ثقافات

ممدوح حبيشي

زكريا الحجاوي وحكاية اليهود

2024.07.27

مصدر الصورة : آخرون

اختطاف خضرة والصراع مع ملك اليهود

 

في عام 1968، بعد أقل من عام على هزيمة يونيو، كان الجميع يشرعون في استيعاب مقدار المأساة ويحاول البعض معالجة جرح الكرامة الغائر. لقد جاءت الهزيمة كإعلان انتهاء مرحلة وسقوط مشروع، ولطمة أيقظت الجميع من خمر الأحلام الكبرى التي تغذيها البيانات الملفقة والمعلومات المضللة وهواجس البارانويا الجماعية. والحقيقة كان البعض يعلم -أو ربما الجميع- أنها مجرد معركة في الحرب وخطوة سيتبعها خطوات أخرى على نهج الصراع الطويل والمرير مع إسرائيل.

في هذا الصدد علم بعض المثقفين الذين طالما آمنوا بالنظام الناصري ووقفوا وراء بنائه الفكري ورددوا وساندوا مقولاته أن عليهم أن يفعلوا شيئًا، كان زكريا الحجاوي واحدًا من هؤلاء، فطن إلى أهمية القيام بشيء يساهم به في هذا الصراع التاريخي، محاولًا نفض عباءة الهزيمة التي تثقل النفس والروح، فقرر أن يعود إلى الأصل ويسبح في التيار الثاني، التيار الأعرض للثقافة المصرية وهو تيار الثقافة الشعبية والفن الشعبي محاولًا رأب الصدع ومداواة الجروح ومعالجة الشقوق والانكسارات التي أثقلت الذات المصرية.

زكريا الحجاوي

لم يكن عالم الثقافة الشعبية غريبًا على الحجاوي أو كان الحجاوي جديدًا عليه، فقد شرع مع تولي فتحي رضوان وزارة الإرشاد، أولى وزارات الثورة عام 1952، في اكتشاف كنوز الفنون الشعبية، متنقلًا بإصرار ودأب بين أنحاء مصر، جامعًا تراثها، مقدمًا بعضًا من فنانيها، مدشنًا أول علاقة رسمية بين القاهرة ومناجم الفن الشعبي المهملة، وأول اهتمام من الدولة بمبدعي الجماعة الشعبية كما يرى الكاتب أسامة الرحيمي، الذي يذكر "كيف تعجب يحيى حقي حينما دخل عليه زكريا الحجاوي مكتبه مُغبَّرا بتراب الترحال وبرفقته حشد من فناني السِّيَر الشعبية، والموال، والغناء، والنقش، والرقص الشعبي، والإنشاد والابتهالات والتواشيح وتبعهم فريق من عازفي الربابة والأرغول والكولا والسلمية والسمسمية والكمان البلدي والإيقاعات".

قدم زكريا الحجاوي ضمن ما قدم راوي السيرة سيد حواس، وفناني الموّال محمد طه وأبو دراع ويوسف شتا والريس متقال، وشوقي القناوى، وجمالات شيحة، وفاطمة سرحان وخضرة محمد خضر.

كما قام في تلك الفترة بإعداد عدد من الأعمال الفنية الشعبية وأعاد تقديمها في وسائل الإعلام الجماهيرية والرسمية فزادت معرفة الناس بها، خاصة غير المطلعين منهم على الفنون الشعبية، مثل: موال أدهم الشرقاوي، سعد اليتيم، أيوب المصري، كيد النسا، وغيرها من الأعمال التي اشتهرت عبر تقديم وإعداد الحجاوي إياها في الإذاعة أو التلفزيون.

وبصرف النظر عن الجدال العميق حول أحقية إعادة التصرف أو إعداد الأعمال الشعبية، التي تحتاج وحدها إلى مقالات ودراسات جادة، وبصرف النظر عن الرأي الذاهب إلى أن هذا النوع من أنواع الإعداد أو التصرف أو الاستلهام أو غيرها من أدوات التصرف الفني مع الفنون الشعبية، هي أدوات مشوهة، تفقِد هذه الإبداعات الشعبية جوهرها وبواعثها، فإن الحقيقة بنظرة بسيطة، هناك كثيرون يرون أن جهود زكريا الحجاوي جهود مخلصة ومفيدة وغير مدعية وكانت تؤمن حقًّا بأهمية تجليات الثقافة الشعبية الفنية عن حق، وليس من باب الاستخدام النفعي السطحي أو المتحفي المعبق بالتعالي النخبوي. 

