دراسات

شريف إمام

مراسلات قراء مجلة الهلال (1892-1906) الجزء الثاني

2024.03.22

تصوير آخرون

(دراسة من خمسة أجزاء-الجزء الثاني)

 

مراسلات القُرّاء كمصدر للمعرفة التاريخية
باب مراسلات مجلة الهلال نموذجًا (تحليل للشكل)

 

وُلِد بابُ المراسلات في مجلة الهلال من رَحم تساؤلات ألقت بها المجلة إلى قرائها، فجاءت إجابة أحدهم كنواة لتدشين هذا الباب، وبدورها لم تكفَّ هيئة المجلة عن طرح مزيد من التساؤلات ذات الطابع الجماهيري؛ من أجل استجلاب مزيد من المراسلات. فكما يذكر المستشرق الألماني مارتن هارتمان (M. Hartmann) فإن زيدان كان بارعًا في طرح الأسئلة المتنوعة على قرائه بغية الفوز بتفاعلهم، وكثيرًا ما كانت تدور حول قضايا إسلامية تستهوي غالبيتهم.

وإذا حاولنا تحليل تلك الرسائل من حيث الشكل، فإن أول ما يستوقفنا هو توقيعها من قبل مُرسِليها؛ فقد كانت أغلب الرسائل المنشورة موقَّعة بأسماء أصحابها؛ حيث جاءت 256 رسالة بأسماء مُرسِليها بنسبة تجاوزت 86% من إجمالي الرسائل، بينما جاءت عشر رسائل أخرى من وكلاء المجلة المتصلين بها دون تسمية لهم، واحتل (ر. ن) وهو اسم مستعار لأحد الأدباء تسع رسائل، وجاءت 22 رسالة أخرى بأسماء مستعارة. وأوضح تحليل باب الرسائل إقدام النساء على مراسلة المجلة، فجاءت ثلاث رسائل منها لسيدات فضلنَ الاستعارة على التصريح عند ذكر أسمائهنَّ؛ فهذه "معتدلة" من بيروت، و"بهية" من الإسكندرية، وتلك "محجوبة" من القاهرة، بينما أفصح أربعُ نسوة أخريات عن هويتهنَّ، وكنَّ لبنانيات، وهنَّ الأديبات: لبيبة ماضي، واستير خوري، وعفيفة أظن، بالإضافة إلى السيدة مريم طاسو. ولعل غلبة التصريح على الاستعارة بالنسبة لمراسلات النساء إلى مجلة الهلال، يكشف عن انخراط مبكر للمرأة العربية -خاصة الشامية- في الشأن العام غير هيَّابة لذلك، في الوقت الذي طغى فيه -وفق دراسة سارة بيدرسنSarah Pedersen- استخدام أسماء مستعارة على مراسلات النساء في صحف بريطانيا حتى أوائل القرن العشرين؛ حيث كانت النسوة هناك يناضلنَ من أجل خلق هوية مجتمعية تسمح لهنَّ بالمشاركة في الشأن العام.

ولعل ثاني ما يلفت النظر هو جنسية المُرسِلين؛ فإن أكثر من مئة رسالة قد وردت إلى المجلة من الشام؛ ونعني: لبنان وسوريا وفلسطين. ولكن هذا العدد لا يعكس التمثيل الشامي في رسائل القُرَّاء؛ فقد أرسل الدكتور اللبناني أمين الخوري اثنتي عشرة رسالة أثناء وجوده بالقاهرة كان يوقعها بذكر المدينة المصرية الموجودة بها سواء دمياط أو المنصورة، والحال نفسه بالنسبة للأديب السوري رفيق العظم الذي راسل المجلة عشر مرات أثناء وجوده بمدينتي القاهرة وحلوان، وكذلك الطبيب اللبناني إسكندر جريديني ومراسلاته من القاهرة، فضلًا عن مراسلات لشوام من الولايات المتحدة والبرازيل وغيرهما، وهو أمر يجعلنا نقول بأن أغلب المراسلات كانت شامية. كما وُجدت مراسلات عراقية وسودانية ومن الهند أيضًا، بالإضافة إلى مراسلات المصريين التي حلت في مرتبة ثانية بعد الشوام.

