ثقافات
ماجي حبيبالكشري.. رحلة صعود
2025.01.05
تصوير آخرون
الكشري.. رحلة صعود
الكشري، الأكلة التي ارتبط اسمها باسم بلدي، الأكلة التي لطالما سمعت اسمها ينطق محرفًا حسب انحراف لهجة من ينطقها من الأجأنب الذين سمعوا عنها بدون أن يروها وقرنوا اسمها باسم مصر.
وأخيرًا، أخيرًا، تحركت مصر لتسجيل إرثها الثقافي من الطعام على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، وبالرغم من تأخرنا عمومًا في هذه الخطوة وتأخرنا خصوصًا في توثيق الأطعمة، فإن الخطوة محمودة ومشكورة، خصوصًا وأنها أول أكلة تتقدم بها مصر للتوثيق، صحيح أنه سبقها في السنوات القليلة الماضية الكثير من مفردات تراثنا ولكن لم يكن بينها مأكولات. أما عن الميزة الأخرى الكبرى لتوثيق الكشري أنه من الأشياء القليلة التي تنفرد بها مصر، بمعنى أنه لا يشاركها فيه دولة أخرى.
فنحن على مدار السنوات السابقة سجلنا الكثير ولكنها من المشتركات مع ثقافات أخرى، فمثلًا: فن السمسمية وفنون الحناء والفنون المرتبطة بالنقش على المعادن ونخل البلح والمهارات والتقاليد المرتبطة به والخط العربي، كلها سجلتها مصر ضمن تراثها الثقافي ولكننا لا ننفرد بها، فكل هذه الموروثات متكررة فى بلدان أخرى. بل إننا تشاركنا مع هذه البلاد فى إعداد بعض الملفات المقدمة للمنظمة الدولية، ومن كل العشرة موروثات المسجلة لا تنفرد مصر سوى برحلة العائلة المقدسة وفن التحطيب والسيرة الهلالية التي كانت فاتحة تلك المبادرات والتي لن أنفك أذكر وأشيد بفضل الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي، لأنه أول من التفت إليها عندما كان الكل إما غافل وإما غير عابئ.
ولكن سعادتي بهذا التحرك لن ينسيني رأيي السابق في الكشري، فلطالما استهجنت أن يمثل الكشري مطبخنا المصري ولطالما رأيتة (بنسختة المتعارف عليها) أكلة مستحدثة في خضم أكلات مصرية أصيلة وعريقة، وكرهت أن يمثل الكشري بحداثتة مطبخًا أصيلًا وقديمًا كمطبخنا. فنصف مكونات الكشري الأربعة الرئيسية، نصفهم: المكرونة والطماطم، ولم يعرفه مطبخنا حتى قرنين فقط من الزمان، فكيف -من وجهة نظري- يزيح الكشري مثلًا البط المحشي بالفريك أو طواجن السمك أو الكشك أو البامية الويكا أو العاشوراء أو غيرها من الأطباق التي تعكس حقيقة مفهوم الإرث الحضاري؟
وبالتالي كنت أرى الأكلة مستحدثة من ناحية التركيب كما أراها مستحدثة اجتماعيًّا. فسنوات عمري الخمسون مكنتني أن أرى القاهرة والإسكندرية وهي تكاد تخلو من محل كشري، وأذكر جيدًا في طفولتي المبكرة أنه لم يتيسر لي رؤية الكشري إلا على عربات خشبية صغيرة فى الأحياء الأكثر فقرًا (وليست الأكثر شعبية) ولم أرَ هذه العربات إلا فارغة معطلة لأن الظروف سمحت لي فقط برؤيتها في المساء! تلك الأكلة أو تلك العربة كانت تُنصب فقط كوجبة أو "تصبيرة" تمنح دفقة سريعة من الطاقة والامتلاء للعمال في ساعات عملهم، مثلها مثل نصبة الشاي والقهوة، كلاهما يختفيان مع مغيب الشمس، وبخلاف العربات الخشبية لم يكن بالقاهرة سوى محل أو اثنين فقط للكشري، أما الإسكندرية فلم تعرف محلات الكشري حتى وقت متاخر جدًّا، وكذلك عرفت من أمي أن نفس الشيء ينطبق على الصعيد.
فإذا أضفنا إلى محدودية تواجدها تاريخيًّا واجتماعيًّا ومكانيًّا، إذا أضفنا إلى ذلك كلة اقتصارها النوعي على الذكور، فقد تجدوا لي بعض العذر في إقصائي الذهني لهذه الأكلة -على حبي الشديد لها- عن قائمة الأكلات المصرية التراثية. فحتى الثمانينيات لم يكن يتسنى لسيدة أن تجد نصيبًا في هذا الطبق الرائع، الذي حتى بعد أن تخطى مرحلة العربية الخشب إلى المحل كان مثله مثل القهوة البلدي، لا تطؤه امرأه.
