المدن: عمران وأماكن في القلب

أنور فتح الباب

السويس أم الفَرَندات الخشب

2025.01.26

مصدر الصورة : ويكيبديا

قراءة في أحوال بلد الغريب

 

(1)
أذكر مجلسي اللاهي.. على مقاهي"الأربعين"

بين رجالها الذين..

يقتسمون خبزها الدامي. وصمتها الحزين

ويفتح الرصاص -في صدورهم- طريقنا إلى البقاء

ويسقط الأطفال في حاراتها

فتقبض الأيدي على خيوط "طائراتها"

وترتخي -هامدة- في بركة الدماء

وتأكل الحرائق..

بيوتها البيضاء والحدائق..

ونحن هاهنا.. نعض في لجام الانتظار!

 

أمل دنقل، السويس

 

لا أدري منذ متى بدأت أفتن بتاريخ المدن والحواضر. وصرت شغوفًا بقراءة كتب تاريخ الأقطار المحلية والبلدان. ربما مرجع ذلك دراستي للتاريخ التي دفعتني للقراءة في تراث الكتابة العربية في "خطط المقريزي"، أو "معجم البلدان" لياقوت الحموي، أو "شذرات من تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر، أو كتب المحدثين كـ"الخطط التوفيقية" لعلي مبارك، و"المدينة على مر العصور" للويس ممفورد، و "مدن متمردة" لديفيد هارفي.

لعل ذلك أيضًا كان تعويضًا عن إحساس بالفقد والاغتيال لمدينة ولدت بها، وأُجلي أهلها عنها بقوة العدوان والقهر بعد هزيمة يونيو 1967 على يد العدو الصهيوني. السويس التي تبدو في خيال الطفل ذي الخمس سنوات بعيدة وغائمة بشوارعها المرصوفة بأحجار البازلت الأسود وسور السكة الحديد القريب من بيتنا مرسوم عليه شكل حوت يقفز منحنيًا في الفراغ المجهول، وأكاد أجزم أن الحرب خلقت ذاكرة متوهجة مشتعلة على الأقل في تجربتي كطفل عاصر هذا العدوان تمتلئ بذكريات عن هذه المدينة المُغتالة.

يقع حي "الأربعين" -حي السويس الشعبي الرئيسي شمال المدينة- وقد نشأ هذا الحي نتيجة توسع المدينة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (صدر مرسوم باعتبار السويس محافظة في عهد محمد علي 1810م). في بداية تشكل المدينة نشأ حي "السلمانية" حول "ميناء السلمانية" وهو ميناء السويس الأول الذي كانت تخرج منه رحلات السفن للجزيرة العربية واليمن والحبشة والهند وامتد الحي في توسعه ليصل ويتوسع حول مقام "سيدي عبدالله الغريب" المواجه للسلمانية. وزاد التوسع العمراني مع زيادة التدفق البشري للمدينة بعد حفر قناة السويس ونشوء ميناء "بور توفيق" وازدهار طريق الحج والتجارة مع الهند وجنوب شرق آسيا ونشوء شركات الملاحة والشحن والتفريغ وتجارة مخلفات السفن ونشوء ترسانة السويس البحرية والتوسع في الصيد ممثلًا في ميناء الصيد الرئيسي "الأتكة" -وهو تحريف للنطق الإنجليزي لعتاقة- جبل السويس الذي يحتضن الميناء، وفي فترات لاحقة نشأت صناعة تكرير البترول والأسمدة وأوراق التعبئة "شركة كرافت" و"زارير الملابس" المصنوعة من الصدف البحري. تبع ذلك تدفق أعداد كبيرة من الوافدين من مدن مصر المختلفة خاصة قنا وسوهاج والشرقية ويلاحظ أحد الباحثين أن مرجع ذلك التدفق يعود إلى "قرب الشرقية جغرافيًّا. أما بالنسبة لسوهاج وقنا فبسبب القوة البدنية التي يتمتع بها سكان هاتين المحافظتين مما يمكنهم من العمل في الموانئ بصفة خاصة"[1] ومع ازدياد النزوج للسويس شاعت تسمية "بلد الغريب" على السويس لتصنع مفهوم "ولاد البلد والوافدين".

