زمن بديعة
وسام سليمانبديعة تعود لتنتقم!
2024.11.30
تصوير آخرون
الحلقة الثانية: بديعة تعود لتنتقم!
كانت بديعة قد تركت كل متاعها مع أمها وليس معها قرش واحد، لم يعد بإمكانها العودة إلى البنسيون ولم تكن تعرف أين يمكنها أن تبيت ليلتها.
تذكرت موعدها في حديقة الأزبكية مع مصطفى الشامي الذي كانت قد وعدته بالانضمام إلى فرقتهم، تعاطف مصطفى مع حكايتها، وقال لها: "إنت من دلوقتي أختي الصغيرة"، وأخذها إلى منزل أحد شقيقيه الذي كان يعيش مع زوجته الفرنسية.
ورغم طيبة الأسرة ومحاولتهم التخفيف عنها فإنها ظلت ليالي ترى شبح القطار الذي يسرع بأمها خارجًا من المحطة، وتسمع صوته في أذنيها فتنتفض من نومها مذعورة وهي تبكي.
اتفق معها الشيخ أحمد الشامي على تأمين إقامتها من طعام ومسكن بالإضافة إلى ستة جنيهات في الشهر، بدأت الجولة من بني سويف، أعطاها الشامي أدوارًا صغيرة في البداية وأخذ يختبر حضورها على المسرح، تضيء بمجرد ظهورها، تنتقل براحة وثقة، صوتها الرنان، ألفاظها الواضحة -لم يكن وقتها قد ظهرت مكبرات الصوت وكانت قوة الصوت أساسية في أي ممثل- يصفق الجمهور لأقل كلمة ويستحسنون كل رقصة تؤديها، ما شجع أحمد الشامي أن يسند إليها دور البطولة في مسرحية "الابن الخارق للطبيعة".
ولم تنسَ بديعة تلك اللحظة التي حكت عنها في مذكراتها:
"توقفت عند هذه اللحظة، سأعيش الأدوار التي لم أتمكن من أن أعيشها في دنياي القاسية سأنتقم من قسوة والدتي وأشقائي بتمثيل دور الصبية المرفهة التي يتسابق الجميع لإرضائها وكسب ودها."
استمرت الرحلة قرابة شهرين وعند عودتهم إلى القاهرة وجدت سيد بك زكي، يعرض عليها أن يوصلها بسيارته إلى الفندق الذي تريد.
سيد زكي محامٍ من أسرة ثرية، كان يتابع الفرقة في كل مكان تذهب إليه ويكون أول الحضور، ثم قام بدعوة كريمة لكل أعضاء الفرقة لقضاء اليوم الأخير في مزرعته في بني سويف.
- "إنت مقيم في نفس الفندق؟"
- "وهل لديك مانع؟"
- "ليس لدي مانع ما دام كل منا في غرفة منفصلة."
وجدت فيه بديعة صديقًا نبيلًا وسندًا في وحدتها في القاهرة، بدأ يصحبها إلى المسارح وعروض الغناء، سمعت لأول مرة السيدة منيرة المهدية في كازينو الهمبرا:
"كانت في أوج شبابها، جميلة ذات قوام مياس ومبسم جميل وكانت القاعة تضج بالمعجبين بها فإذا ما صعدت على المسرح وغنت "يا منعنشة يا بتاعة اللوز" سرت في المستمعين موجة من الحماس الهستيري والطرابيش تتطاير في الفضاء حتى تصل عند قدمي المطرب الجميلة."
ولكن وبعد مرور عدة شهور قضتها بصحبة سيد بك زكي بدأت بديعة تنتبه وتفيق إلى نفسها:
"كيف أرتضي لنفسي أن أعيش عالة على إنسان لا هو أخي ولا خطيبي ولا زوجي".
"أرتضي لنفسي أن أعيش على هامش المجتمع في صباي كما سبق وقضيت طفولتي؟ هل هذا ما أردته؟"
فكرت أنها لا بد أن تبني مستقبلها بنفسها دون اللجوء إلى سيد بك زكي أو غيره.
قابلت بالصدفة في تلك الفترة أحد معارف الأسرة يوسف شمعون وكان يعمل صحفيًّا في جريدة المقطم، شجعها على العودة إلى بيروت:
- "تعالي معي إلى بيروت وتصبحين أول فتاة عربية تعمل في الرقص والغناء."