في عام 1968 إذن أصدر الحجاوي كتابه "حكاية اليهود" أملًا وقتها أن يكون السفر الأول من موسوعة كبيرة وضخمة يتقصى فيها اليهود داخل مجالات الثقافة الشعبية المتنوعة كالعادات والتقاليد والمعتقدات والطقوس، متتبعًا وجودهم في الفنون الشعبية خاصة القولية منها، مثل: المثل الشعبي، الموال، الحكاية، اللغز، الطرفة، وغيرها من أجناس الفنون القولية، وفي الحقيقة لم يستكمل الحجاوي المشروع وأكتفى فقط بهذا الكتاب المغمور ، وربما كان يرجع ذلك إلى الطبعة المحدودة التي صدر فيها عام 1968، ولكن هذا لم يتغير مع إعادة الهيئة العامة لقصور الثقافة إصداره في طبعة أكبر وأوسع انتشارًا عام 1998، الذي لم يعَد نشره من وقتها، وكم نحن في أمسِّ الحاجة إلى إعادة طبعة خاصة في الظروف الحالية، بل وربما آن الأوان لجمع أعمال زكريا الحجاوي وطبعها في طبعة لائقة.

خضرة التي خطفها اليهود

في هذا الكتاب الضخم، جمع الحجاوي نصًّا شعريًّا شعبيًّا -مجهول المؤلف كحال كل النصوص الشعبية- يبدو أنه جمعه من الدلتا، خاصة من الشرقية، لما في النص من احتفال واضح بالشرقية. يحكي حكاية خضرة، هنا لا يختلط عليك الأمر، خضرة هذه ليست خضرة الشريفة أم أبي زيد الهلالي المعروفة، التي يتغنى بحكايتها رواة السيرة الهلالية، بل هي خضرة مختلفة هي ابنة سلطان، وكما يبدو من النص فإنها رمز بسيط لمصر الخضراء، صاغ الفنان الشعبي رمزه في بساطة ونفعية، ذلك أن الفنون الشعبية هي فنون نفعية وتفاعلية ووظيفية من الأساس فلا يحاول الفنان الشعبي الإغراق في الرمز الكثيف أو التعقيد الدلالي رغبة منه وبحثًا عن التميز الجمالي، بمقدار اهتمامه وحرصه علي سهولة التواصل والتفاعل مع المتلقين، ويبدو أن هذا الموال قد تشكَّل إبَّان فترة الصراع مع إسرائيل واتخذ شكله الذي جمعه عليه الحجاوي بعد الهزيمة في 1967، والدليل على ذلك بعض الأبيات التي ترسم حوارًا بين خضرة واليهودي الذي خطفها محاولًا الاعتداء علي شرفها كما سنوضح.

الصراع العربي الإسرائيلي في قلب الجماعة الشعبية، يختلط ببعض المعتقدات الدينية التي تحول الصراع -قليلًا- إلى صراع عقائدي يرتبط بعلامات الساعة وبشروط قيامها، لكن يظل الهم القومي والشعور المستمر بالخطر من قبل العدو الإسرائيلي ملمحًا مهمًّا يجب متابعته في كل أجناس الثقافة الشعبية ومنتجاتها الفنية.

البداية..

تبدأ الحكاية كعادة كثير من الفنون القولية الشعبية بحمد الله ومدح النبي، لكن هذا النص منذ لحظاته الأولى يغني لسيدي أحمد البدوي واختياره ليس عشوائيًّا، فالسيد البدوي داخل الثقافة الشعبية المصرية هو الولي الذي استطاع تحرير الأسرى وجلبهم من بلاد الفرنجة حيثما أُسروا.

