دراسات

شريف إمام

السنهوري وأزمة مارس – الجزء الثاني

2024.08.30

تصوير آخرون

واقعة الاعتداء على الدكتور عبد الرزاق السنهوري

 

في صبيحة 29 مارس 1954 خرجت جريدة الأخبار بخبر غامض ومثير؛ هو أن السنهوري دعا الجمعية العمومية للمجلس إلى أمر مهم اليوم، وهذا الخبر هو الذي حفز الجماهير لمهاجمة المجلس ورئيسه. ويمكن النظر إلى شهادة الدكتور السنهوري في واقعة الاعتداء عليه باعتبارها الرواية الأهم، حيث قال ما نصه: "إن الدكتور حسن بغدادي اتصل بي هاتفيًّا حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف صباح يوم 29 مارس، وسألني عما نُشر في جريدة الأخبار، فأظهرت له ارتياحي لهذا السؤال؛ لأنه أتاح لي فرصة توضيح الحقيقة للمسؤولين، وأفضيت له بالغرض من الاجتماع وهو إجراء حركة ترقيات، وقلت: إنه يستحسن أن تقوم بتبليغ من تراه من المسؤولين، فأجاب: إن البكباشي جمال عبد الناصر بجانبي وهو يتحدث في الهاتف، فطلبت أن أتحدث معه، وأعدت له ما ذكرته للدكتور بغدادي. وعلم على هذا الوجه بحقيقة اجتماع الجمعية العمومية، وانتهى الحديث الهاتفي"([1]). ولما بلغ السنهوري أن جموعًا معادية في طريقها إلى مجلس الدولة، أخبر جمال عبد الناصر بذلك هاتفيًّا قبل وصول هذه الجموع بنحو ساعة، طالبًا منه -وكان وزيرًا للداخلية- اتخاذ التدابير الكفيلة بمنع وقوع اعتداء متوقع، فلقي من عدم مبالاته بالأمر ما يستلفت النظر([2]).

ويكمل السنهوري واقعة الاعتداء عليه فيقول: إن أول مصدر علم منه بخبر المظاهرة، ضابط عَرِف فيما بعد أنه الصاغ حسين عرفة، وكيل البوليس الحربي؛ فقد دخل غرفته في الساعة الثانية عشرة والربع وقد ارتسمت على وجهه علائم غير طبيعية من الانزعاج، وقال: إن هناك مظاهرة عدائية قادمة إلى مجلس الدولة، وقد أتيت لأخطرك بها.

وعلق السنهوري قائلًا: "ولو كان قد قال لي: إن المتظاهرين ينادون: الموت للسنهوري -الموت للخائن- نريد رأس السنهوري، وهو ما كان يعرفه، لأيقنت تمامًا أنني لن أواجه مظاهرة من الشجاعة البقاء لمواجهتها، بل سأواجه عصابة من السفاكين، من التهور البقاءُ أعزل لملاقاتها، ولكنت على وجه اليقين دبرت الأمر على وجه آخر". وأخبره الضابط المذكور بأن رأيه إزاء هذا أن يبقى في مكتبه حتى يصل المتظاهرون، وعندئذ يخرج إليهم، ويتحدث بحقيقة الأمر فينصرفون. وأصدرَ حسين عرفة أمرًا بفتح الباب الخارجي للمجلس وكان مقفلًا، وقاده هذا الضابط بيده إلى خارج الغرفة، وما كاد يخطو خطوة نحو السلم حتى شعر بأن بعض المتظاهرين يجذبه من الخلف، وأن آخرين يدفعونه إلى الأمام، وذلك كله قبل أن يصل إلى المكان الذي كان يستطيع أن يخاطب فيه المتظاهرين.