ولعل آخر ما يستوقف الانتباه، هو شمول تلك الرسائل لمساحة واسعة من الخريطة الطبقية للمجتمع؛ فلقد أبانت معظم الرسائل عن وظيفة ومهنة المُرسِل، وإذا أضفنا إليها رسائل الأدباء المعروفين الذين لم يذكروا مناصبهم وقت المراسلة -وهى معلومة من تراجمهم- أمثال: رفيق العظم، وفرح أنطون، وشكيب أرسلان وغيرهم، يتضح لنا تداعي قطاع كبير من الجمهور على اختلاف الطبقات والمهن على مراسلة مجلة الهلال؛ فهناك صغار الموظفين، مثل: رسالة أرسلان إسحاق (صاحب أجزاخانة المحلة الكبرى)، وكذلك محمد أفندي فاضل (صاغ بالسكة الحديد حلفا السودان)، كذلك هناك المهنيُّون، مثل : الدكتور نصر فريد (حكيم عيون المنصورة)، والمهندس قاسم هلالي (مهندس بعموم ري قبلي)، وكذلك حضور طبقة كبار الموظفين، مثل: عبد الغفار رياض (قاضٍ بمحكمة المنصورة)، وعلي بك حيدر (وكيل مديرية النوبة).

ولقد تميَّزت الصورة التي جاءت عليها مراسلات القُرّاء بتنوعٍ شديدٍ؛ حيث تراوحت بين المقالات والأسئلة والتعقيبات والتقارير وغيرها، وفيما يلي شكل يوضح حصة كل نوع من تلك المراسلات. 

خلاصة القول: إن تحليل رسائل القُرَّاء من حيث الشكل، يؤكد عمق التنوع في الموضوعات، ومقدار الاختلاف في الصور التي جاءت عليها تلك المراسلات، كما أن جنسيات المرسلين اتسمت بنفس القدر من التنوع وإن استأثر الشوام بالأغلبية، ولعل ظاهرة التنوع ووضوح هوية المرسلين تعزز من مصداقية تلك الرسائل، باعتبارها إحدى النوافذ لرصد الحالة المجتمعية والثقافية في تلك الفترة.

هيئة التحرير وتوجيه باب المراسلات

مع افتتاح جورجي زيدان مجلته، دعا في صدر عددها الأولِ الكتَّابَ العرب للمشاركة في مشروعه والمساهمة فيه، ومع ذلك، ظل زيدان المساهم الرئيس، بل ربما الوحيد تقريبًا في كتابة مقالات الهلال، وقد أدى ذلك بالضرورة إلى بعض التكرار والسطحية، وأحيانًا إلى ترجمات مباشرة من المؤلفين الأوروبيين؛ لذا وجد زيدان مقصده المنشود في باب المراسلات الذي استقطب أدباء رفيعي القدر، مثل: شكيب أرسلان، ورفيق العظم، وفرح أنطون، ورجل الدين الهندي شلبي النعماني وغيرهم؛ لذا حرصت هيئة تحرير المجلة على الاهتمام بهذا الباب، بل وتوجيهه في بعض الأحيان.

 وقد ظهر أول معالم هذا الاهتمام في وجود بعض المُساجلات التي كان زيدان أحد طَرفيْها، ولعل أوَّلها نقاشه حول رواية "الأمير مراد" لخليل سعد أحد الروائيين الشوام بمصر، وهي رواية تاريخية كُتبت بالإنجليزية، عرض لها زيدان مقرظًا ومنتقدًا. ولمَّا كان المديح مما تألفه النفوس، وتأنف من سماع النقد، فإن حديث صاحب الهلال عن نشوز المؤلف عن السياق الزمنى الذي وضعه لروايته- وهو منتصف القرن الثامن عشر- وحديثه عن أماكن وعادات تعود إلى فترة كتابة الرواية، مثل قوله عن بطلة روايته: إنها تهذبت على يد خالتها التي كانت حينئذٍ معلمة في أحسن مدارس البنات في بيروت. والمعروف أن مدارس البنات لم تكن في بيروت قبل عام 1860، وكذلك وصفه طرابيش الرجال الحمراء التي كانت بالغة إلى آذانهم، والمعروف أن الطربوش لم يدخل سوريا قبل أوائل القرن التاسع عشر، كما أن الرواية -حسب قول زيدان- بها بعض التكلف في ربط حوادثها. وقد سارع خليل سعد بمراسلة الهلال في العدد التالي مباشرة، وذكر في رسالته قائلًا: "قرظت روايتي فاستحققت شكري، وانتقدتها فاستوجبت ثنائي، كيف لا وقد نبهتني إلى بعض ما فرط مني سهوًا بعبارة تشف عن حسن المبدأ وقويم المنهج؟"، ومضى خليل في رسالته محاولًا تبرير بعض ملاحظات زيدان، وهو ما لم ينطلِ عليه، وعبر عن ذلك برسالة نُشرت في نفس العدد.