الله الله يا سيد وجاب اليسرا 

أول ما أبدى في مدح نبی سید عربی

 الله الله يا سيد تلين له الحجرة

 بعدها مباشرة يمدح الفنان الشعبي في تعبير عن عمق الهوية المصرية والشخصية الثقافية كلًّا من آل بيت النبي والصحابة، فقلب الجماعة الشعبية مفتوح للجميع يتعاطف ويحب آل البيت، يتشيَّع لهم عاطفيًّا وليس عقائديًّا، لكنه أيضًا يُكِن احترامًا وتقديرًا لكل الصحابة وزوجات النبي الكريم.

اِمدح أبو بكر، واجب الشكر نفق ماله الرسول الله

 وامدح عثمان سيدنا أبو عفان حفظ القرآن وكلام الله

 وابن الخطاب عمر المحراب عمران به وبالصحابة العشرة

 وعلى يا بني بالفخر على قطع الحية بسيف القدرة

 وأبعد غمي، وأذكر ربي بقولة لا إله إلا الله

 وأمدح عيشه ويَّا خديجة وأمدح فاطمة بنته الزاهرة

ومن بعد مدحي في نبينا اِسمع يا عاقل ما بيجری

بداية الحكاية بداية معتادة في هذا النوع من المواويل القصصية، تيمة تتكرر: السلطان أو الملك الذي ينتظر وريثًا متأخرًا لحكمه وثروته فيشرع في الدعاء لله أن يهبه ذلك الوريث ولأنه رجل صالح يستجيب الله له هذه المرة يهبه صبية جميلة يسميها خضرة، هذه الفتاة التي سرعان ما تظهر نبوغًا وتفوقًا.

وأبوها من حبه فيها وداها في الكتاب تقرا

 سبع سنين قرت وعادت يا غفلان وحِّد الله

حافظة القرآن على صحة تمام مية وأربعة.. وعشرة

 متعلمة في حفظ.. الماضي لكن المكتوب غصب بیجری

تحفظ القرآن وتتعلم التاريخ، يدرج هنا الفنان الشعبي تعلم التاريخ ومعرفة عبر الماضي وحكمه، جنبًا إلى جنب مع حفظ ودراسة القرآن ربما في اتكاء واضح من الفنان الشعبي على تاريخه الممتد والكبير، الذي يشعره بالاحترام مقابل هزيمة مذلة تجرح كبرياءه في الفترة التي تشكل فيها النص آنذاك.

البنت تكبر ويضع أحد ملوك اليهود عينه عليها، يرغبها وهو يعلم أنه لا يملك أي أمل في التواصل معها أو التودد إليها فيلجأ إلى حل يراه مناسبًا -كما يراه الفنان الشعبي- هو خطف خضرة والاستيلاء عليها في صياغة رمزية بسيطة وواضحة.

یا رفقتی یا یهود بلدى قلبى انشبك حبيت خضره

يا مين يروح ويجيبها لي وأنا أديه مال بالكثره

أنا أعطى له خزينة مال وعينی یاخدها رخره

استطاعت احدى العجائز عبر حيلة ما أن تخدع خضرة وأباها السلطان، وقامت باختطافها بالفعل في غفلة وحسن نية من الجميع، هنا يتبنى الفنان الشعبي رواية رسمية أرجعت الهزيمة وقتها إلى الأخذ على حين غرة وإلى الخيانة والغفلة والانشغال بالمهام الكبرى والمشاريع الضخمة للتنمية.

راحت العجوزه على السلطان لقته جالس مع الوزرا

 قالت له اختم له ع الفرمان تطلع معايا خضره بره

 مقدار ساعه أفرجها على الجناين والبحره

 السلطان مضى على الفرمان ولا يعلمش اللى هايجرى

 رجعت العجوزه على خضره قالت لها ياللا يا خضره

(أبوكي) ختم لي على الفرمان وشافته كل الوزرا

استطاع اليهود خطف خضرة وقاموا بحملها في إحدى سفنهم وأبحرت بها بعيدًا، توغلت في بحار الأسر وكلما ابتعدت عن وطنها ضاقت عليها حلقات الخدعة والمؤامرة الخسيسة.