ولعل من يرددون هذه التسمية ينسون أن "ولاد البلد" هم أيضًا وافدون ولكن وفود قديم كمثل عبدالله الغريب نفسه أكبر أولياء الله الصالحين وصاحب المقام المشهور والذي تذكر السرديات الشعبية الشفوية أنه كان قائدًا فاطميًّا حارب القرامطة وهزمهم في برزخ السويس وأن تسمية السويس تعود للمعركة التي خاضها ضد القرامطة وكاد أن يُهزم فيها لولا صيحته على جموع الجيش كونوا "سواسية". ورغم هذه السردية فإننا لانجد وجودًا واقعيًّا لشخصية عبدالله الغريب المُسمى "أبو يوسف بن محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن عماد"، في كتابات مؤرخي عصره خاصة "المقريزي" مؤرخ العصر الفاطمي. كذلك الأمر بالنسبة لعبدالله الأربعين الذي يطلق اسمه على أكبر أحياء السويس. ويذهب البعض إلى أن تسمية بلد الغريب لكونها مستقرًّا للغرباء الذين بنوها وعمروها وأعطوها زخمها وتنوعها فالكل غرباء "وطوبي للغرباء" كما ورد في الحديث النبوي الشريف.

ومع زيادة سكان السويس بعد افتتاح القناة امتد العمران فنشأ حي الأربعين حول ضريح "عبدالله الأربعين" ليصنع الأهالي بيوتهم من الخشب البغدادلي وشكله المعماري الأقرب للعمارة الإسلامية ذات المشربيات في "الأربعين" لطابعها المحافظ حيث لا يجب انكشاف أهل البيت من النساء وليسهل لهن مراقبة الحركة في الشارع من ثقوب المشربيات. ويصف علي مبارك طريقة بناء هذه البيوت بأنها كانت عبارة عن "تقفيصات من الخشب مملوء وسطها بالمونة والأحجار الصغيرة الملتقطة من شواطئ البحر وهذه التقفيصات المعروفة في مصر والإسكندرية بالسويسية"،[2] وإن كان هذا النمط قد اندثر تمامًا ولم يعد هناك من يقوم ببنائه من عمال البناء والصنايعية إذ لم يتم توارثه كفن معماري. فضلًا عن طغيان البناء بالأسمنت المسلح في بيئة صحراوية قارية.

كان الشاعر الوحيد الذي نعى السويس القديمة هو عبد الرحمن الأبنودي الذي عاش في السويس فترات من الستينيات فضلًا عن تردده الدائم عليها فترة حرب الاستنزاف فنعاها في ملحمته "وجوه على الشط" التي ترصد حياة الناس في السويس ما بعد هزيمة 1967 في قصيدة مطولة عنوانها "السويس أم الفَرَندات الخشب" مصورًا تكالب المقاولين وتجار الخشب في نهب هذه "الفَرَندات" الخشبية في فترة ما بعد حرب أكتوبر ليستخدموها في أعمال البناء:


أنا شفت تجار الخشب بينهشوا لحم السويس

بيمصمصوا ضلوع السويس أم الفَرَاندات الخشب

واما تقف حرب اليهود بتشتغل حرب الخشب!

شفت السويس صبية بيعريها تجار الخشب

بيكشفوا عورتها للناس أجمعين، من كل ملة وكل دين

اتشبهتلي يومها بشهيد ع الرمال.. مرمي وإيده ع الزناد

بيبكي مأساة البلاد

وزميله بارك فوقه يخلع ساعته أو دبلة جواز!

أنا شوفت السويس جثة لأم.. على التراب متلقّحة

وعيالها حواليها بيبيعوا "ستيانها" القديم

ويبيعوا توبها اللّي نشف م الدم

ولا خجل ولا خجل ولا خجل!