لم يكن بلبنان مسارح ولم يكن الجمهور اللبناني يجذبه التمثيل والمسرح قدر حبهم للغناء والرقص وكانت كل الفتيات اللائي يعملن في الملاهي والصالات أجنبيات من دول أوروبية.
وقال محاولًا التأثير عليها:
- "ألم يوحشك لبنان، ألم تشتاقي إلى دمشق.. وطنك؟"
قررت بديعة أن تخوض المغامرة، وأخذت معه السفينة إلى بيروت.
اصطحبها يوسف شمعون إلى صالة مدام جانيت وهي سيدة فرنسية وصاحبة أول ميوزيك هول في لبنان، يعرفها أفراد الطبقة الأرستقراطية في بيروت، تدير الصالة بقواعد صارمة، كما أن فناناتها يترفعن عن الابتذال والراقصة تتصرف وفق مشيئتها.
أسمعتها بديعة الطقاطيق والأغاني التي حفظتها أثناء إقامتها في مصر، وعندما شاهدت رقصها، عرفت مدام جانيت أنها ستكون جديدة ومميزة بين راقصاتها الأجنبيات، وهو ما تحقق من الليلة الأولى التي وقفت فيها بديعة على المسرح وبهرت جمهور بيروت.
ارتاحت للعمل مع مدام جانيت، فقد كانت الفنانة في صالتها سيدة نفسها تتعاطى مهنتها بأنفة واعتزاز.
في إحدى المرات أرسل شاب وجيه لبديعة لتجلس معه، ولكنها نسيت، فظن أنها تتجاهله، واجهها غاضبًا في الصالة، ولم تعجبه طريقتها الباردة في الاعتذار، فقال قاصدًا إهانتها "أرتيست.."، وما إن سمعت بديعة الكلمة النابية التي تفوه بها حتى خلعت حذاءها وقذفته به، تلقى فردة الحذاء وهو يجري على السلم هاربًا فأخذها ولم يعدِها إلا بعد أسبوعين.
"هكذا كنا نعامل من تسول له نفسه المساس بكرامتنا."
عندما قال لها يوسف شمعون: "ألم يوحشك بيروت، ألم يوحشك وطنك"، لم يكن يعرف ما يدور بداخل بديعة من هواجس، كانت تعرف أن خبر عملها سوف ينتشر في بيروت وسيقولون: "ابنة عم الوجيه الثري جورج مصابني تعمل أرتيست".
تحقق ما توقعته ولكنها كانت مستعدة للمواجهة، في إحدى الليالي أخبرتها مدام جانيت أن بعض الاشخاص يريدون التعرف بها، عندما رأتهم عرفت أنهم قد أتوا ليتأكدوا أن من تغني وترقص أمامهم هي "بديعة ابنة عائلة مصابني".
جلست معهم، ردت بثقة على أسئلتهم الفضولية، سألوها عن أقاربها، موقف أعمامها التجار الأثرياء؟
قالت لهم:
- "أراودني خادمة في بيته وأردت أن اكون سيدة نفسي."
- "أتريدين الاحتفاظ باسمك؟"
- "من حقي أن أحتفظ باسمي إنه ما تبقى لي من والدي."
- "ولكنهم أغنياء."
- "سيصبح لي مثل ثروتهم."
- "ألا تخافين منهم؟"
- "أنا لا أخشى إلا الله."
حررتها هذه المواجهة من خوفها بل وشعرت أنها انتقمت لكرامتها، أصبحت أكثر قوة بنجاحها، تواجه غيرة زميلاتها الأجنبيات بعد أن أصبح الجمهور يفضلها عليهن.
وفي قمة هذا النجاح تقع الحرب العالمية الأولى أو كما كانوا يسمونها وقتها: "الحرب الكونية"، تم إغلاق المحلات لفترة من الوقت فقد كانت الشرطة التركية تهجم على المحلات والملاهي والمنازل باحثة عن أي شخص لتحتم عليه الانخراط في صفوف الجيش التركي.