 زعق النفير لموا الحبال عوم بها في وسط البحره 

ولما خدها وراح لبعيد وسك فيها قيدين حديد

 قيد في الرجل، وقيد في الإيد من خوفه لتنط البحره

 خضره تشاور... للبنات والنخل يبكي.. والنبات 

يا ولاد عمى قولوا لأمى خدوها (اليهود) لبلاد بره

هكذا سلسلت خضرة وسيقت أسيرة داخل ممتلكات اليهود بخدعة أخذتها وأخذت أباها على حين غرة وهم مشغولون في أمور أهم وأكبر، صياغة رمزية أخرى تتعاطف مع الرواية الرسمية كما وضحنا، وصلت خضرة إلى بلاد اليهود أسيرة وحاول الملك اليهودي التودد إلى خضرة لإقناعها بالاستسلام له عبر الترغيب والهدايا ومحاولة إمالة الرأس.

الصراع..

هنا يبدأ النص في الإشراق الحقيقي وفي التعبير عن نفسه بشكل بليغ وشاعري، عبر حوارات خضرة الممتدة مع آسريها من اليهود تستطيع تلمس فلسفة الجماعة الشعبية وصياغاتها لرؤيتها للعالم وللآخر ببساطة ولكن في غاية العمق والعذوبة أيضًا.

جاب الدملج دهبه يوهج في دراع أبيض زي الفضة 

جاب الخلخال بألف ريال وزنه الوزان رجع لورا 

وميتين فستان بحرير ألوان حدا خياطين من الفجرة

 جدا تفصیل مفتوح يشكي ويبوح ويقول لك نوح وزيد حسره 

 ولونها صهيب، كمثل لهيب يشوفها (الملعون) ويقول خمره 

 جاب الشراب زان الكعاب القبقاب فضة بره 

لما جاب الكارم ملو محارم فيش ظالم قد الفجرة

 ولا وجاب الكركي وجلس فوقه وقال هاتوا لي بقى خضره

 وياخد دهب وبإيده ينطر ويقول جبا.. بس ترضى

 وجاب المنكر، وقعد يسكر قدامه جمدانة خمره

وملا الكاس جاى يديها ضربت الكاس خلته عشره

 وقالت له زول يا ملعون حقيقي راجل مجنون 

 دانت أنا ما ابدلش العال بالدون أصل كما الشجرة 

هنا انتقل الملك اليهودي إلى إستراتيجية أخرى وهي الترهيب والوعيد، محاولًا كسر إرادة خضرة، هنا يخوض الفنان الشعبي حربه الخاصة عبر المبالغة في رسم شخصية اليهودي كشخص لا يؤمن بالله ولا تقيده أيٌّ من الأديان أو قيمها السماوية، يشيطن المبدع الشعبي شخصية اليهودي بشكل واضح محاولًا انتزاع الكراهية والازدراء من المتلقين، فإذا تأملت عن كثب كثيرًا من الفنون السردية الشعبية فتستطيع تلمس تلك الإستراتيجية الفنية الأيديولوجية بسهولة وهي محاولة شيطنة العدو من خلال نزع القيم الدينية عنه ونفيها عبر وصف السارد/ الراوي أو عبر الجمل الحوارية على لسانه، فنحن تقريبًا دائمًا أمام آخر كافر سواء كان مجاهرًا بذلك أو مُخفيًا ذلك وراء تقية النفاق، وهنا أيضًا لي أن أشير إلى أن معنى الكفر هنا ليس المعنى الديني أو العقائدي بمعنى إنكار الدين أو جحود الإله بشكل مباشر، ولكن المقصود هو المعنى المتداول حتى في الأمثال الشعبية وهو بالمناسبة فهم عميق يرى الكفر الحقيقي الذي يرمي به الفنان الشعبي عدوه وعدو البطل بعدم خشية الله وعدم الانصياع لقيم الدين ومغزاه الحقيقي وهو خشية الله وكفُّ الأذى عن الآخرين والتمسك بالقيم العليا، وفي الحقيقة هذا أمر سيكون له مجاله القادم للتوضيح. 

