عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

بروفايلات

نجلاء عبد الجواد

صنع الله إبراهيم.. "كاتب الأسئلة "

2025.08.24

مصدر الصورة : آخرون

صنع الله إبراهيم.. "كاتب الأسئلة "

 

في عالم الأدب العربي، قليلون هم الكتّاب الذين تحوّلت حياتهم الشخصية إلى مشروع أدبي وسياسي كامل، يكتب سيرة الأمة بقدر ما يكتب سيرة الفرد. صنع الله إبراهيم (1937-2025) كان واحدًا من هؤلاء النادرين. لم يكن مجرد روائي موهوب، بل ظاهرة ثقافية وموقفًا أخلاقيًّا، صاغ حياته كفعل مقاومة.

رحيله عن 88 عامًا لم يكن مجرد فقدانٍ لكاتب، بل غيابًا لصوت ظلّ يذكّرنا بأن الأدب ليس ترفًا لغويًّا، بل أداة لفهم المجتمع ومساءلة السلطة. صنع الله، كان الجسر بين جيل الستينيات والأجيال اللاحقة، نموذج المثقف العضوي الذي لا يهادن ولا يساوم، الذي جعل من الرواية ساحة مواجهة بقدر ما هي مساحة للتخييل. ومن هذا الجسر تبدأ الحكاية، التي لا يمكن فصلها عن مسيرته الشخصية والسياسية.

السجن مدرسة السرد

وُلد صنع الله، في القاهرة يوم 24 فبراير 1937، في زمن كانت مصر تعيش تحولات سياسية واجتماعية عميقة، من آثار الحرب العالمية الثانية، إلى صعود حركات التحرر الوطني. نشأ في أسرة متوسطة، ودرس في جامعة القاهرة حيث بدأ يتشكل وعيه السياسي والفكري.

في مطلع شبابه انخرط في "حدتو" -الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني- أحد التنظيمات الشيوعية التي ناضلت ضد الاستعمار البريطاني وضد النظام الملكي. هذا الانتماء المبكر لم يكن مجرد تجربة عابرة، بل حدّد مسار حياته. ففي عام 1959 اعتُقل ضمن حملة جمال عبدالناصر ضد الشيوعيين، ليقضي خمس سنوات كاملة في سجن الواحات حتى عام 1964.

كان السجن بالنسبة إليه نقطة تحوّل حاسمة، بل يمكن القول إنه المدرسة الكبرى التي شكّلت شخصيته الأدبية والسياسية. في الزنازين الموحشة، تعرّض للتعذيب وشهد مقتل رفيقه شهدي عطية الشافعي، الأمر الذي ترك فيه ندبة إنسانية لم تلتئم أبدًا. لكن السجن أيضًا فتح أمامه أبوابًا غير متوقعة، فقد اطلع فيه على مكتبة مهربة ضمّت أعمال: همنجواي وكافكا وبروست، وتعرف على النظرية الماركسية والتحليل النفسي الفرويدي.

هناك بدأ كتابة مسوَّدات أولى لمجموعته "تلك الرائحة"، وسجّل يومياته التي ستتحول لاحقًا إلى "يوميات الواحات"، أحد أصدق النصوص التي وثّقت تجربة السجن في الأدب العربي. خرج من السجن أكثر صلابة، وأكثر وعيًا بأن الأدب يمكن أن يكون شكلًا من أشكال المقاومة، وأن الكلمة ليست بديلًا من الفعل، بل امتدادًا له. ومن هنا تشكّل وعيه بأن الكتابة قدر ومسؤولية.

صفعة على وجه السلطة

بعد خروجه من السجن لم ينتمِ صنع الله، إلى أي حزب سياسي، واختار استقلاله الفكري منهجًا دائمًا. انتقد انحرافات الحركة الشيوعية نفسها، كما انتقد السلطة المصرية بمختلف وجوهها، من عبدالناصر إلى السادات ومبارك.

ظل وفيًّا للفئات المهمّشة: الفقراء، والعمال، والسجناء، والمقهورين، وجعل منهم أبطال رواياته. آمن بأن المثقف الحقيقي هو الذي ينحاز إلى مَن لا صوت لهم. ومع تراكم سنوات الكتابة والموقف، جاءت اللحظة التي ستلخص مسيرته كلها: رفضه جائزة الرواية العربية عام 2003.

على مسرح دار الأوبرا، وأمام وزير الثقافة فاروق حسني وكبار المثقفين، أعلن رفضه استلام الجائزة، وقرأ بيانًا أدان فيه سياسات الدولة المصرية وفسادها وتطبيعها مع إسرائيل. كان مشهدًا لا يزال محفورًا في ذاكرة الثقافة العربية. قال يومها عبارته الصادمة: "أعلن اعتذاري عن قبول الجائزة، لأنها صادرة عن حكومة تقمع شعبنا وتحمي الفساد، وتسمح للسفير الإسرائيلي بالبقاء في مصر، في حين أن إسرائيل تقتل وتغتصب".

هذا الموقف لم يكن استعراضًا، بل تجسيدًا لمسيرته كلها، كمثقف يرفض أن يكون تابعًا للسلطة أو شريكًا في صمتها. لذلك لم يكن غريبًا أن يقبل لاحقًا "جائزة الشعب" عام 2018، وهي جائزة أهلية مستقلة تمنحها منظمات مدنية، مؤكدًا أن التكريم الحقيقي هو ما يأتي من القاعدة، لا من يد الحاكم.

