غزة تقاوم

محمد حسني

حرب جديدة، ومرحلة مختلفة لصعود الفاشية الصهيونية – الجزء الأول

2024.01.09

مصدر الصورة : وكالة الأناضول

غزة تقاوم

حرب جديدة ،ومرحلة مختلفة لصعود الفاشية الصهيونية – الجزء الأول

طوفان الأقصى/ أو ما يسمى في إسرائيل: "السبت الدامي" أو أحداث 7 أكتوبر، كان حدثًا فاصلًا ونقطة سوداء في تاريخ إسرائيل، هذا ما يقوله الساسة والمحللون من شتى التيارات، وربما لكل منهم رؤيته للتحول، وهو بالضرورة حدث فاصل في القضية الفلسطينية.

يشبِّه بعض الإسرائيليين 7 أكتوبر بـيوم 6 أكتوبر 1973، في حين يراه البعض أفظع، فبالمقارنة، كانت إسرائيل آنذاك تحارب جيوش نظامية لدولتين، على جبهات خارج الحدود، واستطاعت أن تلم شتاتها خلال فترة أقصر من الحرب الجارية، ضد خصم أضعف بما لا يقاس.

كانت حرب أكتوبر ذات تبعات عميقة وطويلة الأمد في إسرائيل، وعلى كافة الأصعدة، والظاهر أن 7 أكتوبر 2023 ستترك آثارًا قوية أيضًا، والأدق أن 7 أكتوبر كان نتيجة لما قبله، مثلما هو سبب لما بعده.

نظرة إلى ما قبل:

حتى صباح السابع من أكتوبر، كانت غزة المحاصرة منسية؛ لأن تذكُّرها يسبب الألم ومشاعر الإحباط وقلة الحيلة، مليونا فلسطيني في أكبر سجن عرفته البشرية، أراح السَّجَّان باله ، وخَلَد للراحة.

يمثل حكم نتنياهو مرحلة خاصة في حد ذاتها، حتى في الفترات التي اضطر فيها لترك عرش إسرائيل، مقعد رئاسة الحكومة؛ لأنه استطاع عقد تحالفات ضمنت استمرار سياساته، وزرع مناصريه في كافة مؤسسات الدولة، يتحكمون في مفاصلها.

لو كان بيجن صاحب الانقلاب اليميني، في انتخابات 1977، حين استطاع اليمين لأول مرة انتزاع رئاسة الحكومة من "العمل" الحاكم والمؤسس للمشروع الصهيوني، فإن نتنياهو صاحب التحول الجذري وهيمنة اليمين شبه المطلقة، استغرق أكثر من عقدين من الزمان، لكنه محا كلمة "يسار" من الحوار السياسي الإسرائيلي، ليس اليسار الجذري فحسب، بل حتى اليسار الصهيوني، حيث لم يحصل حزب العمل، من بين 120 مقعدًا بالكنيست، سوى على 4 مقاعد، بينما حصلت الأحزاب العربية/ اليسارية على 10 مقاعد.

خلال السنوات الأربع الأخيرة، جرت 5 انتخابات، لم تستقر أية حكومة، وفي الواقع كانت الأحزاب اليمينية، مع بعض المزاحمة من أحزاب تصنف كـ"وسط" تلعب لعبة الكراسي الموسيقية، حتى جاءت حكومة نتنياهو الأخيرة لتوصف بأكثر الحكومات اليمينية والدينية في تاريخ إسرائيل. تكدست الأحزاب اليمينية في الائتلاف الحكومي، حتى فاضت وانتظرت بقيتها في المعارضة نظريًّا.

يسميه خصومه: "مندوب المبيعات"؛ لأن مهارته الأساسية هي الكلام:

يمكن الوصول إلى التطبيع مع الدول العربية، دون الحاجة لتسوية مع الفلسطينيين، وإن الفلسطينيين عندما يرون ذلك، سيكفون عن المطالبة بأي شيء.