وقام عليها يا أهل الجود صلب الشريفة جنب عمـود

 وجاب لها كرباج م السود شبعان من شحم البقرة

وبقي يضربها على الجنبين ويقول لها فين ربك فين

 المال وبس، لا بعده لا دين ولا قبله ولا فيه آخره

 أنا قصدى إنك تتوبي وتدخلي في مالي وتوبي

 أحسن ما اخليكي تلوبى وعينيكي أكحلها بجمرة

 على إيه ملونين الدنيا فقرا وواطيين ودونيا

قال إيه شرف أبيض وأخضر وحتى الكحيلة اسمها حمره

أنا بأقول الرب المال وفى إيدى لا عالى ومتعال

أحيى وأموت كده في الحال والدنيا ملكنا يا خضره

هنا يبدأ رد خضرة الذي اعتبره جوهر ومركز هذا النص الشعري الشعبي والذي لا نبالغ حينما نقول إن العمل الفني كله قد أنشئ وتشكل حول هذه الجمل

أنا بأقول الرب المال وفى إيدي لا عالى ومتعال

أحيى وأموت كده في الحال والدنيا ملكنا يا خضره

 قالت له إخرس يا ملعون يا جاحد إلهك رب الكون

أنا جسمى عندك هنا مسجون وروحي بره طليقه حره

ولي أهل كما الشجره أصول مأصلة مفتخره

هنا يبدأ الفنان الشعبي في استعارة لسان خضرة بطلته ليعبر عمَّا تجيش به نفسه محاولًا تعليم وتثقيف المتلقيين أهل الجماعة الشعبية مذكرًا نفسه وإياهم بمصادر القوة والفخر، المتأصلة كشجرة عتيقة وإذا كانت اللحظة الحالية هي لحظة أسر وهزيمة فهي هزيمة للجسد فقط بينما الروح في الخارج وفي الأعالي حرة لا يمكن سجنها أو تقييدها، فالعمر واحد سينقضي بطريقة ما أو بأخرى لكن شرط هذا الانقضاء هو الشرف.

أهل الغنى بشرف وكمال والسيرة والذكرى عطره

 مالهم سفاين في المعروف واللي بيجي بلادنا يشوف

من غيرنا يغيث الملهوف ولنا وسيرتنا باينه ومنتشرة

شرف رجالنا عالي علو ولا يطولوش أنهــا عــــدو

ولاقيش لغير وطننا علو والعرض أغلى من الجوهرة

والعمر مثل التوب، بيدوب ويكون نضيف على شرط التوب

 والموت علينا أجل مكتوب أموت شريفه لأجل الشجره

أنا مؤمنه بدين الإسلام والظلم فيه للخلق حرام

 ولا فيش حدايا غير ده كلام ولو أموت وأصحا ميت مرة

بالطبع استفز هذا الكلام الملك اليهودي وهددها بالتعذيب والقتل وبدأ فعلًا يعذبها بالحرق والجلد، ولكن ما تعجب منه الملك اليهودي كان ردة فعل خضرة على كل هذا التعذيب والوعيد والتهديد بالقتل حيث رسمت فوق قسمات وجهها ابتسامة عريضة، ألقت بداخل اليهودي الحيرة ولكن خضرة بدأت تلين له وتوشك على الاستسلام لرغبته فيها، لذا بدأ يعد العدة للنيل منها وهنا بدأت حلقات القهر تضيق على عنق خضرة وتنقطع بها السبل، ويكاد اليأس ينال منها، فتلجأ خضرة إلى مناداة السيد أحمد البدوي محرر الأسرى، وهنا ملمح مهم من ملامح الأعمال الفنية الشعبية ، وهي وجود الأولياء ودورهم الفعال داخل الحياة وداخل الدراما أو السرد في تلك الأعمال فهم المزودون بقدرات خارقة ومذخرين بمعرفة لدنيه من عند الله وقادرين علي خرق المكان وطي الزمن وفعل المعجزات بمشيئة الله، هم الذين يتم استدعاؤهم حينما تتوقف وسائل الواقع وأدواته عن العمل وصنع الفارق، يتم اللجوء إليهم حينما يتوقف العدل ويذبل أي أمل حتى في تحققه في المستقبل.