إذًا فالأكلة الأكثر تفضيلًا والأكثر شيوعًا اليوم ليست أكلة شعبية أصيلة بالمعنى الشائع لهذا الوصف، ما استدعى أن ينسبها كثيرون من المتخصصين إلى المطبخ الهندي لمعرفتهم بحداثتها، فذكروا أنها قدمت الينا مع قدوم العساكر الإنجليز من الهند في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ولن أفرد هذه المقالة لدحض هذا الادعاء، ولا أظن أني أحتاج إلى دحضه، فالأكلة التي أصفها أنا نفسي بالحداثة أكلة متطورة تطورت سريعًا عن أصولها القديمة على الصعيد التركيبي والاجتماعي.
الأكلة مذكورة بالاسم في كتب بعض المستشرقين، يصفون بها خليطًا من العدس الأسود والفريك في قبلي، والعدس والرز في بحري. وحتى في هذا نحن لا نحتاج إلى أن نقول إن الوصفة "مصرية"، لأن ما من ثقافة على وجة الأرض إلا وخلطت البقول مع الحبوب وبخاصة العدس والأرز أو البرغل: المجدرة في الشام، كيشدي في الهند، بغالي بولو في إيرأن، والذي لم يخلط بالعدس، خلط بأنواع من الفاصوليا أو الحمص أو الفول، مش محتاجة يعني عبقرية علشان الناس تخلط هذا بذاك وهيه بتطبخ، إنما الذي ميز الكشري إللي زي ما ذكرنا خليط عادي جدًّا حاصل في كل البلاد هو تطوره التركيبي والاجتماعي.
على المستوى التركيبي، تطورت الأكلة تطورًا سريعًا جدًّا عن أصولها القديمة عندما ظهرت الطماطم وعشقها المصريون، ذلك العشق الخاص، وأضافوها إلى الكشري القديم ثم أضافوا المكرونة الحلقات بالقدر الذي سمح به ثمنها، ثم أضافوا نوعًا آخر من المكرونة الرفيعة ثم أضافوا الشعرية ثم أضافوا الحمص وما زال المصريون يضيفون إلى الطبق تفاصيل أخرى كل فتره، أخيرًا أضافوا بجانبه خبزًا محمصًا وطماطم مخللة. إذًا فهو طبق متطور دائمًا ومرن مرونة عجيبة تقل نسب مكوناتة أو تزيد بحسب سعرها في السوق فيتناقص العدس عند اللزوم ويغلب الأرز على المكرونة حينًا ثم تعود المكرونة لتفوز بأغلب مساحة الطبق مع ارتفاع سعر الأرز وهكذا، يقاوم ويتطور وينتشر.
ومثلما تطور سريعًا تركيبيًّا، تطور أيضًا اجتماعيًّا، فخرج الكشري من البيوت إلى الشارع أو إلى العربة الخشب، فالأكلة كما سبق وذكرنا لم تتعدَّ أن تكون "تصبيرة" في نصف النهار لهؤلاء الذين "على باب الله"، وكان رخص ثمنها المحتوم واتضاع حال زبائنها لا ييسر أكثر من العربة الخشبية. وظل هذا الشكل المرتبط بالكشري يصد عنه بعيدًا كثيرًا من مشتهيه، حتى كانت النقلة الكبيرة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات عندما سمحت "ديمقراطية" المرحلة بافتتاح أول محلين للكشري في وسط البلد: "جحا" و"لوكس" وأتاح شكل المحل اجتذاب بعض الفئات ممن لا يروقها تناول الأكل وقوفًا على مرأى من الجميع، ولا يروقها الأطباق المغسولة في الجردل!
حتى بعد هذه القفزة النوعية ظل الكشري في ثوبة الجديد: "كشري وسط البلد" بعيدًا عن الطبقة الوسطى التي أصبحت أخيرًا ومنذ الخمسينيات من مرتادي الحي الفخيم، وكانت تلك الطبقة -بطبيعة الحال- أقرب إلى تناول الجاتوه والشاورما. أتذكر أمي التي كانت "تسحبني" وراءها إلى "الأمريكين" أو "إكسيلسيور" كجزء مكمل لتجربة التسوق الراقي وتفضله عن الانحطاط إلى محل الكشري الجديد. وأتذكر تمامًا أنه في أواخر السبعينيات كانت مغامرة الانفلات من أهالينا والمروق إلى محل "لوكس" كفيلة بأن تشعرنا بالاستقلالية والثورية والتمرد الذي نمارسة كمراهقين، وكان التعبير عن مثل هذه "الشطحة" في محضر أكبر عدد ممكن من أفراد العائلة بمثابة إعلان بأننا لم نعد هؤلاء الأطفال، ويجدر بهم من الآن فصاعدًا النظر إلينا نظرة جديدة.
