يقوم واحد من أشكال الغموض في الإدراك المكاني لحرب أكتوبر 1973 على فرضيةٍ مؤسسة من شِقَّين: أن مصر حررت أرض سيناء "كاملة" من قبضة الاحتلال الإسرائيلي، وأن السادات مضى رغم ذلك النصر والتحرير "الكامل" إلى معاهدة السلام مع إسرائيل، ضاربًا عرض الحائط بمشاعر المصريين وكرامة الإنسان العربي، ومهدرًا الانتصارات الميدانية العظيمة على الأرض.

وتقوم هذه المغالطة، بدورها، على تجاهل حقيقتين في الجغرافيا: الأولى: أن انتصار أكتوبر العظيم لم يحرر أرض سيناء كاملة، بل حرر شريطًا من الأرض إلى الشرق من قناة السويس بعد تحطيم أسطورة خط بارليف. والثانية: أنه بعد أسبوعين من هذا الانتصار العظيم تمكنت إسرائيل -بمعاونة تكنولوجية وأسلحة أمريكية- من عبور قناة السويس تجاه الأراضي المصرية، وتوغلت جنوبًا باتجاه جبل عتاقة، وحاصرت مدينة السويس، وقصفت البنية الصناعية للمدينة، وقطعت إمدادات المياه عن السكان والقوات المصرية المحاصرة.

لا بد هنا من وقفة جغرافية؛ فإسرائيل التي عبرت –مثلما عبرنا– قد كسبت أرضًا جديدة غرب القناة، وقد مارس قادة عسكريون مصريون ضغوطًا شديدة على السادات لسحب قواتٍ من الشرق للدفاع عن الضفة الغربية والسويس، ولو كان فعل ذلك لسحب القوات حتى من الأرض التي كسبناها شرقًا، ولأصبحت إسرائيل في محصلة الأمر هي التي ربحت من حرب أكتوبر؛ لأنها كسبت أراضيَ جديدة غرب القناة.

الثغرة.. تغييب في الجغرافيا والأدب:

في هذه الأجواء المعقدة عسكريًّا وميدانيًّا نشأت مسألة التفاوض مع الإسرائيليين لفض الاشتباك والانسحاب التدريجي، وكان السادات قد قطع خطواته في طريق اللا عودة، عبر المشاهد التالية:

ابتعد عن السوفييت وأوضح نيته منهم بعد طلبه مغادرة الخبراء الروس من الجبهة (وهو ما يسميه المهاجمون للسادات: "طرد الخبراء السوفييت").

فتح اتصال مباشر مع الأمريكان بشكل مكشوف، وليس بشكل سري كما كان يفعل عبد الناصر.

أزمة الشقاق بين القادة العسكريين المصريين (سعد الدين الشاذلي / أحمد إسماعيل) على خط الجبهة التي بدأت معالمها تتسرب إلى القوات على الأرض، وكادت تصيبها باليأس والإحباط.

حرب إعلامية إسرائيلية تقول للعالم: إن قواتها على مسافة 100 كم من القاهرة؛ عاصمة بلاد النيل.

وإذا كان الجيل الذي عاصر الحرب ربما قرأ مقالة أو اثنتين عن "الثغرة"؛ فإن الأجيال التالية لم تفهم حقيقة ما حدث، وكلما تباعدت السنون زاد الجهل بالجغرافيا.

وإذا كان هيكل قد تناول الثغرة خلال الحرب في صفحة كاملة على الأهرام من خلال حوار مع جنرال في الجيش المصري بطريقة معلوماتية لا توضح خطورة الأحداث ودلالاتها المستقبلية؛ فإن جمال حمدان في تغطيته لحرب أكتوبر عالج الثغرة بطريقة عاطفية للغاية.

أخذ حمدان يتعامل مع مصطلحات غير عسكرية، مثل: "الغدر" الإسرائيلي و"الخديعة" الإسرائيلية، دون إشارة إلى خطورة الموقف الذي وقعنا فيه بسبب قدراتنا وحدودنا آنذاك.

