عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

بروفايلات

محمود كمال القلش

اليوم أكتُب عن "صنع الله"

2025.08.24

مصدر الصورة : آخرون

اليوم أكتُب عن "صنع الله"

 

في إحدى ليالي عام ٢٠١٣ جمعتني معه جلسة لا أنساها في شقته العالية في مصر الجديدة، حكيت له في تلك الليلة عما تعرضت له بشكل شخصي وعما تعرضت له الجماهير في الشارع على مدار سنة ونصف، استرسلْت في الحكي، وتطرقْت لتفاصيل بعينها، كان والدي وصديق عمره قد رحل عن عالمنا منذ عشر سنوات، اتخذت حكاياتي وقتها طابعا شكّاءً وكان الموضوع الرئيسي هو الخذلان وليس القمع. استمع بهدوء إلى كل ما قلت ثم جاء رده مقتضبا: "أكتب" .. فاليوم أكتب!
 
لا أكتب اليوم عما مررت به أو عما أُمرت -وقتذاك- أن أكتب عنه ولكني أكتب عن صنع الله إبراهيم ذاته.
 
لم يكن الحظ حليفي كما كان حليف "دنيا" لأرث موهبة أبي في الكتابة، ولا كان حليفي كما كان حليف "داليا" لأرث دأبه على القراءة، ولهذين السببين اخترت منذ نعومة أظافري ألا أضيف لمشرحة الكتابة قتيلا جديدا، ولكني اليوم أكتب!
 
"انت تعرف صنع الله إبراهيم شخصيا؟" سألني زملائي في الاعتصام صارخين في وجهي غير مصدقين بعدما رأوني أتبادل معه حديثا ضاحكا لا يخلو من البذاءات، ورأوه يطلب من أحدهم أن يلتقط لنا صورة ويرسلها له بالإيميل ليريها ل"ليلى" حين يعود لمنزله!
رددت بوقار وأهمية مغتنما الفرصة: "آه أعرفه شخصيا من زمان، حد يروح يجيبلي شاي!"
 
"انت تعرف الأستاذ صنع الله منين؟" سألني الأديب وطبيب الأسنان الشهير الذي أصبح مديري فيما بعد والذي أعتبر نفسي من أخلص قرائه ومعجبيه والذي أشرف بصداقته حاليا، سألني بعد أن توسط لي الأستاذ بنفسه لأجد عملا في عيادته الخاصة، فحكيت له عن صداقته الطويلة بأبي "حتى أن لهما كتابا مع صديقهما الأستاذ رؤوف مسعد" كنت صغيرا فلم أفهم وقتها حيثيات الانزعاج على وجه الرجل لكني أدركت حماقتي لاحقا.
 
"دي حاجة بيني وبين كمال كنا متفقين لما حد فينا يلاقي التاني حيموت يعملها"
كان هذا رده حين خرج من الزيارة الاستثنائية في قسم العناية المركزة بمستشفى التأمين الصحي عندما سألناه "ليه طلبت تدخل له لوحدك وطلعتنا بره وقعدت جوه ٥ دقايق وهو في غيبوبة؟"
 
تجنبنا سؤاله عن هذا الموقف بعدها ولكن الفضول كاد يقتلني فسألته مرة ثانية بعدها بعشرين عاما "قلتله ايه وهو في الغيبوبة وايه الاتفاق اللي كان بينكم؟" انفجر في الضحك ثم بعد أن هدأ سعاله قال وعينيه تفتقر إلى الصدق: "مش فاكر!"
 
طلبت من "نادية" أن تتم عملية خلع ضرسه في مستشفى مجهز حرصا على صحته وتحسبا لأي مضاعفات واكتفيت بعمل بعض العلاجات البسيطة في العيادة وحرصت على أن ألتقط معه صورا تذكارية ربما لأستخدمها في مؤتمر ما وأنا أضع قدمي في وجه أعتى الأطباء لأني أحمل شرف أن "صنع الله إبراهيم كان يتردد على عيادتي ليعالج أسنانه"!
 
نظرَت له ابنتي ذات الخمس سنوات مشدوهة أثناء آخر زيارة له في منزله في المقطم. لم ألُمها، الطفلة ربما لا تفهم أهمية أن تكون في حضرته ولكنها بالتأكيد شعرت كيف يتطلع إليه والدها، وبالتأكيد لاحظَت أن هذا رجل مميز لأنها لم تشاهد والدها يتحدث بهذا الإجلال مع أحد.
كان سعيدا عندما أخبرته أن هذه هي رسميا "أصغر قِلِش" نسبةً إلى لقب العائلة.
 
حدثني صديق -ليس من هواة أن يُذكر اسمه- عن زيارته لصنع الله منذ عدة أسابيع وعن حزنه لرؤيته في حالة صحية سيئة، وعن أنه لم يشعر بنفسه حين انحنى وقبّل يده وانصرف.
 
استيقظتُ منذ شهرين في إحدى شاليهات محافظة مطروح، في سفرية جمعتني بعدد كبير من الأصدقاء، على ٤ ميسد كولز من "چيچي" جليسته الجميلة، تسارعات دقات قلبي وتأهبت لسماع ما أكره. أعدْت الاتصال فردّت بنبرة مشرقة أثلجَت صدري "إزيك يا دكتور، صنصن كان عايز يسمع صوتك".
 
كانت هذه آخر مرة نتحدث فيها سويا، أخبرته أني في مطروح، وأني سأجلب له لب رغم أنف الأطباء، ضحك بشدة، ووعدته أن أمر بمنزله حين أعود، وأن تكون زيارة بدون موعد مسبق "ح أطبّ عليك"، وحين انتهت المكالمة طلب مني صديقي "عمرو" أن "والنبي تاخدني معاك وانت رايح له" فوعدته أن نقوم بهذه الزيارة سويا، ثم وعدت نفسي أن أخصص يوما كاملا لهذه الزيارة، ثم أخلفت كل الوعود.
 
اليوم أكتب، ولكني لا أكتب عن "التجربة التي تستحق أن تؤرخ" على حد تعبيرك، بل أكتب عنك، عن امتناني لوجود شخص بهذه القامة في حياتي وإن كان وجودا متقطعا سأندم عليه للأبد، عن تقديري للدروس القصيرة المختصرة التي لقنتني إياها والتي تستوجب أعمارا ليتعلمها الآخرون، اليوم أكتب بالإنابة عن أسرة رفيق دربك لأخبرك بأننا مطمئنون للم الشمل بعد ٢٢ سنة من الفراق.
 
مات الكثيرون طوال السنوات الماضية ولكن هذا موت كان يشتاق إليه! فليكن لقاءً سعيدا مكللا بلعن الأوجاع الجسدية الزائلة ومليئا بالمخلل الذي حرمك منه الأطباء، إلى أن نلتقي.