من جانب، نجح نتنياهو بالفعل في عقد اتفاقيات تطبيع مع عدد من الدول العربية، وبوتيرة غير متوقعة. ومع إدراك حقيقة تضخيم نتنياهو لدوره، وتجاهله لمحورية الدور الأمريكي، وتهافت تلك الدول على إرضاء العم سام، ففي النهاية نجح في تحقيق الشق الأول. أما عن الشق الثاني للطرح، وهو سكوت الفلسطينيين، فكان يستطيع أن يتبجح به أيضًا حتى 6 أكتوبر2023.

ليس هناك شريك فلسطيني للتسوية: وهو الشعار الذي عمل نتنياهو على فرضه كواقع سياسي، بكل جهد، على الأقل منذ 2009.

يؤكد ذلك عدد من الخبراء الإستراتيجيين، من بينهم لواء احتياط جاد شماني: "هذه سياسة نتنياهو منذ 2009، تقوية حماس وإضعاف السلطة... كان يعتقد أنه بخلق كيان حمساوي في غزة سيستطيع ضم الضفة الغربية، وما يجري اليوم نتيجة لسياسة نتنياهو الحمقاء".

وهكذا كان بإمكان نتنياهو الزعم بأنه لا يمكن الوصول إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين؛ لأن حماس قوية وتحظى بتأييد الفلسطينيين وتريد تدمير إسرائيل، بينما فتح ضعيفة ولا تحظى بتأييد. وأن الفلسطينيين منقسمون بين الضفة وغزة، بين فتح وحماس؛ لذا فليس هناك كيان موحد يمكن التوصل معه إلى اتفاقية سلام، الأمر الذي أعلنه بعبارة صريحة في جلسة كتلة الليكود، حيث قال نتنياهو: "من يريد إحباط إقامة دولة فلسطينية، يجب أن يدعم تقوية حماس وتحويل الأموال إليها... هذا جزء من سياستنا، الفصل بين الفلسطينيين في غزة والضفة".

بالتوازي مع إحكام الحصار، عمدت إسرائيل إلى شن حروب متتالية على غزة، بهدف إنهاك مواطنيها قبل إنهاك حماس، ومن ناحية أخرى إسكات المعارضة الداخلية ضد الحكومة، وتخطي أزمات داخلية، وهو ما ساهم في إعطاء اليمين دفعات متتالية إلى الأمام.

بالنظر إلى ما سبق، تُعَد أحداث 7 أكتوبر بمثابة انفجار، ونتيجة لقمع منهجي، وهدفها الأساسي أن يسمع العالم صراخ أهالي غزة في محبسهم الكبير، سبقتها محاولات، لكنها كانت أقل شدة، وأقل تأثيرًا كذلك.

هذا ما يستقر في قناعة المؤيدين للقضية الفلسطينية، في الشعوب العربية والإسلامية، أو أغلبها على الأقل، ليس هذا فحسب، بل بين جماهير أوروبية، وفي دوائر معينة في الولايات المتحدة، الأمر الذي أثار حنق الإسرائيليين، كيف تخرج المظاهرات مؤيدة للفلسطينيين، في دول يساند حكامها إسرائيل قلبًا وقالبًا، ولم تفلح أدواتها الدعائية في تشويه وعي جماهير ليس لديها علاقة مباشرة بالصراع جغرافيًّا على الأقل.

الجبهة نفسها تنادي بأن تكون أحداث 7 أكتوبر سببًا في السعي إلى تسوية الصراع، ومنح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.

أما على الصعيد الإسرائيلي، فهي أيضًا نتيجة وسبب، ولكن برؤى مغايرة.

أولًا:

داخِل معسكر اليمين، وهم من سارعوا لنجدة الائتلاف الحاكم، وعلى رأسه نتنياهو، باتهام معارضيه، بأنهم السبب في استنزاف طاقة المؤسسة الحاكمة، واستهزاء "الأعداء" بهم. يلقي يسرائيل كوهين المنتمي للصهيونية الدينية، في مقالاته على موقع mako، باللوم على الحركة الاحتجاجية خلال السنوات القليلة الماضية، وأهمها الاحتجاجات ضد التعديلات الدستورية التي قدمها نتنياهو لتوسع صلاحياته وحزبه على حساب المحكمة الدستورية.

