عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

مراجعات

حمدي عابدين

رواية: حفلات زفاف في المنزل

2025.04.26

مصدر الصورة : آخرون

رواية: حفلات زفاف في المنزل

 

في تشيكوسلوفاكيا زمن الحكم الشمولي صار السؤال الأكثر تكرارًا أمام المبدعين -الذي يطرحونه على أنفسهم، ويوجهونه لبعضهم البعض- ينصبُّ بشكل أساسي على المستقبل، والمصير الذي يمكن أن تؤول إليه حياة كل واحد منهم، في ظل القيود على الحريات، والعشوائية في اتخاذ القرار واحتقار الثقافة والإبداع وحصار المبدعين، ومصادرة أعمالهم قبل أن تجد طريقها إلى أيدي قُرَّائها؟ لقد باتت السلطات تُراكم تلك الأعمال في مكان للنفايات، بل قامت بتأسيس شركة عملها الأساسي جمع الكتب والمؤلفات باعتبارها مخلفات، لتذهب -حال رفض السلطات لما فيها من وجهات نظر أو أفكار- إلى غياهب ماكينات تسحقها وتحولها إلى غبار يعاد تدويره في مصانع الأوراق من جديد.

في الجزء الأول من ثلاثية الكاتب التشيكي الأبرز بوهوميل هرابال "مارس 1914- فبراير 1997"، التي صدرت بعناوين: "حفلات زفاف في المنزل" و"حياة جديدة"، و"ثغرات"، التي كتبها لتدور حول محطات سيرته الذاتية، يمكن النظر إلى سؤال المصير الذي جاء على لسان الأم بعد أن حارت في حالات ابنها بوهوميل وعدم استقراره في أيٍّ من أمور حياته: "ما هو مصيرك أيها الولد؟"، باعتباره السؤال المركزي الذي تدور حوله الأحداث، ويشغل بال جميع شخصيات "حفلات زفاف في المنزل". الرواية التي كانت بمثابة عتبة أولى في سيرة حياة هرابال، وصدرت ترجمتها العربية عن دار تنمية من ترجمة الدكتور خالد البلتاجي. تركزت الرواية على التطورات العبثية المتلاحقة التي نالت من حياة الناس، وما جرى من تغيرات على شكل الشوارع والأماكن والمؤسسات والمصانع والمدن والقرى التشيكوسلوفاكية بعد هزيمة ألمانيا وسيطرة حكومة موالية للاتحاد السوڨييتي على مقاليد الحكم في البلاد.

يتتبع هرابال عبر رصد حياة شخصيات روايته: إيليشكا، والدكتور، وليزاي، ووولي، وبيرانوفا، وإيما، وغيرهم، التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمع، وعلى مدى 18 فصلًا لا يحكي هرابال الأحداث، بل يستدعيها على لسان زوجته إيليشكا، يخرجها من خزانة أيامه ويتأمل الآثار التي نجمت عنها، وما تعرضت له كثير من العائلات الثرية من أزمات قلبت أحوالها رأسًا على عقب، وجعلتها تدخل في حالات من التردي المعيشي والفقر والبؤس الذي لا يمكن تفسيره إلا في إطار الكوميديا السوداء.

تصور الرواية نماذج إنسانية مأساوية تبرز منها إيليشكا الشخصية الرئيسية التي نتابع -بعيونها- تطور الأحداث. نتجول بخطواتها في الأماكن المختلفة، وننتقل معها من مدينة إلى أخرى. نتعرف على الشوارع وما طرأ عليها من تغيرات، والأنهار ومحطات القطار وما تركته رحلاتها في عقل الدكتور، عندما كان يعمل موظفًا في السكك الحديدية، من ذكريات وخبرات، فضلًا عن حرصه على التأريخ للمطاعم والمقاهي والفنادق، والبارات وأنواع الخمور.