وفي كتابه الذي نشره بعد أكثر من عام من حرب أكتوبر، يتعامل جمال حمدان مع السادات بإجلال وتوقير نادر؛ فهو لا يورد اسمه إلا مسبوقًا بعبارة: "السيد الرئيس"، ويستشهد عباراته وأقواله كأنها حِكَم بليغة، وبكل احترام وتوقير.

هذا التوقير سينقلب طبعًا بعد سنوات، وسيتحول إلى هجوم على السادات، إذ يذهب حمدان في مطلع الثمانينيات –وبعد رحيل السادات طبعًا– إلى وصف العقد "الساداتي" بالعقد "الأسوداتي"!

ثم مرت عقود طويلة بعد الذي حدث في الثغرة، ووقع تعمد في تغييب هذه القصة بحسن نية لرفع الوعي القومي والانتماء للوطن، على حساب تكريس الجهل بالجغرافيا فيما حدث في "الثغرة".

فكما أن هيكل صك مصطلح "النكسة" بدلًا من "الهزيمة الكارثية" في حرب 1967، فإن "الثغرة" مصطلح صحيح فقط في أيامه الأولى، لكنه تحول إلى "خرق" كبير وأزمة خطيرة هددت كل النجاح الذي تحقق في نصر أكتوبر العظيم.

 حكايات الغريب:

قليل من الأعمال الأدبية والسينمائية تناولت مسألة الثغرة بشكل واضح، ومن هذه الأعمال القليلة القصة القصيرة "حكايات الغريب"، التي ألفها جمال الغيطاني في عام 1976 ضمن مجموعة من القصص تحمل نفس العنوان عن حرب أكتوبر.

في "حكايات الغريب" لا نعرف لماذا هاجم العدو مدينة السويس وحاصر أهلها؟ لا حديث عن الثغرة، بل عن "عدوان يهودي" على المدينة بعد يوم 23 أكتوبر 1973.

السويس مدينة ذات أركان أربعة، وقد ساعدها ذلك في التمويه الأدبي الذي استخدمه الغيطاني؛ فهجوم اليهود على المدينة لم يكن محدَّدًا من أي ركن، ولم يكن اسمه ثغرة أو التفافًا أو تطويقًا بل كان مجرد "عدوان".

وعلى القارئ أن يتخيل مثلًا أن الهجوم جاء من جهة الشرق من سيناء خلال الحرب؛ لأن القارئ يستحيل أن يظن أن الهجوم جاء -في معمعة النصر العظيم- من جهة الغرب ومن جهة جبل عتاقة والضفة الغربية للقناة رغم عبور أكتوبر العظيم.

قصة "حكايات الغريب" لدى الغيطاني غير مؤثرة فنيًّا، ومكتوبة بشكل أقل من أن نسميه إبداعًا أدبيًّا، فهي أقرب إلى تقارير ومشاهد متراصة بجوار بعضها البعض.

يحاول الغيطاني أن يمسك بخيط نجيب محفوظ فيجعل بطل حكايات الغريب شابًّا من سكان حارة "العطوف" في حي الجمالية، الحي الذي شهد مآثر حكايات أبطال روايات محفوظ.

وفقًا لحكاية الغيطاني فإن الشاب الذي جاء من حي الجمالية كان يعمل سائقًا لسيارة مؤسسة صحفية تنقل الصحف والمجلات إلى السويس، دخل الشاب المدينة سائقًا ولم يخرج منها؛ لأنه استشهد بعد بطولات عظيمة في مقاومة العدو الإسرائيلي.

ولأن القصة جميلة في فكرتها، بسيطة في بنيتها؛ فإن الفيلم السينمائي (إنتاج عام 1992) حوَّل القصة إلى عمل نابض من خلال فواصل موسيقية لأغاني السمسمية، مع إعادة توزيع للأغنية التي تمس قلوب المصريين والتي شدت بها المطربة وردة (الجزائرية): "حلوة بلادي السمرا بلادي".

غيَّر الفيلم من بنية قصة الغيطاني، بل استعار حدثًا لم يكن موجودًا في القصة الأصلية، ولعله استعاره من إحسان عبد القدوس في قصته "رصاصة واحدة في جيبي".