وتحكي بديعة عن تلك الفترة:
"كان على البيروتيين كرعايا أتراك أن يحاربوا في الجيش التركي ولم يكن يروق لهم الانخراط في جيش دولة أذاقت بلادهم من الهوان والتنكيل وكان إذا ما اتفق لأحدهم ورماه سوء طالعه في صفوف الجيش التركي انقطعت أخباره أو عاد هزيلًا لا يقوى على شيء، انتشرت الفوضي والجوع لاقى المئات من سكان القرى حتفهم."
وكانت بديعة قلقة بشأن مصير أختها نظلة في قريتها البعيدة، طلبت من أحد زبائن الصالة -و كان ضابطًا تركيًّا ذا رتبة في الجيش- أن يساعدها لتسافر إلي أختها في شيخان.
هذه المرة لم تقطع بديعة الطريق سيرًا على الأقدام ولم تطرق باب المحسنين تستجدي الطعام يل امتطت جوادًا مطهمًا وجرت وراءها ثلاثة حمير تنوء بأحمالها، تستعيد ذكرى الطفلة البائسة التي كانت تسير بجهد حتى ترتمي من الإعياء.
"ذكريات قريبة ومرة، لم أقوَ على التحرر منها رغم أنني تحررت من كابوس الفقر والحاجة."
عندما فتحت لها نظلة شهقت من فرحتها وارتمت عليها تقبلها وتبكي.
خمنت بديعة من ثياب أختها السوداء أن زوجها قد توفي منذ وقت قريب وأخذت تلاعب أبناءها (ماري وحبيب وأنطوان).
عندما سألتها عن أمها؟
اعتقدت نظلة أن أمها كانت معها في مصر بينما حدست بديعة أن أمها ربما قد عادت لابنتها في شيخان، وبدأ القلق ينهش في كلتيهما حتى قررت بديعة أن تسافر إلى أمها في دمشق.
وصلت إلى البيت القديم، كان الباب مغلقًا والصمت يحيط بالمكان، قرعت الباب مرة، اثنتين، ثم دفعت الباب فانفتح، وجدت أمها وحيدة، مريضة لا تقوى على النهوض من مكانها.
واجهتها أمها بسيلان من الدموع فأخذت بديعة تهدهدها وتعتذر لها.
بعد أن تركتها بديعة في القطار تصورت أمها أن حادثًا وقع لها فأخذت في البكاء، ثم لم تجد إلا أن تتابع طريقها إلى دمشق، عاشت كيفما اتفق إلى أن جاءها ابنها توفيق يلومها غاضبًا بعد أن عرف أن بديعة تعمل في صالات ومسارح بيروت.
آلمها ما وصل إليه حال أمها، هي التي طالما قالت: "الدنيا آخرة مش أولة"، نسيت بديعة النقود والعقود وحصرت كل طاقتها في الاعتناء بأمها حتى تحسنت تمامًا خلال أسبوعين من عودتها.
ثم سألتها أن تأتي معها إلى بيروت، وكانت تنوي شراء بيت لتعيش فيه مع نظلة وأبنائها وتجمع شمل الأسرة، فقالت لها:
- "كنت أفضل ألف مرة أن أسمع خبر موتك من أن أسمع أنك تعملين في المسارح."
- "لندع للماضي ما قد مضى ليس باليد حيلة وقد وقع المكتوب."
توافق بعد إلحاح طويل أن ترافقها إلى بيروت، وفي القطار تبوح لبديعة لأول مرة:
- "قتلني همك وما زلت أحبك أكثر من الجميع، فأنا عندما أعود إلى ضميري أدرك أنه لا ذنب لك وما كنت إلا ضحية."
أدركت أن أمها قد بدأت تعاني سكرات الموت، تروح في غيبوبة ثم ما إن تصحو حتى تنظر إلى ابنتها مشفقة وتسترسل في الدعاء، ثم تطلب من الله شأن جميع الأمهات: "أن يحول التراب بين يدي ابنتها إلى ذهب."
تقول بديعة:
"رافقتني دعواتها الأخيرة طيلة حياتي المليئة بالعمل والعذاب، بالفقر والغنى."
عادت بديعة للعمل وبدأت تطور من عروضها، طلبت أن تغني مع تخت شرقي بدلًا من الأوركسترا، وبدأت تبحث عن عازفات آلات شرقية وكان هناك في تلك الأوقات عازفات ماهرات مثل:
"بهية وثريا سميكة وهما أختان إحداهما عازفة عود والأخرى عازفة قانون، والشقيقتان شطاح، وكانتا من بنات الحارة اليهوديات وأشهر عازفات بيروت."