إيليشكا هي ابنة أحد أثرياء مدينة موراڨيا، وهي واحدة من أهم الأقاليم التشيكية. كانت "بيبسي" وهذا هو اسمها المحبب لديها تسكن قصرًا يتكون من 13 غرفة، يمتلك والدها أموالًا طائلة، تصفه، وهي تتحدث مع عشيقها الدكتور الذي صار زوجها فيما بعد، أنه كان إمبراطورًا للأخشاب في أوروبا، لديه سيارة ستوديبيكر، وسائق يتحرك بها رهن إشارته، وقبو به كل أنواع النبيذ الفرنسي، وصناديق من الويسكي الإسكتلندي والأيرلندي، وغرفة نوم طراز لودفيك الرابع عشر. أما مكتبه فطرازه إنجليزي، ذو حوائط مغطَّاة بستائر، وتتوزع الزَّهريَّات في كل أركانه، واللوحات الهولندية الأصلية.

لكن مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، يختفي كل هذا النعيم، فقد أجبرت السلطات رجال الأعمال وأصحاب المصانع والشركات على التوقيع على إقرارات بالتنازل عن أملاكهم وثرواتهم، ودفعتهم إلى المغادرة، خاصة الذين لا يحملون منهم الجنسية التشيكوسلوفاكية، أما القرار الأكثر إيلامًا فقد كان ترحيلهم دون أن يصطحبوا أبناءهم بزعم أنهم مولودون على الأراضي التشيكية، وأنهم تعلموا في مدارسها، حدث هذا بكامل تفاصيله مع إيليشكا. منعتها السلطات هي وإخوتها من مصاحبة والديها، وفرقتها عن إخوتها، ولم تلتقِ أحدًا منهم، بعد أن مات بعضهم وهرب الآخرون ورحلوا خارج الحدود.

هكذا واجه أبناء تلك البلدان كثيرًا من المآسي عقب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وصعود الاتحاد السوڨييتي، قائدًا لدول ما يسمى بـ"الكتلة الشيوعية". وقد طبقت الدول التي تشكلت منها قوانين جردت الأثرياء من ثرواتهم، وأملاكهم، وبعثرت أفراد تلك العائلات البورجوازية، وأدخلتهم في حالات من الضياع، وهددت مستقبلهم، وجعلتهم بإجراءاتها وقوانينها يعيشون حالة من القهر والعوز والفقر المزمن ليس من أجل جرائم ارتكبوها، لكن فقط، لأنهم كانوا أثرياء وملّاكًا للمصانع والشركات.

تبدأ أحداث الرواية بوصول إيليشكا إلى منزل متهالك في مدينة ليبان لتزور الزوجين ليزاي ووولي اللذين تربطها بهما صلات قديمة تعود إلى أيام طفولتها حين كانا يعيشان في كنف والدها إمبراطور الأخشاب، ذهبت لتطلب مساعدتهما في تأمين مكان معيشة يُسهِّل لها الحصول على وثيقة رسمية تقدمها إلى السلطات، كمحل إقامة يدعم تثبيتها في وظيفتها كمحاسب في فندق باريس الواقع في منطقة قريبة من مدينة ليبان. حين وصلت إلى البيت التقت ببوهوميل الذي يشير إليه جيرانه بكنية "الدكتور"، وهناك، وهي تتجول في المكان، لاستهلاك الوقت، حتى يعود الزوجان اللذان لم يكونا في استقبالها، اكتشفت حالة المكان المتدنية. رسم هرابال صورته على لسانها: بناية متهالكة، كانت في السابق تضم ورشًا صغيرة للحدادة وغيرها من الحرف، حمَّاماتها مشتركة، تفوح منه العفونة، ورائحة النفوس المتْعَبة. وعلى هذا الحال تشابهت أوضاع باقي السكان. جميعهم انقلبت حياتهم رأسًا على عقب، وصاروا يعيشون أيامهم في بؤس، ويتقلبون في ظروف لا إنسانية.

هكذا تتداعى الحكايات على لسان الراوية، من لحظة ظهورها في البيت، الذي يجعله الكاتب التشيكي بوهوميل هرابال مسرحًا للسرد في معظم فصول الرواية، حيث تنطلق منه سير الشخصيات. تحكي عن ماضيها، لأنها لا تجد شيئًا في حاضرها يستحق الذكر.