أما فلسطين فكانت قضيته المركزية. كتب عنها بصدق وحرارة، وجعلها جزءًا من مشروعه الروائي. من "بيروت بيروت" إلى "وردة"، ظل يرى الصراع العربي–الإسرائيلي باعتباره اختبارًا أخلاقيًّا للمثقف، ورفض التطبيع رفضًا قاطعًا، وعدّه خيانة لا تُغتفر. هكذا تماهى الموقف مع النص، وصار الأدب والسياسة وجهين لعملة واحدة.

الرواية كوثيقة ومقاومة

في الأدب، تميّز صنع الله، بأسلوب مقتضب "مشكوم"، كما وصفه يوسف إدريس. كان يكتب بجُمل قصيرة، حادة، ظاهريًّا جافة لكنها تحمل في أعماقها بئرًا من المعاني. تأثر بهمنجواي في الاقتصاد اللغوي، لكنه جعل من هذا الاقتصاد بصمة شخصية لا تشبه إلا نفسه.

إلى جانب اللغة، ابتكر شكلًا روائيًّا فريدًا هو الرواية التوثيقية، حيث أدخل قصاصات الصحف، والإحصاءات، والوثائق الرسمية، والإعلانات اليومية في نسيج الرواية، ليكشف من خلالها تناقضات الواقع. كان يرى أن المادة الخام للصحافة والإحصاء، التي تبدو غير أدبية، قادرة على فضح الزيف السياسي والاجتماعي إذا ما أعيد تركيبها فنيًّا. فمن "اللجنة" إلى "شرف" و"نجمة أغسطس"، صارت الرواية عنده سجلًا تاريخيًّا واجتماعيًّا بقدر ما هي عمل فني.

كما برع في المزج بين الخاص والعام. في رواية "التلصص" مثلًا، جعل من سيرته الذاتية مدخلًا لرصد تحولات المجتمع المصري، وفي "1970" جمع بين السرد الروائي والوثيقة التاريخية. هذا المزج منح أعماله صدقية نادرة وعمقًا إنسانيًّا، حيث نقرأ عبر قصصه تاريخنا المعاصر بعيونٍ داخلية.

أما السخرية السوداء فكانت سلاحه الآخر. لم يكتب النكات، بل المرارة بطريقة تضحكك كي تفضحك. في "اللجنة" مثلًا، جعل من بيروقراطية الدولة متاهة كابوسية، وفي "شرف" عرّى السجون المصرية بما فيها من فساد وعنف، مستخدمًا السخرية كسكين دقيقة تجرح وتكشف في الوقت نفسه. لقد كان ناقدًا شرسًا لكل أشكال التزييف، بما في ذلك ما سمّاه "تزوير الواقعية الاشتراكية"، معتبرًا أن الفن الملتزم حقًّا هو ما يكشف الواقع لا الذي يجمّله.

لذلك ظلّ أدبه عصيًّا على التصنيف البسيط، لا هو واقعية تقليدية، ولا تجريب معزول عن القضايا، بل مزيج فريد من الجمال والالتزام. ومع كل عمل جديد، كان يثبت أن الرواية عنده ليست حكاية تُروى فقط، بل وثيقة وموقفًا في آن واحد.

وداع بصوت خافت

في يناير 2025، أصيب صنع الله، بالتهاب رئوي. دخل في صراع قصير مع المرض، ورفض أن يُعالج على نفقة أي جهة خارجية، مُصرًّا على أن يكون علاجه على نفقة الدولة المصرية فقط، كما لو كان يصرّ حتى النهاية على مبدأ الاستقلال. رحل عن عمر ناهز 88 عامًا، تاركًا وراءه مشروعًا أدبيًّا وسياسيًّا ممتدًّا على أكثر من نصف قرن.

كان رحيله مشهدًا رمزيًّا بقدر ما كان حدثًا شخصيًّا. رحل كما عاش، بصمت يشبه جُمله المقتضبة، وبكرامة تشبه مواقفه الصلبة. لم يترك وراءه ضجيجًا، بل ترك كتبًا مفتوحة على احتمالات لا تنتهي، وأسئلة معلّقة في وجدان قارئيه.

لقد فقدنا برحيله ليس مجرد روائي، بل "كاتب الأسئلة". ذلك الذي جعل من الرواية مرآةً مكسورة نرى فيها وجوهنا بين الشظايا. من علّمنا أن ننظر إلى التفاصيل الصغيرة، إلى تلك الروائح التي تحيط بنا ولا ننتبه لها. من ذكّرنا بأن الأدب يمكن أن يكون سلاحًا بقدر ما هو فن.

سيبقى إرثه الأدبي شاهدًا على زمنٍ حاول أن يُخفي تناقضاته، فجاءت رواياته لتفضحه. وستبقى شخصياته تمشي بيننا، تحمل الأسئلة نفسها التي جعلت حياتنا أكثر تعقيدًا وأكثر صدقًا. سلامًا على صنع الله إبراهيم، الذي جعل من الصمت قصيدة، ومن القسوة حكمة، ومن الرواية وطنًا لا يُباع. لقد رحل الجسد، لكن الكلمات ستظل تقاوم، كما أراد لها أن تكون: ذخيرة ضد النسيان.