واتضايقت ندهت قالت صابر لامتی یا ساکن طنطا

صابر لامتی یاسید موش طايقه أصبر لبكره

یا تنجدوني يا.. أهلك وأدفن روحي في حـــــفــــــره

حقه إن نسیتنی با سید ها تشمِّتوا فيَّ الكفرة

يارب غيثني، وارحم ضعفي وبرجال الله، الأمرا

وهنا ينخرط النص في ذكر تقريبًا كل أولياء مصر بما يشير إلى الطبيعة الشفاهية للنص وأصله الشفاهي حيث كان يتعمد أن يذكر الفنان الشعبي أولياء كل منطقة من مناطق مصر حسب جغرافية ليلة الأداء حتى دمج كل هؤلاء الأولياء في نص واحد خلال تداوله وتناقله عبر الأجيال:

عم السيد صابه الحال قاله اركب يا عبد العال

یا مشدودى لم الأبطال لم التوابع والفقرا

شرف و م الصعيد الجواني إنده على عز اخوانی

 عبد الرحيم القناوى والفرغلى عمل الحضرة

والحاج حسن الأصواني اللهم أرض عن الأمرا

والمنياوى والطحطاوي والجرجاوی یا رجال الله

ولاد المنيا جم بالعنيه سيدي الفولى عمل الحضرة

هكذا يستمر الفنان الشعبي في رسم خريطة لأولياء مصر تفصيلية ومطولة عبر ستين بيتًا تقريبًا وهو عدد أبيات كبير نسبيًّا من النص وهو تقريبًا ربع النص، في الأخير تجتمع دولة الأولياء لتبين الضحية التي سيقومون بإجارتها وإنقاذها.

المعركة..

واتلمت كل الأوليا تسعين ألف إلا ميه

قالوا له يا سيدي هيا انهى عدوه يجار بكره

قال السيد احنا مسافرين لبنت شريفه في بلاد بره

 قالوا خليك مرتاح یا سید واحنا علينا نجيب خضره

بفضل الله ورسول الله ويسر الإله نفك الأسرا

 قال السيد يا عبد العال طاوعتني وجبت الأبطال

هكذا بدأ الأولياء في تدارس حال خضرة ورسم الخطة لإنقاذها، وربط إنقاذها بجوهر وحقيقة كونهم أولياء لهم كرامات قادرين على فعل المعجزات.

قال له يا شاذلي ماهيش كرامه إلا إن قدرنا نجيب خضره

يا عبد العال يا مشدودی روح قدامی بشَّر خضره

قال له أروح فين عمى يا سيد والطرق كله (يهود) غفرا

 عبد العال قال باسم الله حط وشال على راس خضره

 يلقاها في مقعد عالی توحد حي مالوش تانی

 قال صباح الخير يا نسب غالي يا محروسه باسم الله

قالت صباحين وعمك فين قبل ما يجرى اللي ما يجرى

 قال لها باعتني أبو فراج وانتي على البال وعلى الفكره

في هذه اللحظة يحضر اليهودي فيختفي الولي ولكنه يستشعر وجوده ويبدأ القلق يسيطر عليه، أن هناك مددًا ما قادمًا لإنقاذ خضرة وأنها لم تعد بمفردها، لذا يلجأ اليهودي إلى الرمَّال، ضارب الرمل وقارئ المستقبل عله يشير عليه بما يخبئه له رداء الغد، ترى ماذا سيكون مستقبله مع خضرة والرمل، أحد أهم وسائل النصوص الشعبية لحمل الدراما وتطويرها وجعل الأبطال كما هو الحال في الملاحم يواجهون ذواتهم ويواجهون أقدارهم المحتومة وصراعاتهم مع المستقبل والقادم، يخبره المنجِّم بما لم يكن ينتظره أو لعله كان في قرارة نفسه خائفًا منه:

قال الرمَّال أنا عقلي اندار والفال منشال

 الله الله يا بدوى وجاب اليسرا

أقولك إيه واعيد لك إيه أول خراب بيتك بكره

 ما انتاش نافع (بالمدافع) جالك السيد حامي طنطا

 طنطة مين يا رمَّال الشين قول حد وجاي لنا من مالطه

الرمل ناطق بيقول لي بلدك مليانه من الفقرا

علو الحيطان سدوا البيبان البدوي شيطان يخطف خضره

 قوموا غفروا واتنحرروا ده ملك الموت واقف بره

يستعد الملك اليهودي بالعتاد العسكري ويلجأ إلى الخمارة للتزود بالخمر حتى تهبه القهوة والشجاعة وهي من الصور النمطية التي يرسمها الوعي الشعبي عن اليهود الذين لا يستطيعون الحرب من دون درع أو ما يمنحهم الشجاعة الحقيقية التي لا يتحلون بها، وهو خارج من الخمارة يفاجأ بالسيد البدوي أمامه، يتحداه اليهودي ويطلب منه النزال فيتحداه السيد البدوي إنه لن ينازل اليهودي سوى بجريدة نخل خضراء.

