المدن: عمران وأماكن في القلب

وسام سليمان

حلوان التي في خاطري

2024.12.21

تصوير آخرون

حلوان التي في خاطري:  

 

شوارع نظيفة وسينمات وقصور تحتضن التمر حنة وحدائق على كل شكل ولون

 

 قبل أن يزحف عليها جراد المقاولات وتستبيحها يد الهدامين

 

نتفرج من خلف زجاج نافذة الفصل على شوارع الضاحية الصغيرة، وقد اغتسلت بالمطر. تفوح رائحة الطمي وشجر التمر حنة من القصر المواجه لمدرستنا، وتعود الشمس لتظهر على استحياء ويعم سكون جميل في الشوارع الخالية.

 نتسابق أنا وأخي في طريق العودة من المدرسة، يغافلني كعادته، ويبدأ في صعود السلم الحجري المقابل لأسوار الحديقة اليابانية، كان يعرف أنني لن أجرؤ على تقليده في تهوره وشقاوته، وأنني سأكتفي بالرجاء والتحذير:

- "انزل يا حسام! طب والله لانا قايلة لماما".

يصل إلى أعلى درجات السلم ويقف على البسطة العالية، يتلصص على بوذا وتلاميذه الثمانية والأربعين، المتحلقين حوله وقد تألقوا بلونهم الأحمر وسط الشجر الأخصر القصير، تنعكس صورتهم على وجه بحيرة الماء خلفهم، وتتماوج مع أشعة الشمس الصافية كأنها موسيقى بلا صوت.

ورغم أنني لست مغامرة فإنني فاجأت نفسي بعدها بعدة سنوات، عندما تحديت صديقتي أنني سأصعد ذلك السلم الحجري للنهاية، وعندما وصلت إلى البسطة العالية استطعت أن أرى الحديقة من زاوية مرتفعة، وانتابتني نفس النشوى التي حكى لي أخي عنها، لم أبالِ بكلمات المارة والعابرين من الكبار الذين يرمون بتحذيراتهم وهم يلعنون شقاوة العيال ويتساءلون: "ما الفائدة التي يجنيها هؤلاء الأطفال الأشقياء من وراء ذلك"!

في رواية "أفراح القبة" اختار الكاتب الكبير نجيب محفوظ الجنينة اليابانية لتكون المكان الذي يتحرر فيه بطله عباس المؤلف السرحي من كابوس الماضي، وينزاح عنه ظلام الكآبة وأشباح العدم، دله سمسار على بنسيون "كوت دازور" ولا أعرف إن كان يقصد ذلك البنسيون القريب من الحديقة "بنسيون العائلات" والذي كان -في وقت ما- مثالًا في الذوق والرقي، وكثيرًا ما كنت أعبر أمامه وأنظر مستطلعة، يخرج عباس من البنسيون بعد أن يحرر "رسالة الانتحار" ويتمشى إلى الحديقة اليابانية:

"مضيت إلى الحديقة اليابانية قبيل العصر. لم أنتبه إلى ما حولي، لم أرَ إلَّا خواطري المتلاطمة في حمرتها القانية. جلست على أريكة. بأي وسيلة وفي أي وقت؟ ثقل رأسي في مهب الهواء الجاف، ولم أكن نمت الليلة الماضية إلَّا ساعة واحدة. ثقل رأسي، وغلبني الإرهاق، وخفت النور بسرعة مذهلة. لمَّا فتحت عيني تبدت العتمة في هبوطها الوئيد. لعلي نمت ساعة أو أكثر. قمت في خفة غير متوقعة. وجدتني في حال جديدة من النشاط. تخلص رأسي من الحرارة وقلبي من الثقل. ما أعجب ذلك! انقشعت الكآبة وتلاشى التشاؤم. إني الآن إنسان آخر. متى ولد؟ كيف ولد؟ لماذا ولد؟ تساءلت أيضًا عمَّا حدث في إغفاءة ساعة. لم تكن ساعة على وجه اليقين. لقد نمت عصرًا كاملًا واستيقظت في عصر جديد".