 الغريب في الوطن والغريب في الصحراء:

بين هزيمة 67 وانتصار 73 كتب إحسان عبد القدوس قصة حملت في البداية عنوان: "رصاصة واحدة في جيبي" لتعبر عن سيرة ذاتية لطالب جامعي تمزقت روحه على جبهتين: جبهة الداخل حين نال رجل سياسي فاسد من شرف حبيبته، وجبهة الحرب في هزيمة عام 67. في تلك القصة أخذنا إحسان بلغة ناعمة رائقة في قصته المكتوبة إلى عالم رومانسي أليم، سابحًا بنا بين مشاعر بطل القصة، ذلك الممزق بين خزي الانكسار ونيران الرغبة في الانتقام، وتقدم الحرب طوق نجاة لهذا الشاب الذي يفر إلى المعارك؛ لتعلُّم فنون القتال على أمل العودة ليثأر لشرفه وشرف قريته الذي لوثه رئيس الجمعية الزراعية "عباس بيه".

أما الفيلم الشهير الذي قام على هذه القصة، والذي يحمل عنوان: "الرصاصة لا تزال في جيبي"، فقد أخذ قصة إحسان مع إعادة ترتيب الأحداث لتنطلق شرارة البطل من "الكونتيلا"، الكونتيلا: نقطة عسكرية نادرة في شرق سيناء على حدودنا مع فلسطين، التي احتلها الصهاينة وأعلنوا فيها دولتهم منذ 1948. في حرب 1967 اجتاحت القوات الجوية الإسرائيلية نقطة الكونتيلا، وقتلت جميع جنودنا ولم يتبقَّ منهم سوى محمد المغاوري (محمود يس في الفيلم الشهير) الذي تبدأ ملحمته من هنا.

يبدأ المغاوري رحلته زحفًا ولهثًا في رمال سيناء في أجواء النكسة والانسحاب، مصارعًا الموت قبل أن ينتشله من الهلاك شيخ من بدو سيناء ويرسله إلى غزة التي كانت عامرة بالوجود المصري قبل أجواء الهزيمة. رحلة الموت والعذاب والانكسار في الكونتيلا ستنسي محمد المغاوري هزيمته في الداخل، وضياع شرف حبيبته وقريته، ويعيد ترتيب أولوياته ويربط بين الحدَثَينِ.

 من الرصاصة إلى الغريب... العدو في الداخل:

الحَبْكة التي يستعيرها فيلم "حكايات الغريب" هي خديعة البطل في شرفه، واستيلاء أحد الفاسدين في الحكومة على حبيبته: جَسَّدها دون روحها (سيحل حسين الإمام في "حكايات الغريب" محل يوسف شعبان في "الرصاصة لا تزال في جيبي"... وكلاهما من موظفي الاشتراكية الناصرية).

تقوم هذه الحبكة على قاعدة "العدو في الداخل The Enemy Within" وهي تيمة شهيرة في تحليل حاضرنا ومستقبلنا، تقول: إن معظم مشكلاتنا مع العالم الخارجي -في الحرب والسلم والتجارة والهجرة والاقتصاد- هي انعكاس لإخفاقات وهزائم الداخل.

"العدو في الداخل" فكرة شهيرة منذ أيام تفكك الإمبراطورية الرومانية، التي قيل فيها: إنها لم تتفكك من هزيمة عسكرية، بل من تفسخ الداخل.

الإمبراطورية السوفييتية أيضًا لم تُهزَم في أي معركة أمام الغرب (الاستعماري الرأسمالي البرجوازي المتعفن)، بل تفككت من تلقاء نفسها؛ لأنها "هزمت نفسها في الداخل" بسبب الديكتاتورية والاستبداد والفساد.

"حكايات الغريب" قصة لطيفة، فيها فكرة ذكية، وقد حولها الفيلم إلى عزف على مشاعر المشاهد في بانوراما الحب والرومانسية والخيانة والفداء والبطولة وأغاني السويس الراقصة.

لكن القصة والفيلم يستمران في "تغييب الجغرافيا"، وعدم قول الكلام بوضوح؛ مما يكرس جهلنا ببلادنا عقودًا وراء عقود.