وقال له انعدل لي يا يهودي يا رباية الزور والفشرة

ولم حرايبك وسيوفك ثبت إنهــــــا زيـك عـــــــره

واحمى ضلوعك بدروعك دي زرع مصر جریده خضره

قام اليهودي مد دراعه قال له اضرب على دراعي عشره

قام ضربه السيد في دراعه خلَّا دراعه مایل لورا

صرخ اللعين آه یا دراعي طعناتك يا أقرع لم تبرا

هرب اليهودي من مواجهة السيد البدوي أيضًا في أحد التصورات الشعبية النمطية الأخرى عن اليهود وهي الهرب عند لحظات الخطر الحقيقية، وانطلاقًا من خساسة اليهودي التي يرسمها الفنان الشعبي منذ اللحظات الاولي للنص، يهرب من مبارزة الفرسان ويستعين بالجنود علي السيد البدوي: 

 وطلع هربان دخل الديوان وقال امسكوا ده یا فقرا

آدي (اليهود) جت ع السيد زي الجراد المنتشره 

 خط دلقه على الجريده وقاله يا دلق حاربهم يالله

یا دلق اسوح واطوح ما في يهودي يهرب بره

 والله يا دلق إن غلبوك يوم القيامه أشكيك لله

 الدلق هاج وماج فيهم شوطه ونزلت في الكفرة

هنا بدأ السيد البدوي في رد العدوان فوضع رداءه الصوفي الذي يرتديه الصوفية على عصاه وأمره بالحرب معه، كذلك أمر الرياح وتحكم فيها وطلب منها الحرب معه ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل تضرع أن تمطر السماء حجارة على اليهود: 

یا ریاح شرقی یا ریاح غربی يا حجارة نزلت كالنطره

 لما قامت كل الأرياح اندارت روسهم بالمرة

قال هبليه خرقوا عينيه ما خلونيش انظر خضره

ترك الولي جنوده الخارقة والعجائبية: رداءه الصوفي المعلق علي الجريدة الخضراء التي كان يحملها والريح العاتية والحجارة المنزلة من السماء تحارب اليهود بالنيابة عنه وتوجه هو لإنقاذ خضرة، وحملها معه ليعيدها إلى أبيها.

 ومد إيده الطنطاوى وشال الشريفه المعتبره

 وابوها من يومها ما نامشی ويبص يلقاها خضره

 جابوا الدايات كشفوا عليها الله لقوها بختم الله

 عليك عم يا سيدي تستاهل الراية الحمرا

واستمرار للترميز البسيط والذي يكاد يشف ما وراءه كالأيقونة يؤكد الفنان الشعبي على عذرية خضرة كدلالة على شرفها وتمسكها بشرفها وعدم الاستسلام للترهيب أو الترغيب الذي واجهته أثناء فترة الخطف والأسر.

ها هو السيد البدوي جالب الأسرى، القاطن في قلوب الجماعة الشعبية والساكن في أغانيهم وأهازيجهم "الله الله يا سيد جاب اليسرا" يعود لإنقاذ ضحية أخرى ويحرر أسيرة جديدة، لتنغلق الدائرة السردية ويتضح ما كان أول ما بدأ به الفنان الشعبي حكايته الغنائية وهو التهليل للسيد البدوي قبل كل شيء، فهو البطل الحقيقي والمنقذ الذي ستلجأ إليه الجماعة الشعبية لإنقاذ الموقف وهو كعادته سيكون في الموعد وعند حسن الظن ويفعل ذلك، بينما يغرق العالم الحقيقي والواقعي باجترار أحاديث الهزيمة.