كانت الحديقة بمساحتها الشاسعة تمتد إلى الشوارع الخلفية، التي تجذب محبي العجل وسباق الدراجات كما أن العجل كان وسيلة مواصلات خاصة، يستخدمها الموظف والعامل وتلاميذ المدارس ولا يكاد يخلو منزل من عجلة أو أكثر، وحتى أواخر السبعينيات لم يكن إلَّا عدد محدود من الأسر يمتلكون سيارات في حلوان.

مدرستنا -مثل معظم مدارس حلوان- كانت في الأصل قصرًا أثريًّا كبيرًا، وعلى طول هذا الشارع كانت القصور والڨلل بمعمارها الخاص تفوح من جنائنها رائحة الفل والياسمين والتمر حنة.

معظم القصور مغلقة بالأقفال، نتسلق أسوارها لنتفرج على مدخلها الجميل ونتخيل قصصًا وحواديت كالتي نراها في الأفلام.

أما بيوت الطبقة الوسطى فتبدو لك من الخارج صغيرة نسبيًّا، كل شيء صغير وخجول من الخارج إلَّا عندما تدخل فتفاجأ بالبراح الجميل.

بالقرب من مدرستنا كانت إحدى الڨلل الصغيرة اسمها "ڨيلا رامي"، ورامي كان أشهر تلاميذ المدرسة، عاصر أجيالًا، وبقى هو طفلًا، لم تشأ أمه الحنونة أن تحرم ابنها الذي كان يعاني تأخرًا عقليًّا من فرحة الذهاب إلى المدرسة، ترقبه الهانم الجميلة من ڨراندا المنزل حتى يعبر الشارع إلى المدرسة بـ"المريلة" والحقيبة، نظيفًا، مهذبًا، وديعًا ومعتزًّا بنفسه، عادة ما يكون أول من يقف في طابور الصباح، امتنع الأطفال عن التنمر عليه خشية العقاب، وكذلك احترامًا لشخصيته الرزينة، نمر من أمام ڨيللته، وننادي "رااامي"، فيخرج إلى الڨراندا مع أمه ويحيي جمهوره الكبير الذي يعبر الڨيلا، وهو يهتف باسمه.

كان يحلو لي أن أصعد الربوة العالية خلف الحديقة اليابانية، حيث مبنى "مسشفى حلوان العام"، وكانت في الأصل قصرًا غاية في الجمال والفخامة، ثم أنزل مع الشارع المنحدر إلى "مكتبة حلوان العامة" التي أزعم أنها كانت من أغنى المكتبات العامة، وحكى لي والدي عن نشاطاتها الثقافية المتعددة في الستينيات.

كانت تأخذني أختى إليها في الإجازة الصيفية، تجلس هي في صالة الكبار، وتجعلني أجلس في حجرة الأطفال الواسعة، التي تملؤها كل أنواع القصص التي احترت وقتها أمام عناوينها، فأخذت أتجول بين غرف المكتبة، وأشم رائحة الورق القديم. كانت المكتبة مثل معظم مباني حلوان بسقف عالٍ وشبابيك كبيرة، بمجرد أن تفتحها ينطلق الهواء الجاف النقي، ولم يكن هناك أي حاجة إلى تكييف ولا حتى مراوح.

نجلس أنا وأختي عدة ساعات وعندما نخرج من المكتبة نجد معظم الشوارع في حالة سكون، إنها فترة القيلولة المقدسة، التي تنتهي قرب الخامسة مساء عندما يخف الحر وتغرب الشمس فيفتح شيش النوافذ ويخرج الناس إلى البلكونات، يشربون الشاي ويسمعون إذاعة "أم كلثوم"، ويخرج الأطفال إلى الشارع للعب الكرة أو سباق العجل، ويقف الشباب على النواصي يتسامرون.