ثم حلت الثمانينيات، وكان افتتاح محل كشري "العمده" في المهندسين بمثابة قفزة أخرى في رحلة الكشري، إللي طلع في العالي ودخل المهندسين: "أرض الكُبارات" والمحل مش بس بقى نظيف، لأ، ده كمان فيه ديكور و"منيو" مطبوع وموظفين بـ"يونيفورم" ومزيكا ناعمة فشر الأوتيلات! وطفق إلى تناول الكشري المستنكفون السابقون، فها هو الكشري يجد مكانًا في حي المهندسين الصاعد الذي يمثل ختمًا للتميز، ويؤكد ما حاول عبدالناصر محوه، وكانت في ذلك الحين الفجوات الاجتماعية قد اتسعت، والانفتاح أخذ براحه، ومحلات KFC الأمريكاني "مالية الدنيا" فكأن تجاور طبق الكشري معها هناك حاجة "أوريجينال" خالص.
وتقريبًا في نفس الفتره، قرر الهيلتون، هيلتون النيل العتيد، أن يقدم الكشري على النيل بثمانية جنيهات تقريبًا، ولكن أرجوكم لا تعتبروا ذلك انتصارًا للكشري، فهذان المكانان لم يكونا إلا استثناء، فالكشري حتى تلك اللحظة لم يخرج خارج القاهرة وظل قاصرًا على الأحياء الشعبية حتى أني أذكر أن في 1990 كان افتتاح أول محل كشري في مصر الجديدة حدثًا ترك بصمة في ذكريات سكانها، خصوصًا من السيدات اللاتي لم تتِح لهم أوضاعهم -التي لا تخلو تمامًا من القيود- التحرك الحر في طول وعرض العاصمة كما كان يفعل أقرانهم الذكور.
وما أظن أن في هذه المرحلة كان يمكن أن ينظر إلى الكشري على أنه أكل شعبية وحاملة للهوية المصرية بأي شكل، فهو ما زال طبقًا محدود الانتشار و"قاهري" بامتياز. حتى كانت التسعينيات، وانفجرت قنبلة الكشري في كل أرجاء مصر. شوهد أول محل كشري بالإسكندرية وبكل المحافظات الأخرى، بل بكل حي، وكل شارع، وكل ناصية، وأصبح الزمان زمان الكشري، وطبعًا صاحَب ذلك تعديلات وإضافات في التركيب والتقديم، لزوم المنافسة الشديدة، وما هو إلا قليلًا حتى ركب الكشري المركب وسافر: محلات في مكة، الرياض، الكويت، كل الخليج. ثم رحل أبعد، فافتتح أول محل كشري في العاصمة البريطانية لندن، وعبر المحيط إلى أمريكا وأصبح عالميًّا، بس لسَّه مصري أصيل.
وبالرغم من أن الفول والفلافل سبقوه بكثير، ورأيت بعيني محلات "آخر ساعه" و"نجف" و"جاد" في كل دول الخليج في أواخر الثمانينيات، فإننا لم ننفرد بتقديم الفول والفلافل، فالفلسطينيون والشوام في كل حتة يشاركوننا فيها، ولكن الكشري، والكشري وحده، هوَّه إللي ما حدش عملة غيرنا، نسختنا "الشوارعية" من الكشري فِضْلت ماركة مسجلة باسمنا.
سيمارس الكشري رحلتة الصاعدة أكثر عندما يقدر له -إن شاء الله- أن يحمل اسم مصر على قائمة اليونسكو للتراث الحضاري غير المادي في السنة القادمة، وهذا هو الميعاد الذي يفترض أن تنظر فية اللجنة في الملف قبل التصديق بالموافقة.
ولكن ماذا سيفعل ذلك التصديق بطبق الكشري؟ أعتقد إنه هيحصل كثير. وقتها سيكون من المفروض توافره على بوفيهات جميع الفنادق الكبرى ويمكن أيضًا على قائمة طعام شركة الطيران الوطنية، وسيكتب فصل جديد في تاريخ الكشري، أرهقت ذهني بتوقع التطور التركيبي والاجتماعي القادمين وبتخيل النسخة القادمة "النسخة الخمس نجوم" وما هي اللمحات المطبخية الخاصة التي يمكن إضافتها ليتواءم الطبق البسيط مع مجاوريه في المكان بدون أن يفقد شخصيته؟ ولكني لا أجد هنا المجال أو المساحة المناسبة لأسطر تلك الرؤية.