ومع نجاحها الصاعد بدأت تتهافت عليها العروض وتنقلت بين دمشق وحلب وعملت في أشهر مسرح وملهى وقتها وهو "اللونا بارك".
كانت ترافقها في تلك الفترة صديقتها المقربة ماري بار وقد تعرفت عليها في "مقهى الزيتونة" وكانت ماري وقتها تعمل نادلة في بار المقهى، سمراء حلوة، خفيفة الدم، تتذوق النكتة وتجيدها، علمتها بديعة الرقص ولقنتها بعض الأغاني وسرعان ما بدأت تعمل معها وترافقها كظلها.
وكانت بديعة تغني بزي الفتاة العربية:
"أنت سوريا بلادي"، "زوروني كل سنة مرة"، "طلعت يا محلا نورها"، وهما من ألحان سيد درويش.
وأقبل على عروضهما الحلبيون إقبالًا منقطع النظير، كان معروفًا أن الطرب بمثابة القوت اليومي لأهل حلب والذي لا عيش بدونه.
"كان بإمكانك أن تجد في كل منازل المدينة جميع الآلات الشرقية: العود، النقرظان، الدبكة والطار، وجميع أفراد الأسرة من صغيرهم إلى كبيرهم يجيدون العزف على إحدى هذه الآلات، كما كان معظمهم يجيد الرقص على الموشحات الأندلسية ورقص السماحي الصعب."
طورت بديعة في نمرتها بحيث عندما تغني "الحليب قشطة" تحمل على رأسها وعاء اللبن وتبيع اللبن للزبائن، أو "رأيت روحي في بستان" فتلبس بدلة وعصًا وطربوشًا، ولكن نساء وسيدات حلب اعترضن على هذه الطريقة ربما غيرة على أزواجهن، وأصدر صاحب اللونا بارك قرارًا بأن لا تتجول أي فنانة وسط الجمهور.
ورغم ما حظيت به في بيروت والشام من شهرة ونجاح فإنها ظلت تفتقد المسرح وأنواره، تلك الأنوار التي يختلف بريقها تمامًا عن مسرح الرقص والغناء.
وشاء القدر أن تقابل في تلك الفترة الفنان المصري حسين رياض عندما جاء هو وبعض أعضاء الفرقة إلى بيروت، وعرض على بديعة أن تنضم إليهم في جولتهم في بر الشام (كما كان المصريون يسمون فلسطين وقتها) فوافقت على الفور.
بدأت الرحلة من حيفا ولكن المظاهرات كانت تتجدد كل يوم في تلك الفترة في شوارع حيفا، فانتقلوا إلى يافا حيث عرضوا المسرحية في "مقهى البنور" وكان عبارة عن مقهى ومسرح كله من الزجاج الشفاف بحيث يكون متاحًا ليس فقط لرواد المكان ولكن لأي عابر يرغب في متابعة العرض من خارج المكان.
ولكن المظاهرات بدأت تشتعل في يافا بعد أسبوعين من بدء العرض.
ثم زارت نابلس وتحكي بديعة عن مدن فلسطين في تلك الفترة:
"كان النابلسيون يعيشون في رغد وبحبوحة كما كانوا كرماء يرحبون بالغريب وحتى لو كان هذا الغريب فرقة كاملة جاءت للعمل في مدينتهم، كانوا إذا ما تعسرت عليهم الهدايا الثمينة أرسلوا إلينا الجبنة والقشطة والحلويات والدجاج واللحوم على أنواعها وما أقوله عن نابلس ينطبق أيضًا على جنين ورام الله."
"كم كانت فلسطين طيبة في بساطتها ظريفة في سذاجتها."
وفي تلك الفترة فكرت بديعة أن تتبنى طفلًا، وأبدت رغبتها لجارتها التي كانت تعمل في مأوى تديره الراهبات.
في مأوى الأيتام استرعت انتباهها طفلة شقراء ذات عينين زرقاوين تشع منهما البراءة، إلا أنها كانت هزيلة لا تقوى على الحركة، عرفت بديعة أن والد الطفلة بعد أن عاد من أمريكا الجنوبية تزوج بامرأة لبنانية وسمى ابنتهما "جوليا" فأطلقت عليها بديعة بدورها اسم "جولييت" واعتنت بها بديعة حتى استعادت الطفلة صحتها وأصبحت تصحبها معها في كل مكان تسافر إليه.