وقد انتقل نمط البناء السويسي للعمارة الأوربية بالسويس في نمط "التراسينات" أو "الفَرَندات" في "حي السويس" الذي نشأ مع وفود الجاليات الأجنبية لمصر بعد افتتاح قناة السويس لتضم جنسيات متنوعة من إنجليز وفرنسيين وإيطاليين ويونانيين وهنود وضم ميدان النمسا وشارع النمسا والطريق المواجه لكورنيش السلمانية حيث التراسينات والفَرَندات التي تُذكرك بالمدن الساحلية الإيطالية. وأطلق عليه السوايسة اسم "البر التاني" في تمييز طبقي ووطني جامع يميز البرجوازية الأوربية والمتمصرة من تجار ووكلاء تجاريين وصيارفة ومن لحق بهم من المصريين -يميزهم- عن الأحياء الوطنية ولعل في ذلك الوصف مرادفًا لتسمية الحي الأوروبي في بورسعيد الذي عُرف باسم حي "الأَفرنج" (بفتح الألف).

ولم يقتصر التواجد الأجنبي على "حي السويس" بل امتد إلى بورتوفيق حيث مبنى الإرشاد الخاص بقناة السويس وشركات الملاحة والتوكيلات الأجنبية وشركات خدمة السفن والقباطنة والمرشدين الأجانب للسفن حيث قطنوا فيلات مبنية على النمط الأوربي من طابقين ذات سطح منحدر من القرميد الأحمر.

أما كورنيش السويس القديم في السلمانية ومنطقة الخور فقد مزج بين التواجد الوطني والأجنبي حيث مبنى "المساجيري مارتيم" الذي أنشأته الشركة الفرنسية عبر البحار سنة 1861 بعد أن منحها الخديو إسماعيل الأراضي الخاصة بالشركة المجيدية العثمانية لتكون مقرًّا لها، وكان مبنى المساجيري يعمل على إرشاد السفن التجارية الفرنسية وغيرها وبه نُزُل ومخازن للبضائع في طريق التجارة الرئيسي للهند[3] وبالقرب من مبنى المساجيري يوجد بيت بطرس كساب القائم بجمع خراج جمرك السويس زمن محمد علي. فضلًا عن قصر محمد علي الذي بناه لمتابعة حروبه ضد الوهابيين في الجزيرة العربية ومتابعة بناء أسطول مصر في البحر الأحمر.[4]

وقد دُمر كورنيش السلمانية بفعل عدوان 1967 وسنوات حرب الاستنزاف حيث كانت هذه المنطقة هي والسويس كلها تواجه نقطتين من نقاط خط بارليف هما نقطة "لسان بورتوفيق" على الضفة الشرقية للقناة التي كانت تقوم بقصف السويس وبورتوفيق وبث الأغاني كيدًا في أهل السويس في وقت كان الناس يشعرون بالإحباط من الهزيمة فضلًا عن السباب بالألفاظ البذيئة من الجنود الصهاينة. كذلك كانت هناك النقطة الحصينة في عيون موسى التي نُصب فيها مدفع فرنسي من طراز هاوتزر 50 وقد نصبه العدو على قضبان للسكك الحديد ليتم دفع ماسورة المدفع من النقطة الحصينة تجاه السويس لقصفها وأطلق عليه أهل السويس مدفع "أبو جاموس" لأن إطلاقه للقذائف كان يصحبه صوت أشبه بخوار الجاموس.

ولذلك لم يكن من الغريب أنه وفقًا لإحصاء وزارة الإسكان والتعمير وقت تعمير السويس بعد نصر أكتوبر أن كانت نسبة المدمر والمصاب من مساكن السويس نحو 68% من مجموع بيوت المدينة لوقوعها في مرمى النيران الإسراائيلية الكثيف.

علي أن الكارثة البيئية التي حلت بمنطقة الخور (الخور في المعجم الوسيط مصب الماء في البحر المنخفض عن الأرض بين مرتفعين) وهو الخليج الذي كان يُشكل موقع ميناء السلمانية القديم ثم كورنيش السويس في الخمسينيات والستينيات -كانت الكارثة- هي عملية سد الفتحات التي تربط الخور بخليج السويس وتتدفق من خلالها المياه إليه. واستخدم لضخ الصرف الصحي لولا أن الأهالي ضجوا من الرائحة المنبعثة فتوقف الصرف وفتحت منافذ الخور بشكل محدود. ولكن بدأت عمليات متتالية لردم المنطقة وتواكب ذلك مع تدمير الكورنيش القديم وتحول المنطقة لمنتجعات وكافيهات ومبانٍ قبيحة الشكل اغتالت القيمة الجمالية لمكان كان يشكل رئة للمدينة.