لعل رواية السنهوري تلك تجعلنا نقطع بأن الاعتداء عليه كان مبيَّتًا له ولم يكن عفْويًّا كما أشار هو في محضر التحقيق([3])، بل إن وكيل النيابة في تلك القضية "برهان العبد" يؤكد أن الأمر كان مدبرًا، وخُطِّط له حتى يولد الفاعل مجهولًا، كما أشار وكيل النيابة إلى الروح التي شعر بها وهو يجمع الأدلة من الجهات الحكومية من محاولات للعبث والتضليل؛ بغية تجهيل الحادث وعدم الكشف عن مرتكِبيه، حتى لقد وصل الأمر وقتها إلى وضع المحققين جميعًا تحت الرقابة، كما روقبت هواتفُهم بالمكاتب والمنازل([4]). وما يؤكد ذلك روايات المعاصرين للواقعة، فيروي فتحي رضوان شهادته قائلًا: "إن هذه إشاعة أراد مجلس قيادة الثورة أن يَتخذ منها ذريعة لضرب السنهوري والاعتداء على مجلس الدولة كصورةٍ من صور التأديب للقضاء والقضاة والمؤسسات التي تقف في وجه الثورة"([5]).

ويقول الدكتور وحيد رأفت([6]): إن زميله وصديقه الأستاذ يوسف المهيلمي المستشار بمجلس الدولة، ذكر له أن وراء هذه التظاهرات والشعارات أياديَ مدبرة يحركها بعض ذوي النفوذ في مجلس قيادة الثورة. وتواترت الإشاعات أن صلاح سالم كان شخصيًّا وراء هذه المؤامرة، وأحد كبار مدبريها ومخططيها.

مما سبق يتضح أن المظاهرات كانت مدبَّرة، وأن السنهوري كان مطلوبًا الاعتداءُ عليه. ولعل من الأهمية شهادةَ الضابط الذي حضر إلى السنهوري لإبلاغه بنبأ قرب مجيء المظاهرات إليه وهو الضابط حسين عرفة، يقول عرفة في شهادته: "إن رئيس البوليس الحربي أحمد أنور قد استدعاه، وأبلغه أن جريدة الأخبار قد نشرت خبرًا عن اجتماع خطير لمجلس الدولة يجب منعه بالعنف أو الحُسْنى، وحذرني من وفاة أي شخص، وأعددت الخطة بالتعاون مع إبراهيم الطحاوي وأحمد طعيمة، وطلبت منهما ألا يتحرك أعضاء هيئة التحرير إلا بأوامر شخصية مني، ثم توجهت بعربة بوليس حربي وفي ملابس مدنية إلى مقر مجلس الدولة بالجيزة، وطلبت مقابلة رئيس المجلس، وعرَّفت السكرتارية بنفسي، وأكَّدت أن مظاهرات عمالية قادمة تهتف ضد المجلس وأنني أخشى عليه، ورضي السنهوري بمقابلتي. وهنا أرسلت شاويشًا كان يرافقني إلى طعيمة والطحاوي، فتدفقت المظاهرات التي قاما بتدبيرها، ومعها بعض جنود المباحث الجنائية بملابس مدنية وهم يهتفون: الموت للخونة، وطلب رئيس المجلس مندوبين عن المتظاهرين؛ ففُتِحت الأبواب وتدفق المتظاهرون، وهموا بأن يعتدوا على أعضاء الجمعية العمومية، وتظاهرتُ بأني أمنعهم من ذلك، ثم قمت بإطلاق طلقتين في السقف، وأشرت بإخراجهم من مبنى المجلس فخرجوا، ويختم عرفة قائلًا: "وافتعلت تمثيلية بأنه قد أغمي عليَّ من الجهد وأنا في موقف المدافع حتى حضر صلاح سالم"([7]).

وفي شهادة الدكتور وحيد رأفت أشار لعملية التخريب، فيقول: شاهدت آثار الطلقات النارية في السقف، وعشرات الملفات ومئات الأوراق والمذكرات القضائية مبعثرة في كل مكان، تملأ أرض الغرفة الخالية([8]). واعترف إبراهيم الطحاوي في شهادته بأنه كان وراء كل الاضطرابات والمظاهرات العمالية التي شهدتها أزمة مارس سنة 1954([9]).