كما زعم سام بن شتريت، رئيس فيدرالية يهود المغرب، أن الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي استنزفت قدرات الأمن، وتسببت في أحداث السبت الدامي، وأن الاتهامات الموجهة للحكومة أدت إلى احتقار شأن إسرائيل في أعين "أعدائها". ويضيف إلى ذلك: اعتصامات الطيارين، ورفض جنود الاحتياط الخدمة العسكرية، رغم أن الاحتجاجات خرجت بالفعل بسبب تعديلات دستورية قدمتها حكومته نفسها.

وعليه، فإن على كل الأطراف الصمتَ وتأييد الحرب وإبداء الندم عن كل التوجهات "اليسارية" السابقة. فبينما تعالت المطالبات باستقالة نتنياهو، يخرج مناصروه بحجج عدم إمكانية الاستقالة؛ "لأن حالة الحرب تحتاج لاستقرار" و"يجب أن تكون الحكومة كالحصن دون اهتمام بالصغائر، من جدالات حول الدستور، ونقاشات برلمانية، وعندما نحقق النصر المأمول ويعود كل المخطوفين، نجري انتخابات ...". وهو التوجه الذي انتقده بن درور يميني، المحلل السياسي في "يديعوت".

ينتقد عالم النفس د. تسڤي موزيس، المنتمي لليمين، مظاهرات أهالي الضحايا ونداءاتهم التي تستعطف الجمهور والقيادات السياسية، ويراها في غير محلها غير مجدية حيال "عدو شرس وذكي"؛ لذا يدعو أسر المخطوفين للخروج وحشد رأي عام دولي، لكن حشد رأي عام اسرائيلي: خطأ، الصدام مع السياسيين: خطأ، الدعوة للقاءات وإشراك عائلات الضحايا في تفاصيل المفاوضات: خطأ.

لم يقتصر الأمر على التنظير البرجماتي، بل امتد إلى الجدالات الدينية، فبينما رفع الكثيرون شعار "فداء الأسرى أوْلَى"، وهو الشعار الذي تجاهله نتنياهو طوال الحرب، ثم استند إليه عندما اتخذ قرار قبول الهدنة، يزعم الحاخام أڤراهام ڤسرمان أنه من الخطأ تطبيق أحكام اليهودية بشأن "فداء الأسرى" واعتبارها أولوية، وهو الرأي الذي تؤيده عائلات الضحايا والمتبنين لضرورة إعطاء الأمر أولوية.

زعم ڤسرمان أن الفتوى السابقة تنطبق على اليهود كطائفة، وليس كدولة. وما كتبه فسرمان في موقع القناة 7 inn، هو تكرار لما كتبه خلال صفقة شاليط، ويختتم: "عندما يدرك عدونا أن الخطف لا يجدي نفعًا بل سيجلب الضرر، وعندما نضربهم مرة تلو الأخرى بسبب الخطف، فسيكون هناك أمل أن يكفوا عن ذلك... أما إذا فرحنا باستعادة المخطوفين فتلك حماقة".

أكثر يمينية:

اتجاه آخر في معسكر اليمين، ربما امتد نظرهم إلى ما بعد سقوطه الوشيك، ففضل المزايدة على نتنياهو نفسه، واعتبروا أحداث 7 أكتوبر نتيجة لضعفه وتخاذله عن "تصفية الصراع"، فالخطأ ليس في شن الحروب، التي يؤيدها اليمين بالقطع، ولكن في عدم تصعيدها إلى سَحْق حماس، وحزب الله أيضًا. وفي الواقع هم في ذلك يطبقون شعارًا أطلقه نتنياهو نفسه: "ما لا يأتي بالقوة، يأتي بالمزيد من القوة"، وربما لم يَدُر بخَلَده وقتها أن يأتي اليوم الذي يُتَّهم هو نفسه بالتراخي و"اليسارية".

نشر أفيجدور ليبرمان، رئيس حزب يسرائيل بيتينو، أحد أحزاب المهاجرين الروس، في موقع walla، عدة مقالات يهاجم فيها "تراخي" الحكومة تجاه "الأعداء" شمالًا وجنوبًا، وأردف: "لا بديل عن تصفية حماس، يجب أن يدرك الجميع أننا أقوى دولة عظمى في المنطقة".

***

منافسون لا معارضون:

الخلافات بين الموقفَينِ السابقَينِ خلافات غير حقيقية، تنحصر في المزايدات المتبادلة، للتنافس في الميدان نفسه، حيث بات سقوط الحكومة أمرًا مقضيًّا، ومسألة وقت لا أكثر. من هنا فإن خطابات وممارسات اليمين الصهيوني، ترتكز على نقاط أساسية، لا يختلف فيها المتدينون عن العلمانيين سوى في المظهر.

نزع الإنسانية:

سيطر على الخطاب الصهيوني بتياراته طرح "نزع الإنسانية" عن حماس خاصة، وعن الفلسطينيين والعرب عامة، حتى إن تعبيرات "الوحوش" و"المسوخ" و"المجرمين" و"من يتبرأ منهم الشيطان" كانت مقدِّمة ضرورية لكل الكتابات، حتى تلك التي تطرح تقييد مدى الحرب، والسعي للتسوية.

بعنوان: "مختصر تاريخ القسوة والكراهية" - يديعوت - يسترجع د. روني شاكيد – يديعوت - الباحث في معهد ترومان بالجامعة العبرية، الصدامات التي وقعت بين الفلسطينيين واليهود منذ 1929، ويصل لنتيجة مفادها أن الكراهية كامنة في نفوس الفلسطينيين، وأن أي حل حتى تصفية حماس لن يقضي على الكراهية في نفوسهم. والملاحظ تكرار استدعاء صراعات قديمة، ووضعها بالطبع في شكل عدوان على اليهود، في عدد من المقالات.

يأتي "نزع الإنسانية" بالبديهة تمهيدًا لاستباحة دم الفلسطينيين.

كتب إيتمار فليشمان -إسرائيل اليوم: "تصفية كل مخرب شارك في المذبحة أكثر الأمور أخلاقية". ويذكر أنه تم تشكيل وحدة "نيلي" على اسم وحدة تجسس وتخريب صهيونية في عشرينيات القرن الماضي، ومهمتها السعي لتصفية المشاركين في أحداث السبت الدامي، ومحاكمة من تم اعتقالهم محاكمات عسكرية وإعدامهم.

كما كتب إيهود بلج، محامي ومدير "مركز الإنصاف" في إسرائيل، ولا يخدعنا اسم المركز، تحت عنوان: "لا تسامح مع الشر، يجب أن يكون أيضًا نذرنا لأطفالنا" -معاريف - وافتتح المقال بعبارة: "القادم لقتلك بَكِّرْ بقتله"، ويستحضر هو الآخر دَك البريطانيين للمدن الألمانية، وإلقاء القنابل على هيروشيما ونجازاكي.

الإبادة:

علاوة على تصريح الوزير عميحاي إلياهو المذكور، عن ضرب غزة بالقنابل النووية، تكررت دعوات الإبادة بشكل سافر، ضرب خلالها المتحدثون أمثلة بألمانيا في نهاية الحرب العالمية، وكذلك هيروشيما ونجازاكي، من بين هؤلاء عضوة الكنيست ليمور سون هار - ميلخ، التي صرحت في اجتماع لجنة الخارجية والأمن: "يجب أن نفعل في الفلسطينيين في غزة مثل هيروشيما ونجازاكي". وفي سياق آخر بشأن المساعدات الأمريكية صرَّحت: "لا نحتاج شيئًا من الأمريكان، كل ما نحتاجه رجل معه بندقية وإيمان". جدير بالذكر أنها من سكان المستوطنات التي أخليت مع خطة فك الارتباط، ومؤخرًا جمعت نصف مليون شيكل لصالح قاتل عائلة دوابشة، المشار إليه عاليه.

على موقع القناة 7 inn، دعا المحامي اليميني، أفيعاد ڤيسولي لإعلان كل أراضي غزة "هدفًا عسكريًّا Military Object "، وحيث إن أي إنسان موجود في داخل هدف عسكري يُعَد محاربًا أو داعمًا للحرب، فعلى إسرائيل الإعلان أن كل قطاع غزة (360 كم2) بمنازله وكافة مبانيه "هدف عسكري".

إعلان حرب مقدسة:

اليمين الديني يعلن حربًا مقدسة، ويتفق اليمين العلماني معه ضمنًا، هذا ما يظهر في الأخبار ومقاطع الفيديو، المنشورة عبر القنوات والمواقع الإخبارية، وعلى منصات التواصل الاجتماعي. حاخامات يقيمون صلوات جماعية، يحلمون بالعودة إلى جوش قاطيف - مستوطنة تم إخلاؤها خلال فك الارتباط 2005، تصريحات أتباع الحاخام كهانا شديدة التطرف.

أبرز الحاخامات المشاركين سبق إدانتهم في قضايا ما بين التربح، والتحريض، والتخطيط لارتكاب جرائم عنصرية. على رأسهم شموئيل إلياهو المتهم في 2020 بالتحريض العنصري، وابنه هو عميحاي إلياهو، وزير التراث من حزب عوتسماه ليسرائيل، صاحب الدعوة الشهيرة لإلقاء قنبلة ذرية على غزة.

انتشرت من جديد خطبة إلياهو، التي ألقاها في 2018: "إن من يرفع يدًا نحو يهودي على الجنود قتله، لا اعتقاله". قبل ثلاثة أسابيع خطب إلياهو من جديد: "لا يوجد ما يسمى: غير متورطين، إنها أخلاقيات مشوهة تطرحها المحكمة العليا، فقبل أن تدخلوا برِّيًّا علينا أن نعلن توبة قومية لكي ننتصر".

 أما عميحاي فريدمان وهو حاخام عسكري، فيقول: "بلغنا مرحلة يصعد فيها شعب إسرائيل مرتبة، الأرض كلها لنا، كلها، بما في ذلك غزة، ولبنان، كل الأرض الموعودة، وسوف نعود عظماء، ستعود جوش قاطيف صغيرة جدًّا أمام ما سنبلغه بإذن الله".

إلى جانب لقاءات الحاخامات، نُظمت حفلات إنشاد وغناء، من بينها حفل المغني حانان بن آري الذي هتف وسط الجنود بالانتقام واحتلال غزة، المغنية نركيس تنشد: "سنقضي على غزة، ونعيد جوش قاطيف، نحن نور للأمم"، وحفل المطرب الشهير ليئور نركيس الذي كال البذاءات لغزة وأهلها.

كما أنشدت إحدى الفرق أناشيد جماعة كهانا المتطرفة المتخمة بالانتقام والتحريض على الإبادة، من بينها أغنية تقوم على قصة شمشون التوراتية، الذي هدم المعبد عليه وعلى الفلسطينيين، حينها التقط أحد الجنود الميكروفون وسط هتاف زملائه: "نحن لا نخجل، نحن نريد الانتقام، لقد سئمنا الخجل".

وأظهرت مقاطع فيديو نشرها الجنود هتافات تدعو لحرق القرى الفلسطينية، أو تنادي بقتل شخصيات، من بينها أحمد الطيبي عضو الكنيست.

 عقب الاجتياح البري، نُشرت صور وفيديوهات لمدرعة مكتوب عليها سننتصر ونستوطن، نتذكرك وسنعود (يقصد إلى جوش قاطيف)، بينما يلبس الجنود قمصانًا صفراء رمز معارضة فك الارتباط.

ومقطع آخر لضابط إسرائيلي غرس شجرة في القطاع معلنًا أنها من أجل إطلاق سراح "سجين صهيون" عميرام بن أوليئيل قاتل عائلة دوابشة.

هل يتوقف دور الجيش على "غض الطرف" على حد قول بعض الصحفيين، ممن يتهيبون النقد الصريح، في هذا الوقت؟ في الحقيقة، إن هذه النوعية من طقوس التأهيل النفسي، متَّبَعة بشكل منهجي منذ عملية الرصاص المصبوب، ولا سيما في زيادة عدد المتدينين في الرتب القيادية.

أشار بروفيسير يجآل ليفي صاحب كتاب "الثيوقراطية في الجيش الإسرائيلي - 2005" إلى أن هناك تغلغلًا تدريجيًّا للثيوقراطية في الجيش، وذلك ثمرة عمل اليشيفاه - المعاهد الدينية - العسكرية، وأن الجيش يسلِّم بالتأثير الديني لأنه متعلق بالمجندين المتدينين، ولأنه يبحث عن مصادر شرعية جديدة للتضحية العسكرية.

يرى البعض أن هذه العملية بدأت عقب فك الارتباط، على يد الحاخام العسكري أفيخاي رونيسكي - تلميذ شلوموه جورن الحاخام العسكري خلال حرب 67. وقد أعلن رونيسكي "تنمية الوعي اليهودي لدى كل المقاتلين؛ سواء كانوا متدينين أو علمانيين"، غرس رونيسكي في الجنود أنهم "جيش مقدس". وخلفه رافي بيرتس من اليمين القومي الديني، والذي تولى وزارة التعليم فيما بعد.

كانت الحاخامية العسكرية تريد إزالة خوف الجنود بشحنهم دينيًّا. خلال عملية الرصاص المصبوب 2008، كان الجنود متحمسين ولكن لم يغالبوا خوفهم، فحرص البعض على التقرب إلى الحاخام، وطلبوا منه طلاء وجوههم للتمويه بنفسه كي تحل بركته وحمايته عليهم، كما خاط بعضهم الأحجبة والرموز اليهودية على ملابسهم الداخلية.

***

أما عن الرأي العام، فإنه يتماشى مع الاتجاهات السابقة، حيث يظهر استطلاع أجرته جامعة رايخمان وشركة iPanel أن نسبة من يؤيدون استخدام كافة الوسائل ضد الفلسطينيين، حتى التي تسببت في انتقادات دولية، مثل: وقف الإمدادات الغذائية والدوائية: 81%، قطع الكهرباء والوقود: 90%، قصف أحياء (بزعم وجود مسلحين): 94%، قصف مستشفيات: 86%.

وبرغم تراجع الثقة في الدولة وقدرتها على مد يد العون في الكوارث، فإن نسبة تأييد حالة الطوارئ، بما تتضمنه من تقييد الحريات تبلغ 81%، 69% يؤيدون منع المظاهرات المتضامنة مع مواطني غزة، 42% فقط يؤيدون منع المظاهرات المطالبة باستقالة نتنياهو.

ربما لا يتسع المجال لبحث إشكالية العلاقة بين القوى السياسية في إسرائيل وبين جمهورها، هل الأولى هي من صنعت الثانية، أم أنها إفراز لها؟ فمن بين من تناول تلك الإشكالية د. إسحاق بنياميني، من جامعة تل أبيب، الذي تناول العلاقة بين النفسية الإسرائيلية والسياسة الإسرائيلية، تحت عنوان: "آلة تخويف نتنياهو"، حيث ذكر أن الخوف هو منبع الأفعال السياسية ومشاعر الغضب والحزن في الحياة اليومية الإسرائيلية، وأن نظام نتنياهو يفاقم مشاعر الخوف الدائم لدى المواطنين.. علاوة على مشاعر التشرد والغربة المغروسة في نفس اليهودي الشتاتي.

في الجزء التالي من المقال نناقش اتجاهات تصعيد الحرب على النطاق الإقليمي