(2)
يا رايح السويس أمانة الله عليك

أول ما تخش بابها توطى تبوس ترابها

وتتذكر شبابها مين مات ومين يعيش

 

الكابتن غزالي

 

بدأت حركة إعادة تعمير مدن القناة ومنها السويس ضمن مخطط وزارة الإسكان والتعمير وبدعم من بعض دول النفط العربية فكان نصيب دعم السويس سعودي/كويتي عبر إنشاء مدينتي "الملك فيصل" و"الصباح" في امتداد السويس الشمالي وفي مناطق لم تكن مأهولة قبل 1967. فضلًا عن إعادة بناء ما تهدم أو ترميمه داخل المدينة وفقًا لفحص لجان قامت بهذا العمل وتكفلت وزارة الإسكان والتعمير بالبناء أو تعويض أصحاب المساكن لإتمام عملية إعادة التأهيل.
والحقيقة أنه غابت أي رؤية جمالية أو بيئية أو معمارية عن مناطق المدن الجديدة فكانت عبارة عن عمارات حجرية استخدم في بنائها الحجر الجيري مستندًا في بعض الأبنية إلى أعمدة أو حوائط حاملة. وكانت بعض عمليات التعمير مجالًا للنهب عبر مقاولات الباطن من وزارة الإسكان وحيث يتم البناء بأقل تكلفة لدرجة تصدع عمارات حي كامل بمدينة الصباح هو حي السحاب قبل مرور أقل من عشرة سنوات على بنائه حيث أخذت العمارات في التهاوي ما دفع المحافظة إلى إخلاء السكان جميعًا ونقلهم إلى حي الصفا والمروه. وتمت إزالة الحي بالكامل دون محاسبة حقيقية بل إن بعض ما تسرب من التقرير الفني لمعاينة العمارات المنهارة ذهب إلى أن أسباب الانهيار ترجع إلى ضعف التربة في منطقة البناء. ولكن من المدهش أنه بعد مرور سنوات قليلة بيعت أراضي الحي بالكامل لأفراد لتصعد أبراج شاهقة على نفس الأرض التي وُصفت بالضعف.

على أن المدن الجديدة غابت عنها أي مظاهر جمالية من حدائق أو منتزهات أو أماكن ترفيهية. فيما عدا أسواق مجمعة تضم محلات سوبر ماركت وصيدليات ومكتبات. ولعل جغرافية المدينة المستطيلة الامتداد ووجود قناة السويس وخليج السويس جنوبًا دفع عمليات التوسع إلى الشمال حيث أخذ شكل بناء مدن جديدة عبر جمعيات للإسكان التعاوني أو عبر وزارة الإسكان ببناء مدن جديدة تحمل نفس السمات المعمارية ذات الكتل الأسمنتية التي لا تراعي الطبيعة الصحراوية للمدينة ودون طابع معماري مميز. وحتى في مدينة السلام التي قسمت أراضيها وبيعت لجمعيات لطرحها للأهالي لبنائها. أتى شكل الطابع المعماري بها فوضى قبيحة من عمارة عربية وإسلامية وحداثية أوروبية وحتى مغولية وإن ألزم الحكم المحلي الأهالي بالالتزام ببناء خمسة طوابق ولأن المدينة بعيده عن قلب السويس فإنها تواجه في دورات متكررة أزمة ضعف دفع المياه إليها لدرجة إرسال المحافظة لسيارات لتوفر المياه للأهالي.

وتغيب عنها الخدمات الأساسية كنقطة للشرطة أو مركز طبي أو دور سينما وحدائق أومنتزهات عدا الكافيهات والمطاعم المنتشره بها لقربها من جامعة السويس التي أتى معمارها ككارثة معمارية، فمبانيها عبارة عن كتل أسمنتية يغيب عنها أي عنصر جمالي أو رمزي يربطها بالمدينة التي تتسمى باسمها.

