور كلها هي الحركة الحزبية التي لا يجيد الضباط التعامل معها، واشترط المشروع في رئيس الجمهورية بلوغ سن الخامسة والأربعين الذي لم يكن بلغه إلا محمد نجيب([24]).
لقد كان موقف عبد الناصر هذا انتقامًا من مجلس الدولة كمؤسسة قضائية، ومن ثم لم يلبث أن غير قانونها وفصَلَ الكثير من أعضائها واخترق أجهزتها، كما كان انتقامًا من السنهوري، فكما يقول عبد اللطيف البغدادي في مذكراته([25]): نوقش في 12 أبريل سنة 1954 إصدار قرار من مجلس قيادة الثورة بحرمان كل شخص تولى الوزارة في الفترة من عام 1936 حتى 23 يوليو سنة 1952، من تولي الوظائف العامة لمدة خمس سنوات. وأوضح جمال عبد الناصر أن الغرض من هذا القانون، هو التخلص من رئاسة السنهوري لمجلس الدولة، بطريقٍ غير مباشر؛ لأنه سبق أن تولى الوزارة. ولقد صدر فعلًا قرار من مجلس قيادة الثورة بهذا المعنى، ترتَّب عليه حرمانُ السنهوري وحده من وظيفته كرئيس لمجلس الدولة؛ لأن أحدًا من السياسيين الذين ينطبق عليهم القانون لم يكن شاغلًا لوظيفة يمكن أن يفقدها، بل إن القانون نفسه استثنى الدكتور طه حسين حيث كان وزيرًا في وزارة سنة 1950.
هكذا ضُرب السنهوري رئيس مجلس الدولة، وسُفك دمه، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يَحدث فيها هذا في مصر. لقد تميز هذا الوطن باحترام القضاة منذ عهد الفراعنة، فنرى على مقابرهم "فرعون" العظيم يقف خاشعًا خائفًا أمام ميزان العدالة الذي يمسك به قردٌ أو قط أو حتى بقرة، وربما كان ذلك عن قصد هو تأكيد أن شخص القاضي لا يهم، فما دام يمسك بميزان العدالة، وما دام يجلس على كرسي القضاء، فلا بد أن يخضع له الفرعون ذاته. هكذا استقر في ضمير المصريين احترام القضاء، حتى في أحلك عصور المماليك حين خضع أحد سلاطينهم لحكم القاضي الذي قضى ببيعه في سوق الرقيق! واستمر هذا الاحترام قائمًا إلى أن ضُرب السنهوري رئيس مجلس الدولة وهو يؤدي واجبه في محراب العدالة!