ومنذ البداية، أظهرت المجلة قدرًا من سعة الصدر حيال رسائل قرائها؛ ففي معرض الرد على رسالة فيها تصويب لمعلومات ذكرتها المجلة عن أصل كلمة مصر، ذكرت المجلة: "يسرُّنا أن نرى أدباءنا وأفاضلنا يبحثون في شؤون بلادهم وتواريخهم، ويتناظرون في إثبات حقيقة من حقائقها، وهذه صفحات الهلال مفتوحة للنظر في كل ملاحظة يبديها حضرات القُرَّاء سواء كانت نقدًا أو إصلاحًا أو تخطئة؛ لأننا نستحي من الحق إذا عرفناه ألا نرجع إليه". بل إن هيئة التحرير عندما بدأ النقاش في قضية العمران كتبت: "نحث حضرات الكتَّاب الأفاضل على الكتابة في هذا الموضوع؛ لأنه من الأهمية بمكان عظيم".

أمَّا تدخل هيئة التحرير في مسار الرسائل؛ فقد جاءت أولى بوادره في تعقيب أوردته هيئة تحرير المجلة في باب المراسلات، بعد خمسة أعداد من فتح هذا الباب، ملتمسة العذر عن إغفال نشر بعض الرسائل؛ لأنها تنشرها بحسب تاريخ ورُودها، وأهمية موضوعها، معللة بعض تقصيرها بعدم تذييل الرسائل بأسماء أصحابها، أو ألقابهم، أو محل إقامتهم، لكنها لم تُضيق الأمر، فذكرت أن من أرادوا الرمز عن كتابة الاسم، فهم مخيرون، ولكن لا بد من إيضاح مرادهم من هذا في ذيل رسائلهم. وواصلت المجلة تقديم الاعتذار للقُرَّاء عن تأخر نشر رسائلهم، ومنها رغبتها في نشر "تاريخ آداب اللغة العربية" لصاحب الامتياز جورجي زيدان، واستحسان الإتيان عليه جملة واحدة، بشكل لم يترك مجالًا لباب المراسلات في هذا العدد؛ كما حاولت المجلة وضع بعض الضوابط لرسائل القُرَّاء، منها ضرورة أن يراعوا فيما يكتبونه الاقتصار على المفيد وإهمال الإطناب أو الإطالة؛ فإن ذلك مما قد يُلجئ هيئة التحرير إلى تأجيل درج رسائلهم أو إغفالها جملة، ولقد وصلت المجلة إلى التأكيد بوضوح على أن المساحة الأكبر من المجلة هي لمنشئها، وأن نشر الرسائل قد يُشكل طغيانًا على تلك الضرورة التي أملتها رغبة القُرّاء فذكرت: "إننا نؤثر أن تكون متدرجات الهلال كلها من قلم منشئه إجابةً لاقتراح القسم الأكبر من حضرات القُرَّاء، فنتقدم إلى حضرات المراسلين الكرام أن يعذرونا إذا أغفلنا بعض رسائلهم، وكان طول المقالات مبررًا لتعطيل باب المراسلات في بعض الأعداد. 

ولقد برز تدخل فريق التحرير في باب المراسلات بالتصرف في مضمون الرسائل من خلال ذكر موضوعها دون عرض نصها، كما ورد في تعليق الكثير من أرباب المعارف على اقتراح المجلة بشأن معرفة لسان الجاهلية بلفظ الجلالة، حيث ذكرت المجلة: "مما يسرنا أن أفاضل القطرين المصري والسوري عاملون معًا في تمحيص الحقائق والبحث فيها، وقد جربنا ذلك أكثر من مرة، واقترحنا عليهم أكثر من اقتراح، فرأيناهم يتكاثرون على الأجوبة، ويتبادلون الأفكار، ويتناظرون بلا تعصب فيما يكتبون، فالحمد لله على انقشاع ظلمات الجهل، وائتلاف قلوب العثمانيين في ظل سلطان السلاطين، رافع لواء الأمن والحرية والعدل والمساواة بين رعاياه، مولانا السلطان عبد الحميد". ولعل تلك الزيادة من قبل الهلال -بمدح السلطان- جاءت من قبيل وأد فتنة رمي زيدان بالتعصب، عندما طرح سؤاله عن سر تسمية والد سيدنا محمد نبي الإسلام "عبد الله"، وهو اسم لم يكن معروفًا لعرب الجاهلية. كذلك تتجلى صور تدخل هيئة التحرير في باب المراسلات من خلال إقدام المجلة على إغلاق باب النقاش بشأن حقوق المرأة في سؤال قد طرحته على القُرَّاء، يقول: هل للنساء أن يطلبن كل حقوق الرجال؟ وكانت العلة الخوف من ملل القُرَّاء، وأنهت النقاش بشكر كل من خاضوا عُباب هذا البحث سلبًا كان أو إيجابًا؛ لأن مرجعها جملة إلى المصلحة العمومية.