عرفت بديعة الحب لأول مرة مع خميس الشاب المصري الذي قابلته صدفة في حديقة الأزبكية وعلمها الرقص على الزلاقات ولكن هذا الحب اختفى بسرعة عندما قام بتوصيلها إلى البنسيون ورأى والدتها تعنفها على تأخرها بل ونال نصيبه من لكمات أمها عندما حاول الدفاع عنها، ومن بعدها لم تره أبدًا واختفى حتى من حديقة الأزبكية.
ثم في بيروت قابلت جميل بك وكان شابًّا تركيًّا وسيمًا اعتقدت أنه يحبها، انجذبت لحديثه ووعوده الملونة، ووجدت نفسها تنسى العمل بل ونسيت حتى مسؤولياتها المادية، حتى وجدت نفسها غير قادرة على مساعدة أختها نظلة أو الإنفاق على ابنتها جولييت، بدأت تفيق من سكرة الحب فيتكشف لها مدى أنانية حبيبها، تحكي بديعة عن تأثير تلك التجربة:
"انتقلت بعدها من طور الصبية الساذجة التي ترتاح للكلام المزوق وتؤمن بالأحلام المزهرة إلى نمرة مخيفة."
"ومع ذلك لم تخلُ حياتي من قصص حب جميلة وكنت على الرغم من تحسبي وعدم ثقتي في الرجال الضحية الدائمة، وكما يقول الصعايدة في مصر: أنا كل ما اجول التوبة ترميني المجادير."
وكانت"المقادير" تنتظرها في مصر عندما عادت لزيارتها، وقفت أمام المسرح تطالع الإعلانات عندما رأت اسم نجيب الريحاني وروايته الجديدة "إنت وبختك":
"عندما قرأت هذا الاسم -الذي رافقني سنين عديدة من حياتي- سرت فيَّ رعشة غريبة لم أدرِ لها سببًا."
كان الإقبال شديدًا على شباك التذاكر حتى أنها استطاعت بصعوبة شراء تذكرتين.
فرحت عندما لمحت حسين رياض في المسرح يقترب ويجلس بجانبها، وبعد انتهاء المسرحية اصطحبها إلى غرفة نجيب الريحاني.
رأته واقفًا وسط زحام المهنئين، يرد على المجاملات بذكائه المعهود، توقف للحظات عندما لمحها، ثم نظر إلى حسين رياض يسأله:
- "من أين لك هذا؟"
- "دي يا سيدي أشهر فنانات بر الشام."
- "وطبعًا جاية حضرتك عشان تلطشي كام رواية على كام لحن ترجعي بيهم."
فردت بديعة بثقة:
- "ألطش كام لحن على كام غنوة معقول، بس الروايات خلاص تبت."
وكانت تشير إلى تجربتها مع حسين رياض وما حدث للفرقة في فلسطين، يضحك نجيب ثم يسألها:
- "إيه رأيك لو جربتي حظك في مصر؟"
- "حتدفع لي كام؟"
- "وانت تدفعي لي كام عشان أعمل منك ممثلة كبيرة؟"
- "لو عاوزني معاك على المسرح أرجوك قول المبلغ اللي حتدفعهولى."
يدرك نجيب أنها ذكية وجريئة فيعرض عليها مبلغ "خمسة وأربعين جنيهًا".
- "في الأسبوع؟"
- "إنتِ عاوزه تشاركيني!"
كان قد وصل أجر بديعة في يافا إلى ثلاث مئة ليرة ذهبية أي ما يعادل أربع مئة وخمسين جنيهًا مصريًّا، ولم يكن معقولًا أن تتركه لتقبض خمسة وأربعين جنيهًا.
فعادت إلى عملها في الشام، ولكن ذكرى لقائها بنجيب الريحاني لم تبرحها، وكلما وقفت تغني وترقص ينتابها الحنين إلى المسرح، ولا يسعها إلا أن تتحسر على أنها لم تعمل مع هذا الفنان الكبير الذي أثر فيها بعمق حتى أنها وصفت إحساسها به وقتها:
"كأنني مشدودة إليه بسلك عجيب."