قضيت معظم سنوات طفولتي في بيت جدتي وكان في "حلوان البلد" أو "حلوان القديمة"، عشت فيها أهنأ سنوات طفولتي. يوقظني أخي في الصباح الباكر ويأخذني معه إلى الدور الأرضي من المنزل الكبير حيث أعشاش الحمام التي تربيها جدتي، نجلس على درجات السلم نرقبها في صحيانها اللذيذ، وننصت إلى هديلها الذي يبعث الفرح والسكينة في قلوبنا.

صدقت أخي عندما قال لي إنه يفهم لغتها بل وكثيرًا ما ترجم لي ثرثرتها الجميلة، فأنا نفسي وجدتني أقلدها بلا وعي من كثرة المراقبة والعشرة.

لم أندهش عندما قرأت وصف أحد الباحثين الأجانب الذين عاشوا في حلوان في أوائل القرن الماضي بأنها "أجمل قرية في مصر، أتربتها الخصبة وبساتين النخيل وأشجار الجميز التي تملؤها أعشاش الطيور والحمام المنتشر على أغصان الشجر والبيوت الأنيقة المحاطة بأسوار عالية من الطين".

بمجرد أن أتذكر البيت أشم رائحة الخَبِيز والفرن وتسييح الزبدة البلدي، وأتذكر عم فرحات ورائحة التوابل التي تفوح من دكانه الصغير، كنت ألمحه يأتي من منزله على حماره، وأحيانًا كانت تأتي بدلًا منه زوجته الصعيدية أو ابنتاها، وكنت أنبهر بجمال المرأة، ووجهها الصبوح واعتزازها بنفسها، أما البنتان فكانتا كالحوريات.

حورية أخرى كانت تظهر أحيانًا في الظهيرة خلف باب منزلها تبحث عن طفل يشتري لها "لبان سمارة" من دكان عم فرحات، وكنت أتطوع مرحبة، اعتقدت وقتها أنها كانت زوجة أبو نصَّار الذي كانت بقالته بجواره أو ربما جزءًا منفصلًا من بيته، ورغم ذلك فهو يخرج من باب منزله في الصباح بكامل أناقته: الجلباب النظيف المكوي وفوقه البالطو والحذاء اللامع، ثم "الطربوش" الذي كان مثار دهشتنا نحن الأطفال فلم نكن نرى الطربوش إلَّا في الأفلام القديمة فقط.

 يجلس أبو نصَّار سلطانًا في دكانه حتى الساعة الثالثة وقت القيلولة، ثم يعود إليه في المساء حيث يأتيه بعض الأصدقاء يتسامرون ويسمعون الراديو.

في صباح "سبت النور" تقوم جدتي بتكحيل عيوننا من مكحلتها الخاصة، وإذا خرجنا إلى الشارع وجدنا كل الأطفال بعيون مكحلة فلا نشعر بأي غرابة أو خجل، إنه السبت الذي يسبق عيد شم النسيم، الذي يكون عادة يوم الاثنين، فنستعد له بملابس العيد، ونخرج للعب، وأحيانًا نزور الحديقة اليابانية أو الكابريتاج، وفي المساء يكتمل العيد بالسمر حيث يأتي زوج خالتي فنتحلق حول أحاديثه الشائقة وضحكاته المجلجلة التي كانت تبث في داخلنا مشاعر الفرح والاطمئنان.

كانت جدتي تحب الخروج في شبابها أَمَا وقد كبرت فقد بقي لها مشاوير مقدسة كل عام، منها زيارة مقامات آل البيت في مصر القديمة، التي تستغرق يومين متتاليين لزيارة معظم الأضرحة، أما اليوم الثالت فيكون مخصصًا لزيارة السيد البدوي في طنطا.

وكانت تقسم أطفال العائلة بحيث يأخذ الجميع حقه في مصاحبتها على مدار الأيام الثلاثة، وكنت أنتظر دوري تلك الأيام بفارغ صبر حيث تشتري جدتي الغوايش الملونة للبنات والحمص والمشبك من طنطا.

وكنا نتفرج مبهورين من زجاج السيارة على شوارع وسط البلد ومبانيها العالية التي كنا نسميها "مصر".