وقد أدى النزوح الواسع للعمالة للمدينة للعمل في الشركات المتعددة الجنسيات والاستثمارية في مشروع "شمال خليج السويس"، أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار الوحدات السكنية شراء أو إيجارًا ووصلت الأسعار إلى أرقام فلكية وقد ترتب على هذا التوسع نحو الشمال عدة مشكلات منها:

أولًا: بُعد هذه المناطق السكنية عن مركز المدينة ما ساعد على خلق بؤر عشوائية خاصة في المدن المخصصة للإيواء العاجل لمن عانوا من انهيار منازلهم أو تعرضهم لكوارث ما خلق بؤرًا تحمل سمات المناطق العشوائية من عنف وجريمة وما إلى ذلك من مشكلات سلوكية وأخلاقية. فضلًا عن قرب بعض هذه المناطق ومجاورتها لمناطق عشوائيات في أطراف المدينة في منطقة عرب المعمل حيث تجارة الخردة وجمع القمامة وما تتصف به هذه المنطقة من عنف الرثاثة والفقر ومشكلاته المعروفة.

ثانيًا: صعوبة الوصول إلى قلب المدينة بسبب البعد الجغرافي في مدينة صغيرة ومزدحمة ومحدودة الطرق رغم محاولات خلق طرق التفافية، ما يكبد الأفراد معاناة يومية للوصول إلى أماكن العمل والأسواق أو الأماكن الترفيهية فضلًا عن تكلفة المواصلات في مدينة ترتفع فيها أسعار كل شيء بشكل استثنائي وتخضع وسائل المواصلات كلها للقطاع الخاص.

(3)
في 67 كشفت البيوت عن حياتها الخاصة

ونظامها الداخلي السري وقد أُلقي بها إلى الشوارع

أو فوق أكوام الحطام. تبعثر الدفء واقتحم الضوء

الذكريات فبدت عارية تحت عيون الشمس

تبددت الأنفاس الحارة، أنفاس الحياة

ولم يتبقَّ سوى الغبار ورائحة الأجساد والأشياء المحترقة


محمد الراوي، رواية تل القُلزُم


بالنسبة لمنطقة العين السخنة وكانت أشهر مصايف السويس حتي التسعينيات، فقد تحولت إلى قرى ومنتجعات سياحية مغلقة للطبقة الجديدة من النوفوريش، ولعل أشهر مشروعاتها هو هضبة الجلالة المخصصة للمليارديرات من رجال المال والأعمال.

كانت السويس تمتلك شواطئ جميلة تلجأ إليها الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية ومنها الكابنون وهو اسم مشتق من الكلمة الفرنسية "cabana" بمعنى كابينة أو عشة، ويشبهها أحد روادها في الخمسينيات بمصيف "نوفيل" الأرستقراطي الفرنسي.[5] وقد ضرب الإهمال المنطقة بدمار شاطئها وتقسيم الأراضي فيها وبناء الأبراج السكنية، التي واجهت مشكلة غياب الصرف الصحي وتلوث الشاطئ.

كذلك كان هناك بلاج وكازينو ركس وكان أكثر بساطة وشعبية وانتهى وجوده بعد حرب أكتوبر 1973 وحركة التعمير. وكان ضحية الإهمال العام ودفع مياه الصرف الصحي وصرف شركات البترول القريبة من شاطئ خليج السويس حتى انتهى تمامًا كشاطئ شعبي.

وتم الاستعاضة في منتصف التسعينيات عن شاطئ ركس بإنشاء كورنيش السويس الجديد ليشرف على خليج السويس ولكن في فترة لاحقة تم إحاطة جزء من هذ الكورنيش بسور حجري وابتداع ما يُعرف بشاطئ أهل السويس الذي أُحيط بسور حجري وأصبح الدخول إليه مدفوع الأجر فضلًا عن إقامة مجموعة من المحلات التجارية والكافيهات والمباني الإدارية ومطاعم ومنتجعات وتم مد ما يعرف بممشى أهل السويس حتى شاليهات المحافظة في بورتوفيق، وتم إغراق المنطقة بالكافيهات على جانبي طريق بورتوفيق وترك فراغات من النجيلة والكراسي الحجرية للجمهور الذي لا يستطيع ارتياد الكافيهات والمنتجعات.