أما شهادة أحمد طعيمة -وهو الشريك الثالث للطحاوي وعرفة- فتنصل فيها من تلك التهمة وألصقها بأحمد أنور ومساعده حسين عرفة؛ إذ يقول: "مرت شائعة مغرضة بأن مجلس الدولة مجتمع لإصدار فتوى ضد ثورة 23 يوليو، وسمعها السيد أحمد أنور قائد البوليس الحربي في ذلك الوقت ومساعده حسين عرفة، فتدخلا في سير أحداث 1954 بما لم يطلب منهما، وقادا بعض المشتركين إلى مجلس الدولة بدون علمنا في هيئة التحرير؛ لأنه لو كان في تخطيط هيئة التحرير الاعتداء لكانت دبرت الاعتداء على نقابة المحامين التي أصدرت قرارها بالفعل ضد الثورة وكانت على رأس النقابات المهنية، أو الاعتداء على جريدة المصري التي دأبت على شن حملات صحفية ضد الثورة، وكانت على رأس صحف المعارضة، ولكن نحمد الله أنه لم يحدث من ذلك شيءٌ مطلقًا([10]).

ولعل شهادة طعيمة وهي تثبت حدوث الواقعة من قِبَل البوليس الحربي لكنها تنفي التدبير لها، كما أنها تثبت أن مَن وَجهوا المظاهرات نحو المجلس كانوا يعلمون أن خبر جريدة الأخبار إشاعة. ولعل دفوع طعيمة في رأيي باطلة؛ حيث إنه بالفعل تم الاعتداء على جريدة المصري في نفس اليوم([11])، وتم الإتيان على نقابة المحامين وحل مجلس نقابتها وعزل نقيبها. لكن ما جعل طعيمة يلقي بالتهمة على الآخرين، هو أنه تأخر في نشر شهادته عن الباقين، فلم يعد خائفًا من ردهم عليه.

من خلال تلك الشواهد يتبين أن الاعتداء كان مدبرًا، وأن الفاعلين هم عمال هيئة التحرير وضباط البوليس الحربي، وأن قادةَ الاعتداء هم: أحمد أنور، وحسين عرفة، وإبراهيم الطحاوي، وأحمد طعيمة، وذلك باعتراف الجميع من خلال مذكراتهم، وإن أنكروا عند سؤالهم في التحقيقات حينها. ومن ثم فإن الاعتراف هو سيد الأدلة، ولا يقدح في أهمية الاعتراف إنكار أحد المتهمين الذي تأخر في نشر شهادته واحتج بحجج واهية. لكن ما مدى مسؤولية جمال عبد الناصر عما وقع للسنهوري؟ هذا ما سنجيب عنه في المقال التالي.


([1]) محضر التحقيق في واقعة الاعتداء على رئيس مجلس الدولة، نيابة الجيزة، 29 مارس 1954، ص32 نقلًا عن جريدة الأخبار 17 سبتمبر 1975.

([2]) سليمان حافظ، ذكرياتي عن الثورة، ص130.

([3]) محضر التحقيق، ص33 نقلا عن الأخبار 17 سبتمبر 1975.

([4]) شهادة وكيل النيابة في قضية الاعتداء على السنهوري "برهان العبد"، جريدة الأخبار 28 أغسطس 1975.

([5]) فتحي رضوان، 72 شهرًا مع عبد الناصر، ص48.

([6]) وحيد رأفت، حول المؤامرة على السنهوري ومجلس الدولة سنة 1954، جريدة الأخبار 8 سبتمبر سنة 1975.

([7]) شهادة حسين عرفة، أحمد حمروش، ثورة يوليو ج 2، الهيئة العامة للكتاب، 1997، ص842.

([8]) وحيد رأفت حول المؤامرة على السنهوري، الأخبار 8 سبتمبر سنة 1975.

([9]) شهادة إبراهيم الطحاوي، أحمد حمروش، ثورة يوليو ج 2، ص753.

([10]) أحمد طعيمة، شاهد حق صراع السلطة نجيب عبد الناصر عامر السادات، القاهرة، 2005، ص82.

([11]) أحمد أبو الفتح، جمال عبد الناصر، ص301.