في أول يوم لي في المدرسة تعرفت إلى صديقتي إيمان التي كانت تشبهني في خجلي وانطوائي، وكانت عندما ترانا إحدى المدرسات نأكل ونثرثر في الفسحة تقترب مندهشة وتعلق ساخرة: "أموت واعرف إنتو بتسمعوا بعض ازاي"؟!

غير أنني مع الوقت بدأت أستجيب للمدرسين الذين يحضوننا على أن نرفع أصواتنا، أما إيمان فظلت عنيدة كالقطط.

أدخلتنا المدرسة في "نشاط الجوَّالة"، وكانت فرصة للتحرر من روتين المدرسة، نذهب إلى "معكسر حلوان" يعلمنا المشرفون كيفية الاعتماد على أنفسنا في شراء الخضار من السوق والطبخ تحت الرمل وما إلى ذلك. عندما لاحظت أن إيمان تختفي كثيرًا، اعترفت لي بعد إلحاح عن اكتشافها مكانًا عجيبًا ووعدتني أن تأخذني إليه في اليوم التالي.

كان ركنًا شبه منعزل عن باقي المعسكر، أغرب ما فيه هو عين الماء الجارية التي لا نعرف أين منبعها وأين تصب.

جلسنا على جذوع النخل نتأمل فقط جريان الماء وننصت إلى خريره العذب.

عندما حكيت لأمي، خمنت أن تلك العين هي إحدى العيون الكثيرة التي يزخر بها المكان، "حلوان الحمامات" لكثرة حمامات الاستحمام في عيون الماء بغرض الاستشفاء.

وقد جربت الاستحمام في تلك العيون وما زلت أذكر تأثيرها النفسي والانتعاش العجيب بعدها.

وكان بجوار "قصر الكابريتاج" في الماضي فندق كبير كان مخصصًا لزائريه، لكن هذا الفندق الكبير تحول في الستينيات إلى "مدرسة حلوان الثانوية بنات".

كان الكابريتاج في السبعينيات والثمانينيات قد صار كازينو كبيرًا وشبه نادٍ، وفي أماسي الصيف يعرض فيلمًا من الأفلام التي انتهى وقت عرضها في السينمات الكبيرة.

ولم يكن في حلوان سوى داري عرض أساسيتين "سينما فاتن" التي كانت سينما شتوية وصيفية، وسينما "ريفولي" التى كانت سينما صيفية فقط، لم تواتِني الفرصة كي أدخل أيًّا منهما، فقد تم إغلاق سينما ريفولي وبعدها سينما فاتن وهُدم المبنيان في أواخر السبعينيات.

عاد والدي في عام 1980 بعد غياب عن مصر استمر عشر سنوات، راعه أن يرى مدينته وقد تغيرت إلى هذا الحد، وكان يقول في أسًى: "حلوان اتبهدلت خالص.. إنتوا ماشوفتوش حلوان زمان".

اقترحت أختي الكبيرة أن ننتقل من حلوان، ونبحث عن مسكن في مكان آخر مثل كثير من أصدقائنا وأقاربنا، فردت أمي: "ونسيب بلدنا"! وكأن انتقالنا من حلوان بالنسبة إلى أمي هجرة إلى بلد آخر.

ورغم أن حلوان ظلت تتشبث بأثر من روحها المغدورة لسنين وربما حتى منتصف الثمانينيات فإنها أنهكت تمامًا، وبدأت تنهار أمامنا كل يوم ونحن نراقب عاجزين عن فعل شيء.

كان هدم الڨلل والقصور القديمة يحدث في البداية على استحياء، وبخطة خفية يتفاجأ بها الأهالي، ولكن بعد زلزال 1991، الذي اتخذه المقاولون ذريعة للهدم وإقامة المولات التجارية والأبراج السكنية، اكتسحت معاول الهدم علانية، وخلال الثلاثين عامًا الماضية تم القضاء على ما تبقى من الضاحية بطلقات متتالية واستبيحت لكل أنواع الجراد ولم يتركوا من "ضاحيتي" حتى شبح أو خيال من روحها القديمة.