ولقد أبان تدخل هيئة التحرير عن وجهه القاتم عبر التضييق على بعض الرسائل التي جاءت في اتجاه معاكس لرأي المجلة، كما في قضية التمدُّن الإسلامي، وبماذا قام؟ فقد علقت المجلة أثناء اشتعال النقاش حول تلك القضية قائلة: "ورد علينا بعد طبع العدد الحادي عشر رد من حضرة الفاضل محمد أفندي التارزي بالإسكندرية؛ فلم يمكن درجه هناك. ونظرًا لأنه يقول فيه قول الشيخ الألفي تقريبًا مع وروده متأخرًا، فاكتفينا بالإشارة إليه مع الشكر لحضرة المرسل. ونتقدم إلى حضرات المراسلين أن يَعدلوا عن الإسهاب لئلا تضيق صفحات الهلال عن رسائلهم فيخسر القُرَّاء فوائدها". بل إن هذه المناظرة شهدت اعتراف هيئة التحرير بالتدخل في إبقائها داخل إطار النقاش العلمي، والحيلولة دون انصرافها إلى روح الشطط، فذكرت: "لا يسوء حضرة الفاضل (ر. ن) إغفال بعض ما جاء في رسائله؛ فإننا كثيرًا ما أغفلنا رسائل برمتها وردت علينا دفاعًا عن أحد وجهي هذه المناظرة لاحتوائها ما تشم منه رائحة التعريض؛ فإن ذلك من مقتضيات الاعتدال، وهي الخُطة التي يتوخاها الهلال في سائر متدرجاته".

كذلك نبهت المجلة قُراءها إلى ضرورة عدم الخوض في المسائل المنهي عنها وفق سياسة التحرير؛ ففي معرض الاعتذار للقُرَّاء عن نشر بعض رسائلهم ذكرت: "وردت علينا أسئلة واقتراحات، ورسائل بعضها دينية، وبعضها سياسية، ولمَّا كان موضوع الهلال لا يأذن بالخوض في هذه الأبحاث أهملناها، وجئنا نلتمس من أصحابها عذرًا، ونرجو من حضرات المراسلين والسائلين أن يتجنبوا مثل هذه الأبحاث؛ لأنها خارجة عن موضوع الهلال".

بل إن المجلة كانت تتوقف عن نشر المراسلات التي لها طابع المساجلات؛ إذا توقف أحد طرفي المساجلة عن الرد على اعتراضات خصومه؛ ففي قضية: هل ترتفع منزلة المرأة بالعلم أكثر أم بالمال؟ ذكرت المجلة: "ورد علينا رسائل عديدة من بعض الأفاضل في هذا الموضوع لم ننشرها؛ لأن المناظرة توقفت ريثما يرد الرد من حضرة النطاسي الدكتور أمين أفندي الخوري بعد نشر تلك الردود الموجهة إليه".

ومن الظواهر التي تطلَّبت تدخل هيئة التحرير، ظاهرة الرسائل غير الموقعة؛ فقد دفعت بالمجلة إلى مخاطبة جمهورها بضرورة أن يذيلوا كتاباتهم بأسمائهم كاملة، ولهم الخيار مع ذلك في أن تُنشَر أسماؤهم في ذيل تلك الرسائل كاملة أو يُكتفَى بحرف منها؛ محذرة أصحاب الرسائل التي لا تكون ممضاة بعدم النشر. ومع ذلك استمرت تلك الظاهرة، فذكرت المجلة صراحة أنه يرد عليها رسائل بلا توقيع، أو مذيلة بتوقيع غير واضح، وأن مثل هذه الرسائل لا يُلتفت إليها وإن كان بعضها لا يخلو من فائدة، ولكن تلك الفائدة تذهب ضياعًا للسبب الذي قدمناه. وجددت المجلة اعتذارها عن تأخير نشر الرسائل مؤكدة على ضرورة أن يلتزم المرسلون بما ذكرته المجلة غير مرة؛ بشأن اختصار تلك الرسائل والاقتصار على الأهم من مواضيعها.

بالنظر إلى الموضوعات التي تضمنتها رسائل القُرَّاء في مجلة الهلال، فإنها تراوحت بين القضايا المجتمعية، وفي القلب منها حقوق المرأة، وقضايا الحداثة، وفي وَسَطها موقف الإسلام من التمدُّن والأسس التي قامت عليها حركة التمدُّن الإسلامي، كذا قضايا تاريخية ولغوية تشكلت بالأساس من الاشتباك مع روايات ومرويات جورجي زيدان في التاريخ واللغة، وغير ذلك من القضايا. وفيما يلي توضيح لحصة كل موضوع من رسائل القُرَّاء: