حوارات
راشدة رجبد.عواطف عبد الرحمن.. مناضلة بدرجة أستاذ
2024.02.25
تصوير آخرون
د.عواطف عبد الرحمن.. مناضلة بدرجة أستاذ
تتنبأ بتفكك الولايات المتحدة الأمريكية وانهيار المشروع الصهيوني وقيام الدولة الفلسطينية عام 2050، إنها د.عواطف عبد الرحمن أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، التي لم تكتفِ بالتدريس الجامعي لآلاف الطلاب حتى الآن، وتسعد برؤية نجاحاتهم في المجال العملي، بل كرست حياتها للدفاع عن حقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، والأفارقة في الحرية والاستقلال، إلى جانب - بالطبع - الدفاع عن حقوق المرأة وأهل الصعيد.
وشرفت "مرايا" بإجراء هذا الحوار معها:
اسمحي لنا دكتورة عواطف في البداية بالحديث عن كتابك الجديد الذي تنوين إصداره عن فلسطين
- المشكلة أن كل ما كُتِب يركز على "ماذا بعد غزة؟"، بماذا تنتهي هذه المحنة التي تحمل حقيقة الصهيونية والمجتمع الصهيوني الذي يتعامل بمنتهى الإجرام، ويضرب بعرض الحائط القوانين الدولية. والدول الغربية كلها وأمريكا طبعًا تقف إلى جانب إسرائيل، ولم يتحدث أحد عن المقاومة التي ستستمر في كل الأحوال، طبعًا إسرائيل بالتسليح الأمريكي والمعونات الغربية هي الأقوى، لكن حماس - والحقيقة ليست حماس فقط - بل 12 منظمة مشاركة تقودها حماس، صمدوا شهرين ونصفًا، لقد وصل عدد الشهداء حتى الآن إلى 25 ألفًا، بينهم 10 آلاف طفل، و8 آلاف امرأة.. وهذا شيء مؤسف جدًّا.
فمن خلال قراءتي لأربعين مقالًا في الصحف العربية والأجنبية، وجدت أن الموضوع الذي لم يأخذ حقه هو المقاومة؛ بمعنى: أن المقاومة الفلسطينية تاريخ واستمرارية. سأبدأ منذ صدور وعد بلفور؛ أي: عام 1917، فعلى مدار أكثر من قرن لم تهدأ المقاومة الفلسطينية، طوال الوقت انتفاضات وثورات، وطوال الوقت الغرب يخمدها، أولًا بريطانيا، وأخيرًا أمريكا.
بدأت هجرة اليهود من أوروبا لفلسطين تحت رعاية بريطانيا، وكانت الواجهة دائمًا شخصًا فلسطينيًّا أو عربيًّا، والحقيقة أنها الجمعية اليهودية. وعندما لم يوافق الأهالي من الفلسطينيين على تسليم الأراضي، دخلت الدبابات البريطانية فدكَّت البيوت على أصحابها، وارتوت الأرض الفلسطينية بدماء الفلاحين، وانتُزعت الأرض وتم تسليمها للجمعية اليهودية.
وسأركز على لقطات تاريخية من المقاومة؛ أولًا: هبة البراق (1929) وهو الصراع على حائط المسجد الأقصى واليهود يسمونه: حائط المبكَى، ثم انتفاضة القسام والثورة الفلسطينية الكبرى التي تلتها عام 1936، وقد أخمدتها جميعًا بريطانيا.
وفي الأربعينيات ازدادت الاضطرابات والاحتجاجات الفلسطينية، وأصبح هناك صراع دموي انتهى للأسف بتقسيم فلسطين في نوفمبر 1947 بسبب التواطؤ الدولي، ثم بالنكبة عام 1948، وهنا بدأ ينتقل النفوذ إلى أمريكا.
ثم انتفاضة الحجارة للأطفال عام 1987، وبعد ذلك انتفاضة الأقصى في 2001.
وفي سنة 1993 تم إبرام اتفاق أوسلو الذي لم يُنفَّذ أي بند من بنوده، بينما وافق الفلسطينيون على أن تكون السلطة في رام الله. والصراع الذي حدث بعد ذلك؛ حيث رفضت حماس أوسلو وانفردت بغزة.
"طوفان الأقصى" لم يأتِ من الهوى، فحماس حركة مقاومة استطاعت أن تستمر بغض النظر عن اتجاهها الإسلامي، وأنا لا أنظر للأمر من الناحية الأيديولوجية، بل من الناحية القومية.
فما أريد أن أقوله: أن طوفان الأقصى امتداد لمسيرة طويلة من الانتفاضات والثورات والاحتجاجات الدموية من جانب الفلسطينيين.
فالقضية الفلسطينية تعيش في ضمير الشعب الفلسطينى جيلًا وراء جيل. لقد عرَفتُ من الأفريقيات أنهن يهمسن في أذن الطفل منذ ولادته "البِيض سرقوا أرضك"، فقلتها للأمهات الفلسطينيات ليبدأن الهمس في أذن الرضيع:
"الصهاينة سرقوا أرضك"، وعندما يبلغ الطفل سبع سنوات يبدأ تدريبه ويتحول إلى كادر؛ فهو يشرب قضيته مع لبن الأم؛ فالطفل الفلسطينى يولد مشروع كادر عندما يصل إلى 15 أو 20 سنة يصبح كادرًا كاملًا، وإسرائيل تدرك هذا، ولذلك تركز على ضرب الأطفال.
كيف ترين مستقبل هذا الصراع؟
- على المدى الطويل ستعود فلسطين، وذلك عندما تنهار أمريكا.
لقد تحدثتِ في الفترة الماضية، وبالتحديد في ندوات برنامج "سينما فلسطين" التي أقامها المركز القومي للسينما، عن تنبؤات بتفكك الولايات المتحدة الأمريكية. فحدِّثينا عن هذا الأمر.
- نتحدث دائمًا عن أمريكا كقطب أوحد مسيطر على العالم، ولا نتحدث عن مشكلاتها الداخلية؛ فلديها تمييز عنصري بشع، وانهيار اقتصادي من الداخل. ولكل هذا تأثير متراكم سيظهر أكثر عام 2035 وبحلول عام 2050 ستكون أمريكا قد تم تقسيمها إلى عدة دول. عندما يحدث هذا سيسقط المشروع الصهيوني، فلن يستطيع الاستمرار؛ لأنه يعتمد اعتمادًا كاملًا على أمريكا.
إذن أنتِ تتوقعين قيام دولة فلسطينية بحلول عام 2050؟
- لا أستطيع أن أتوقع ماذا سيكون شكل الدولة الفلسطينية، لكن هناك مثال يتم تجاهله بشكلٍ فظيع؛ الثورة الجزائرية حيث استمر الاستعمار والاحتلال الفرنسي 132 سنة، وطبعًا كانت هناك مقاومة طوال الوقت انتهت بالثورة الجزائرية.
كيف بدأ اهتمامكِ بفلسطين؟ ولماذا اخترتِها أطروحة للدكتوراه؟ كما أنكِ قدمتِ كتبًا كثيرة منها "مصر وفلسطين"، و"المشروع الصهيوني والاختراق الصهيوني لمصر" (1917-2017) وغيرهما.
- كان عمري 7 سنوات وأخي 4 سنوات وأمي تحكي لنا المذابح التي تقوم بها العصابات الصهيونية عام 48 وقبله، وطبعًا غرست فينا البذرة، أنا أريد أن أصبح صحفية أكتب عن فلسطين، وأخي ضابطًا ليدافع عنها، وأصبحنا نتابع بعد ذلك وعلى امتداد حياتنا القضية الفلسطينية، وبعد عام 1967 قررت أن أعد شيئًا عن القضية الفلسطينية، فسألت محمد أنيس أستاذي في التاريخ، الذي وجهني إلى أن أتناول موقف الصحافة المصرية من القضية الفلسطينية.
وفيما بعد أصبحت عضوًا في لجنة الدفاع عن الثقافة القومية ضد الصهيونية والإمبريالية، وهي لجنة ضد كامب ديفيد تضم جميع التيارات برئاسة أستاذتنا المناضلة العظيمة لطيفة الزيات. ويوم أقيمت السفارة الصهيونية، في مصر في مارس 1978 خيَّرتُ الطلبة بين أن ألقي محاضرة عن مناهج البحث، أو عن السفارة الإسرائيلية، فاختاروا السفارة، فقسمت الطلبة إلى مجموعتين: واحدة ضد اتفاقية كامب ديفيد، والأخرى معها، وأدرنا المناقشة.
أنتِ تُعِدِّين أبحاثًا عن الدراسات المستقبلية، ولكِ كتاب "بوابات التفكير المستقبلي" .. فحدِّثينا عن هذا الأمر.
- التفكيرالمستقبلي لم يغادر ذهن البشر ولا اهتماماتهم منذ الخليقة، وفي عام 1907 أصبح التفكير المستقبلي علمًا.
وعندما يُعِد المرء أي دراسة مستقبلية لا بد أن يبدأ من الوضع الراهن. ويحتاج كمًّا هائلًا من المعلومات عن الموضوع الذي يريد العمل عليه.
ثم يحدد الزمن المستقبلي. وقد قسمت جامعة مينسوتا المستقبل إلى مراحل: منظور قريب، متوسط، وبعيد، وهي فترات تبدأ بسنتين، وتنتهى بخمسين سنة على التوالي.
وعند اكتمال المعلومات هناك 3 سيناريوهات: سيناريو مرجعي أن يظل الوضع كما هو، سيناريو إصلاحي أن يحدث بعض التغييرات الطفيفة، سيناريو راديكالي حيث يحدث تغير جذري. إلا أن أساتذة المستقبليات رأوا أنه قد يحدث شيء غير متوقع يغير السيناريوهات ويحل محلها بدائل.
مثلًا: لو أخذنا القضية الفلسطينية، تم بناء مستوطنات على 22% من الأرض، وهي الأراضي التي كانت إسرائيل ستعطيها للفلسطينيين لإقامة دولتهم، فأصبح هناك استحالة أن تقوم دولة فلسطينية. وهذا يؤدي لأن يظل الوضع كما هو، لكن غيَّر "طوفان الأقصى" هذا الوضع، وجعلنا نضع بدائل: ما هو موقف إسرائيل من المستقبل؟ هذا هو المأزق الذي تعيشه إسرائيل الآن. الحل العسكري له سقف، وأدى إلى تفكك وصراعات في المجتمع الإسرائيلي. سيظل الوضع هكذا إلا إذا تدخلت أمريكا بشكل مباشر.
استمرارية المقاومة ترتبط أولًا: بإنهاء الانقسام الفلسطينى لا بد من توحيد الصف الفلسطيني؛ السلطة الفلسطينية في الضفة مع حماس لا بد أن يتوحدوا تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية. وثانيًا: بتغيير الحكومات العربية موقفها من التطبيع في هذه الحالة سيكون هناك أمل. لو لم يحدث هذا فلن يكون هناك تغيير جذري في القضية الفلسطينية.
أنتِ تُقِيمين وِرَشًا للشباب للتفكير المستقبلي للأفراد، وتسعَينَ لغرس هذا التفكير في نفوس الأطفال. حدِّثِينا عن هذا الأمر.
- عملنا ورشتين ناجحتين، والآن بدأنا الورشة الثالثة مع مجموعة المعيدين والباحثين من كلية الإعلام؛ حيث نقسم الشباب إلى مجموعات، ونطلب منهم سردًا تفصيليًّا لنشأتهم وتطورهم. وحدَّدْنا لهم الاختيار بين النمط المعياري والنمط الاستهدافي؛ ففي النمط المعياري نسبة الإرادة الفردية 50%، و50% للظروف وأحيانًا أكثر، حسب موقف الفرد ونوع المشكلة. أما الاستهدافي فإنه يناقش ما سيحدث في عدة مجالات نحددها خلال فترة زمنية مستقبلية، عشر سنوات مثلًا.
وقد اكتشفت للأسف أن التفكير القدري لا زال يسيطر على عقلية الشباب فيتركون الأمور للظروف. حددنا تسعة مجالات: الأسرة، التعليم، العمل... إلخ. وأضاف الشباب مجالات أخرى منها المواصلات والصحة. يطبق الشاب التفكير المستقبلي على كل مجال بعد أن يختار النمط والسيناريو، وفي النهاية نقيم ندوة كبيرة تُعرَض فيها الرؤية الأخيرة القابلة للتطوير.
وماذا عن الأطفال؟
- لم نطبقها بعد على الأطفال، لكني طبقتها على أطفال العائلة من سن ثماني سنوات وحتى 12؛ فالطفل يريد أن يكون مهندسًا أو ضابطًا؛ لأن والدته تريد ذلك. وهذا لأن الأسلوب التربوي للجيل الحالي قمعي وليس ديمقراطيًّا، فلا بد أن يحدث نوع من إعادة النظر في أساليب التربية من أجل تربية جيل واثق من نفسه.
كيف ترين مستقبل التعليم الجامعي وبشكل خاص مع انتشار الجامعات الخاصة وتخريج الآلاف سنويًّا؟
- يرتبط الأمر بطبيعة السلطة الموجودة، فلن يتغير النظام التعليمي في مصر والكوارث التي حدثت فيه إلا لو تغيرت السلطة الحاكمة؛ فالسلطة تأخذ توجهًا شبه رأسمالي تابعًا للغرب من الناحية الاقتصادية، حيث يعتمد على القروض وعلى القطاع الخاص، ويكون للدولة دور صغير جدًّا. وقد أفرز ذلك نظامًا تعليميًّا يخدم على الاقتصاد.
وفي ظل نظام سياسي كهذا لا يمكن أن تتوقعي أن ينمو نظام تعليم ديمقراطي؛ فنظام التعليم الحكومي لدينا سيئ، والتعليم الخاص أسوأ، قائم على تكوين كوادر وظيفية غير قادرة على التفكير النقدى أو الرؤية النقدية للمناهج التعليمية، أي تخرج كوادر موظفين.
ومع انتهاء الثقافة الجماهيرية وخلو قصور الثقافة من الأنشطة، أصبحت الثقافة السائدة ثقافة مهرجانات وعروض، وليست ثقافة منتجة تساعد على ظهور مبدعين.
ما مستقبل حرية الصحافة في ظل التقدم التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي؟
- سيظل الاهتمام بالتكنولوجيا على حساب الاهتمام بمحتوى الثقافة؛ فهناك اهتمام بالتكنولوجيا لكنها تقدم محتوًى يساعد على استمرار نوع السلطة.
الصحافة المطبوعة تعاني الآن من أزمة كبيرة؛ فالصحف القومية تسيطر عليها الحكومة، والصحافة الحزبية محدودة بين حزب التجمع وحزب الوفد، بينما 104 أحزاب ليس لها أي دور إعلامى أو ثقافي، والصحافة الخاصة إلى حد كبير تأخذ مساحة من حرية الرأي، ولكن في حدود القواعد والشروط التي تضعها السلطة.
وإلى جانب أزمة الصحف في علاقتها بالسلطة توجد أزمة اقتصادية. فالصحف الحكومية بالذات مدينة وتعانى من ارتفاع أسعار الورق والأحبار. وهناك كوادر تريد أن تتدرب على التكنولوجيا، وأجهزة تتطور طوال الوقت. فكل إمكانيات الصحف الحالية أقل من أن تفي بهذه الاحتياجات.
وما مستقبل الصحافة المطبوعة في ظل التطور التكنولوجي؟
- هذا الأمر موجود على مستوى العالم، لكن الموضوع يختلف لدينا إلى حد ما. الصحافة المطبوعة ستستمر، ولكنها ستقتصر على صحافة الرأي. أما الصحافة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي التي تعطي هامشًا لحرية الرأي فستصبح صحافة خبر مثلها مثل الإعلام الفضائي.
كيف ترين الوضع في مصر سياسيًّا واجتماعيًّا؟ وكيف يمكن الخروج من عنق الزجاجة إذا جاز هذا القول؟
- هناك أزمة اقتصادية طاحنة ناتجة عن الأيديولوجيا التي تتبناها السلطة؛ وهي أيديولوجيا تابعة للغرب ولأمريكا بالذات؛ فهناك اتفاق إستراتيجي بيننا وبين أمريكا على المستوى الاقتصادي، وقروض صندوق النقد وشروطه؛ حيث يصر على تحويل مصر إلى سوق استهلاكية تخدِّم على السوق العالمية التي يسيطر عليها الغرب وأمريكا.
أيضًا الشركات متعددة الجنسيات، طبعًا لو تلاحظين فإن أهم ما حدث في الفترة الأخيرة هو مقاطعة البضائع الأجنبية، وهذا سلاح مهم جدًّا، وقد اكتشفنا وجود إنتاج مصري لكنه محاصر ومهمَّش، فلو انتعش هذا الإنتاج وأصبحنا دولة منتجة لاستطعنا أن نتخلص من الديون ونبني اقتصادًا لصالح الشعب، اقتصادًا له عائد جماهيري، ليس كل الاقتصاد عائده للسلطة تفعل به ما تريده.
حصلتِ على جائزة مانديللا للتحرر الوطني عام 1994، ولك كتب عديدة عن أفريقيا منها "إسرائيل وأفريقيا"، و"وسائل الإعلام في أفريقيا" وغيرهما، وزرتِ 38 دولة أفريقية، كيف بدأ اهتمامك بأفريقيا؟ وما تقييمك لهذه التجربة؟
- بدأ اهتمامى بأفريقيا مبكرًا جدًّا؛ فقد تخرجت في كلية الآداب قسم صحافة، وكل زملائي قرروا الالتحاق بالدراسات العليا في نفس القسم، أما أنا فقدمت أوراقي بمعهد الدراسات الأفريقية؛ لأني اكتشفت وأنا في السنة الرابعة أن هناك كتابًا للعلوم السياسية به صفحة ونصف فقط عن أفريقيا. فاهتمامي بالقارة ينبع من الرغبة المعرفية.
كما أن تربيتي كانت في القرية؛ حيث كان لا يزال لدينا نظام العبيد وتجارة الرق، وقد ربانا عم عبد الكريم والشيخ إسماعيل، وحَكَيا لى أن أجدادهما كانوا ملوكًا موجودين في بلاد بعيدة بعد السودان، وتم خطفهم وبيعهم، فبدأت الحكاية تتشكل داخلي.
وفي المعهد أعددت الماجستير عن جريدة "المجاهد" وهي صوت الثورة الجزائرية.
كنا نذهب إلى الجمعية الأفريقية في الزمالك نلتقي فيها بكل الثوار الأفارقة الذين طُردوا أو غادروا بلادهم؛ فالبداية كانت الرغبة المعرفية ثم الانتماء لحركات التحرر التي فتحت لي آفاقًا غير عادية.
ما تقييمك للعلاقات المصرية بدول أفريقيا، وما الذي يمكن القيام به في مجال التعاون المصري الأفريقي؟
- كان عبد الناصر مهتمًّا جدًّا ويساعد حركات التحرر في هذا الوقت، وكان لنا فروع لشركة النصر للسيارات في عدة دول أفريقية، كما كان لدينا في كل جريدة قسم للشؤون الأفريقية، الآن لم يعد هناك كوادر، كما كان لدينا 18 إذاعة موجهة باللغات الأفريقية، و18 مكتبًا إعلاميًّا في الدول الأفريقية حتى أواخر السبعينيات.
عندما تولى الرئيس السادات الحكم قال: إن 99% من أوراق الصراع بيننا وبين أمريكا، وأعطى ظهره لأفريقيا، وتم تهميش العلاقات معها. وفترة مبارك لم توجد علاقات خاصة بعد محاولة اغتياله في أديس أبابا.
وما الوضع الآن؟
- عندما جاء السيسي وكان رئيسًا للاتحاد الأفريقي لعدة دورات بدأ يهتم، لكن الصحوة ما زالت رسمية؛ فالمفروض أن تتم تربية كوادر جديدة تهتم بأفريقيا.
أليس هذا من الضروري لمقاومة التوغل الإسرائيلي في أفريقيا؟
- في عام 1973 وصل عدد الدول الأفريقية التي قاطعت إسرائيل إلى 29 دولة، وبعد كامب ديفيد أعادت الدول الأفريقية علاقتها بإسرائيل. وكانت بداية إسرائيل في أفريقيا عام 1958 من خلال الاستعمار الفرنسي والبريطاني، واستطاعت أن تتوغل في فترات حكم السادات وحسني مبارك، والآن أصبحت أفريقيا ساحة للتنافس الدولي؛ فهي الكنز المؤجَّل، ويسمونها: الفطيرة الجديدة، فالصين ودول الخليج والدول الاستعمارية السابقة بدأت اكتشاف ذلك، ونحن نحاول أن نرجع نفوذنا، ولا بد أن نقيم مشروعات اقتصادية مشتركة.
وقد حضرت احتفالات زيمبابوي بالاستقلال عام 1980؛ حيث خرج 10 آلاف مواطن وبمجرد علمهم بوصول الوفد المصري اشتعلت هتافات: "مصر ناصر" يشكرون مصر لأنها أعطتهم زجاجة اللبن والسلاح والتدريب. فهم لا ينسون.
وعندما حضرت احتفالات استقلال ناميبيا عام 1991، قال سام نوجوما أول رئيس للبلاد: إنه يوجه نداء للشباب المصري لتعمير ناميبيا، وإنه لا يثق إلا في الكوادر المصرية، كما أكد أن الشاب يمكن أن يصبح مليونيرًا بعد عشر سنوات في ناميبيا، فهناك كمٌّ من الأراضي الثرية والمصايد والثروة الحيوانية والمعادن.
لماذا اخترتِ قسم الصحافة بكلية الآداب؟ وماذا استفدتِ من الفترة التي عملت بها في مؤسسة الأهرام (1960-1972)، بشكل غير متصل، في القسم السياسي ومجلة السياسة الدولية والأهرام الاقتصادي وأيضًا جريدة الأهالي؟
- أنا من مؤسسي جريدة الأهالي، لكني لم أعمل بها بانتظام؛ فقد كنت أنشر مقالاتٍ فقط، واستفدت كثيرًا من العمل الصحفي؛ فأنا أنتمي للدفعة الثالثة في قسم الصحافة، وقد دخلنا على وسط صحفي من قدامى الصحفيين الذين لم يصل أغلبهم إلى التعليم الجامعي، ولكنهم ناجحون؛ ولهذا توقعنا أن يوجد نوع من الصراع، لكن على العكس احتضنونا وأعطونا خبرتهم ووقفوا إلى جانبنا.
إذن لماذا تركتِ العمل الصحفيَّ واخترتِ التدريس بعد ذلك؟
- لأنني بعد عشر سنوات من العمل في الصحافة، اكتشفت أن قدراتي توقفت عند هذا الحد، ولن أستطيع أن أعطي أكثر من ذلك؛ فقد أجريت حوارات دبلوماسية مع 52 سفيرًا من العالم الثالث، كما أضافت الدراسات التي قمت بها لمجلة السياسة الدولية لي كباحثة، فقدمت في المعهد القومي للصحافة بمجرد بدء عمله وقبلوني، وقد تحول بعد ذلك إلى كلية الإعلام، وأعددت الدكتوراه واستمررت؛ فقد اكتشفت أنني أريد شيئين: علاقة بالجماهير (الطلبة هنا) وفي ذات الوقت بحث علمي.
ماذا استفدتِ من تلاميذك؟
- التدريس تجربة عظيمة، وأنا أخذتها كرسالة ودور وليس مجرد وظيفة، فأثرت فيها، وهي تعطيني أمل في المستقبل؛ ففكرة أن هناك أجيالًا تريد أن تتعلم تجدد انتمائي المهني وانتمائي لمصر، هذا الوطن الذي يستحق أن تبذلي من أجله عمرك، ولا زلت أدرس لطلاب الفرقة الرابعة وتمهيدي ماجستير، ولا أستطيع الاستغناء عن التدريس؛ فمن خلاله تنمو علاقتي بالأجيال والكوادر جديدة.
تُثبت حياتكِ أن أستاذ الجامعة له دور في تثقيف وتنمية المجتمع، ولا ينحصر دوره بين أسوار الجامعة. فما تعليقك؟
- لا بد من هذا الدور؛ فقد أصدرتُ مجلة "الدوار" عام 2003، بمنحة من اليونسكو، عن مركز بحوث المرأة الذي أسسته في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، وكانت تتناول مشكلات قرى الصعيد، وصدر منها 30 عددًا، لكنها توقفت لعدم وجود تمويل. وفي 2014 أقمتُ جمعية باسم: "الدوار" أيضًا؛ لمساندة الفئات الأكثر استحقاقًا ومحو الأمية في قريتي الزرابي التابعة لمحافظة أسيوط، وما زالت تمارس نشاطها.
من خلال عملكِ في هذه الجمعية ما هي الصعوبات التي تواجه العمل الأهلي في مصر؟
- هناك قيود كثيرة، تفتيش باستمرار، وبيروقراطية، وفي النهاية طلبوا منا توفيق الأوضاع، فأمضينا ستة أشهر في إعداد كثير من الأوراق، واتضح أن الأمر للتأكد من عدم وجود تمويل من جهات إسلامية.
خُضتِ تجربة الانتخابات البرلمانية عام 1984؛ حيث رُشِّحتِ عن حزب التجمع في جنوب أسيوط. ماذا أفادتك هذه التجربة؟
- كانت تجرية عظيمة، وقد أعدتُ اكتشاف الصعيد وقريتي من خلالها، وقمت بجولات انتخابية حيث زرت 70 قرية، أثناء الانتخابات. كانت أمي، وكم كانت سيدة عظيمة، تشرح للسيدات في مندرة بيت جدي البرنامج بطريقتها، وأنا أقوم بجولات مع مجموعة الرجال في كل قرية للدعاية. لقد فتحت لي هذه التجربة بابًا لمعرفة الصعيد؛ إذ كنت معزولة في الثقافة والعلم والسفريات.
وقد عانت أسيوط كثيرًا، حيث دمر المحافظ محمد عثمان إسماعيل - الذي عينه السادات لمدة 15 عامًا - الكوادر الشابة من خلال القضاء على التيارين اليساري والإسلامي في الجامعة.
وكنت أعرف من قبل أنَّ أذكى فئات الشعب المصري هم أهل الصعيد، ولكنهم يعانون أسوأ الظروف الاقتصادية والاجتماعية. وبسبب العداء التاريخي بينهم وبين السلطة، فهناك تهميش لهم فلا يأخذون حقهم في المشاركة السياسية.
عملنا جبهة أنا وممتاز نصار مرشح حزب الوفد ضد الحزب الوطني، ويمثله زكي بدر و"بهدلناه".
حصلتِ عام 2008 على جائزة الجامعة العربية عن أعمالك عن المرأة، فمتى وكيف بدأ اهتمامك بالمرأة؟
- حدث ذلك بعد انفصالي، أخذت ابني وعمره 7 سنوات وعاش معي عامين، ثم أخذه والده بالمحكمة (وفقًا لقانون الحضانة القديم)، وقد سبَّبَ لي ذلك آلامًا فظيعة لم يكن هناك من طريقة لتجاوزها إلا أن أتعمق في قانون الأحوال الشخصية، وشاركت في عدة مؤتمرات دولية وعربية، وقدمت عدة كتب عن المرأة.
إذن هل أنصَفَتِ التَّشريعات المرأة؟
- باستمرار نطرح رؤًى بديلة، وقد تغير سن الحضانة للأب من 9 إلى 15 سنة؛ إذن حدث تغيير نسبي، لكن ما يزال قانون الأحوال الشخصية يحوي كثيرًا من الثغرات التي لا بد أن يعاد النظر فيها.
قلتِ مرة: "إن أمي كانت ضد زواجي وطلاقي" فما تقصدين؟
على العكس أمي متعلمة جيدًا جدًّا، وحصلت على شهادة "الكفاءة" (تعادل الإعدادية)، وأمى صحفية كانت تكتب باب "الجاسوسة الحسناء" في مجلة "المصور"، عن مشكلات المرأة في الصعيد، وتمضي باسم: بنت الصعيد. وتكتب في مجلة "فصول" خواطر بنت الصعيد.
أخذتِ عن شخصية جَدَّتِك - بالتحديد خالة والدتك - الحنان والصرامة، واخترتِ اسمها "صفصافة" عنوانًا لمذكِّراتِكِ التي صدرت عام 2012 عن هيئة الكتاب، فلماذا؟ (الصفصافة: هي الشجرة وارفة الظلال ودائمة العطاء).
سميت الجزء الأول من مذكراتي "صفصافة"؛ لأن جَدتي هذه السيدة العظيمة أصيبت بالجدري وهي طفلة، وأدَّت ظروفُ عزلة الصعيد في ذلك الوقت إلى أن تفقد بصرها، ولكن ظل بصيص من نور في إحدى العينين، وكانت الأخت الصغرى لجدتي وتسكن في البيت القديم، أمي تسافر كل سنة لكي تلد في القاهرة وتمكث في بيت جدي، وتتركني مع جدتي "صفصافة"، وقد ربتني جدتي إلى أن أتممت سبع سنوات، ثم غادرنا الصعيد إلى بيت خالي في القاهرة بعد انفصال والدي.
اخترت "صفصافة" لأنها أكثر شخصية تستحق اسم مذاكراتي؛ ولذلك أهديت المذكرات إلى: جدتي الكفيفة التي لم يبتسم لها الدهر، ولم يمنحها الزمن ما تستحقه!
العنوان "صفصافة" ينطبق عليكِ.. فما تعليقك؟
جاء غلاف الجزء الثاني من مذكراتي "صفصافة الصعيد" الذي سيصدر الأسبوع القادم عن المكتبة الأكاديمية، ويحمل صورة الشجرة وأهل الصعيد إلى جانب صورتها. وأساسيات الجزء الأول موجودة في الثاني، ولكني أضفت إليه مقالات بعنوان: "المسكوت عنه في الصعيد"، كنت قد نشرتها في مجلة "الدوار". وتجربة الصعيد مهمة جدًّا، فبذرة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية نمت بداخلي بسبب ما رأيته من فوارق اقتصادية بيني وبين صديقاتي من أقاربنا، وعندما سألت جدتي أجابتني برد ديني، فقالت: يا ابنتي {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165].
ولم أجد ردًّا إلا فيما بعد من خلال كتاب فريدريك إنجلز "أصل العائلة"؛ حيث هي وحدة اقتصادية ذات دور اجتماعي، فلم أنتمِ للفكر الاشتراكي من خلال الفكرة بل من خلال المعايشة.