وتغيب عن السويس أي دور عرض سينمائي فقد أغلقت آخر دار عرض في عام 2022 وكانت السويس تمتلك 14 دار عرض سينمائية كما يذكر نائب السويس في مجلس النواب السايق الأستاذ عبدالحميد كمال من أشهر تلك السينمات والتى كانت تحمل أسماء أجنبية ومصرية:


أوبليسك، وشنتكلير الشتوي وحديقتها الصيفية، ومصر، وسينما نون التي كان لها سقف متحرك يفتح صيفًا ويغلق شتاء، بالإضافة إلى سينمات الحرية ببور توفيق، وحنفي، وأوبرا حنفي،و رجب الشتوي والصيفي، ورويال، وبلال.[6]

ولأن الخيال المعماري والثقافي للمرحلة خيال سقيم وعاجز عن الإبداع سعى إلى استعادة رمز "إمبريالي" لنصبه في مدخل خليج السويس وهو "النمور البنغالية" والنمور البنغالية كانت جزءًا من نُصب تذكاري للجنود الهنود ضحايا الحرب العالمية الأولى، اُفتتح في عام 1926 لتخليد ذكرى أربعة آلاف ضابط وجندي من الجيش الهندي سقطوا في مصر وفلسطين إبان الحرب العالمية الأولى، وكان يتألف من عمود مرتفع يحيط به اثنان من النمور البنغالية ولكن النُّصب دُمر أثناء حرب 1967 فلم يبقَ منه سوى القاعدة على جانبي الطريق المؤدي إلى النصب. أما النُّصب فقد تم نقله إلى المقابر العسكرية بمصر الجديدة ووضع على شكل النمر رمز الهند. ويبلغ التضليل الفكري والثقافي مبلغه في تصريح مصمم التماثيل الجديدة الذي قال فيه إن هذه النمور "تُعد تجسيدًا للروح العسكرية والفخر الوطني وتعتبر رمزًا لحماية القناة".[7]

ولنا أن نسأل لماذا يتم استعادة هذا الرمز الآن؟ هل هي النوستالجيا العمياء التي تستعيد رمز النمور البنغالية دون إدراك الأبعاد الدلالية لها كرمز كولونيالي بريطاني يرمز لحماية قناة السويس، ممرها إلى مستعمراتها العتيدة في الهند؟ وهل طُمس المفهوم البريطاني للتمثالين كرمز للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وإلباسه ثوبًا وطنيًّا ما جرد الرمز من دلالته المستقرة في الضمير الكولونيالي؟ وهل غابت الفكرة عن الرموز الوطنية في مدينة يثقلها عبء التاريخ عبر العصور! أم إنه الاستسهال والكسل الفكري والجهل والتضليل المعرفي؟


1- جموعة من الباحثين: السويس، دراسة د. محمد صبحي عبدالحكيم "مدينة السويس وأثر قناة السويس على تطورها"، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2023، ط 2 ص 252.

2- علي مبارك: الخطط التوفيقة ج 12، المطبعة الكبرى ببولاق، مصر 1305 هـ ص 71.

3- كلودين بياتون وآخرون: السويس تاريخ وعمارة. المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة 2011 ص 258.

4- أنور فتح الباب: عمارة السويس التاريخية، موقع باب مصر، 8 يناير 2023.

5- كلودين بياتون وآخرون: المرجع السابق، شهادة نجيب أمين، كابنون السويس ص 157.

6- جريدة المصري اليوم: السويس تخسر آخر دور عرض سينمائية تعمل منذ 20 عامًا... ومطالب بفتح صالات جديدة، 8/2/2021.

7- جريدة وطني: العدوان الثلاثي يُدمر النمور البنغالية، ومينا إسحق يُعيدها مرة أخرى، 5 أكتوبر 2024.