حكايات مختلفة ومتنوعة تعود إليها شخصيات الرواية لتذكُّرِها ورأب صدع أرواحهم، وهكذا تأتي حكاية إيليشكا وماضيها وذكرياتها التي راحت تقدم بها نفسها وتزجي أوقاتها وهي تنسج بحرص ورَويَّة قصة حبها التي بدأتها مع الدكتور، رأت أنها ستكون بديلًا يعوضها عمَّا مضى من أيامها. راحت تضع قواعدها وتبني أساساتها في رحلاتها التي تقوم بها معه صوب الأنهار من أجل السباحة، وفي القطار وهما يسافران معًا في زيارة لعائلة حبيبها، وفي المطاعم والشوارع، حيث قضت معه كثيرًا من اللحظات الإنسانية التي قربت بينهما، لتنتهي في آخر تطوافها معه بزواج لم يكن يبشر بحدوثه سوى باومان زميلها كبير الطباخين في فندق باريس، قال لها حين شاهد الدكتور وهو ينثر الورد عليها، هذا الرجل سوف يكون قريبًا زوجًا لكِ، وسوف تحتفظين بوظيفتك في الفندق.

 لم يتوقف دور إيليشكا والدكتور، وهما ينسجان قصة حبهما عند حدود التعريف بملامحهما الشخصية والنفسية والاجتماعية، بل جعلتنا تلك الحكايات التي كانت تتواتر في لقاءاتهما نكوِّن انطباعاتنا حول باقي الشخصيات التي كانت تشاركهما الفضاء الروائي، جعلتنا الراوية التي تتحكم في زمام السرد نكون صورة للأماكن وتفاصيلها وجغرافيتها، ونحن نتجول معها ومعهم، تنبسط الحكايات في الفضاء الروائي حسب موجات مشاعرها ومشاعرهم، لتجعلنا نتعاطف معهم، ونسخر منهم، ونغضب عليهم وننفعل ونشم روائحهم أيضًا.

ومع تطور العلاقة بين بطلي الرواية، يتشكل جانب آخر من عناصر الرواية يبدو شديد الصلة بحالة شخصياتها، حيث تنساب حكايات إيليشكا عن الأحوال المتردية التي آلت إليها كثير من الأماكن التي كانت مزدهرة حتى وقت قريب، فما جرى على البشر طال الحجرَ أيضًا، فقد صار مطعم كوخينياكو الذي كان به ثلاث مئة كوة متهالكًا بسرادق موسيقاه، ومقاعده الخشبية البالية، وأصبحت أعمدته المزينة وزخارفها متصدعة. تحكي ابنة إمبراطور الأخشاب عن ڨيلا لوسيني التي كانت ملكًا لوالدها، وتمت مصادرتها، وتحولت إلى حضانة للأطفال، ومصنع خمور عائلة بوهوميل، الذي مُنع الدكتور من الاقتراب منه، ومدير مقلب النفايات، الذي يتجاذب معها أطراف الحديث حين رافقت الدكتور إلى هناك. راح يحكي لها عن ماضيه، وكيف أنهم صادروا بيته، وجعلوه مسؤولًا عنه، وقيمًا عليه. وفي الوقت الذي يمنعونه من العيش فيه، يكلفونه بجمع إيراداته، وإرسالها إلى السلطات، ثم حين يقررون تجديده يحمِّلونه تكلفة الترميمات.

لا تتوقف القصص المثيرة للدهشة عند هذا الحد في مؤسسة المخلفات، بل تزداد غرابتها. يحكي الدكتور، الذي استقر أخيرًا في العمل فيها بعد أن تقلَّب في وظائف عديدة، عن سيدة بائسة زميلة له تعمل في طي الأوراق القديمة. كانت المرأة تعيش في قصر بصحبة زوجها مدير شركة الكابلات في مدينة كلادنوا، فجأة غضبت السلطات على الرجل الذي كان لديه خمسون اختراعًا، وصادروا قصره، وسجنوه، ولم تجد زوجته السيدة مارشينكا من وسيلة لسد حاجاتها ومواجهة أعباء حياتها سوى هذا العمل، والعيش على أمل الإفراج عن زوجها العالم المخترع، الذي لم تتركه السلطات في السجن دون أن تستفيد من عبقريته، حيث أحضرت له مكتبًا، وطاولة ليرسم للحكومة مزيدًا من مخططات تطوير الدولة التي قرر نظامها اعتقاله وحرمانه من الحرية.

جاء المكان في الرواية بوصفه صورة تنعكس عليها الأوضاع المختلفة. جعله هرابال معبرًا عنها، فبدت البناية التي تدور بين جنباتها معظم الأحداث، بعفونتها، وضيق وحداتها السكنية، وبرودة حوائطها، كأنها صورة كاريكاتيرية للنظام ولممارسات السلطة على ضحاياها: الدكتور الذي كانت عائلته تمتلك مصنعًا للخمور، وبيرانوڨا، المرأة ذات العنق السمين، وصفتها إيليشكا بـ"السيدة النظيفة"، وقالت إنها ظلت لعشرين عامًا تعمل نادلة في أحد بارات هامبورج. الآن تغسل الأطباق في مطعم ظلاتا هوسا، وحين تعود إلى البيت تقضي مساءاتها في تنظيف فنائه وأثاث غرفتها، وطاقات الورد الصناعي التي تزين بها المكان. تحب الدكتور وترى أنهما يتشابهان في طباع كثيرة، وتشاركه كثيرًا من المهام المنزلية بما في ذلك عمليات النظافة التي يجب القيام بها فور انتهاء حفلات الزفاف التي يستضيف خلالها أصدقاءه في ساحة المنزل. تفعل ذلك دون أطماع. تعرف أنه كائن خارج السيطرة لذا لم تنشأ لديها أي رغبة في الزواج به. فمنذ طفولته وهو لا يطيق البقاء في البيت، كان يراه جحيمًا، ويظل حسب وصف والدته يتجول منذ الصباح حتى المساء في مدينة كلادنوا، ولا يعود إلى البيت إلَّا للنوم. أمَّا إيليشكا فقد كانت قبل ظهورها في منزل ليبان مخطوبة لموسيقي شاب يدعى يركا، جذبها بمواهبه في العزف على الجيتار، ووجدت فيه تعويضًا لما أصابها من خسائر. اطمأنت إليه تمامًا، وكانت على وشك الزواج به، لكنه مع اقتراب عقد القران أرسلها إلى إيما (أمها الثانية) في براغ، وهرب مع امرأة لعوب تزوجها في ڨيينا، وتركها تتعرض لتوبيخ إيما واتهاماتها لها بأنها امرأة ناكرة للجميل، لا تعترف بجميل استضافتها لها ولا تستجيب لأوامرها وطلباتها.

ومع تتابع فصول الرواية، يسعى هرابال إلى رسم صورة تفصيلية لشخصياتها، ينسج ملامحهم، ويصاحبهم من حال إلى آخر، ويتأمل تطور نظراتهم للحياة، وقدرتهم على تجاوز آلام ما مروا به، وصعوبة الواقع الذي يقاسونه، وذلك في مشاهد عديدة تنتهي في آخر المطاف بإيليشكا، وهي تدعو ضيوف حفل زفافها إلى مشاهدة المكان الذي ستعيش فيه بصحبة الدكتور، حبيبها الذي وقع عقد زواجها فورًا. تقودهم إلى غرفة نومها الصغيرة، والحمام المشترك بينها وبين جيرانها، وتشير سعيدة إلى المدفأة بمدخنتها الواسعة التي كانت حتى وقت قريب ملحقة بورشة حدادة، نسيت بيبسي روائح المنزل وعفونته، وحوائطه "الكريهة" المبللة الباردة، وفناءه الذي كان حين تهب الرياح يصبح مثل قلب دوامة تدور بالرمال والتراب وأوراق الشجر، وحين تهدأ يدرك سكان البيت أن شرفاتهم تطل على صندوق قمامة!

هكذا كانوا يشعرون جميعًا، كلما هبت عاصفة، باستثناء الدكتور الذي ظل يتخذ من الفناء نفسه ساحة يقضي فيها كثيرًا من اللحظات المبهجة بصحبة أصدقائه، وهم يستمتعون بحفلات الزفاف بين جنباته، متجاهلين الواقع المرير الذي يحيط بهم.