ثقافات
ممدوح حبيشينساء قويات في ألف ليلة وليلة
2024.05.03
مصدر الصورة : Sevada Grigoryan
"شواهي ذات الدواهي" ليست المرأة القوية الوحيدة
حاز مسلسل ألف ليلة وليلة "جودر" الذي عُرض في رمضان المنقضي على إعجاب العديد من المشاهدين، ربما للمستويين الفني والإنتاجي الرفيعين اللذين تحققا فيه، كان البطل المعارض -أو شرير الحكاية الرئيس- الذي يكافئ "جودر" البطل ويحاول إعاقته، هو شخصية نسائية "شواهي ذات الدواهي"، التي أثارت في بعض الأوساط قضية الصورة الذهنية النمطية للمرأة داخل ألف ليلة وليلة كإحدى درر الأدب الشعبي العربي بشكل خاص، بل ربما تمتد الإشكالية لما هو أبعد لتصل إلى وضع المرأة داخل الثقافة الشعبية بشكل عام.
حالة الإعجاب بشخصية "شواهي" التي جسدتها الفنانة نور في مسلسل "جودر"، أعادت إلى الطاولة النقاش حول صورة المرأة في الثقافة الشعبية، فدائمًا ما وُصِمت الثقافة الشعبية بأنها ثقافة تُحقِر المرأة وتتحيز ضدها، وتراها صورة للكيد، وصِنوًا للشيطان، ومنبعًا للخطيئة الأولى، ومصدرًا للشرور.
ربما يكون هذا الكلام صحيحًا في حال النظر للثقافة الشعبية نظرة مُتْحفية وسياحية متعالية، تلك النظرة التي تجد الثقافة الشعبية معطى ثابتًا تعبر عن قطاعات وشرائح ضيقة من البشر، بينما الحقيقة أن الثقافة الشعبية أرحب من ذلك بكثير؛ فهي ثقافة تعبر عن قطاعات عريضة من البشر ممثلًا بها العديد من التصورات والمعتقدات والمعارف والعادات، بل حتى الثقافات الفرعية المتدافعة. هي ثقافة ديناميكية وليست ثقافة ثابتة لا تتحرك ولا تتبدل، مثلها مثل أي ثقافة بها ما يُعتبر خيرًا وبها الشر، تُعلي من قيمٍ أحيانًا ومن قيم أخرى مناقضة أحايين أخرى. إذا ابتعدنا عن إضفاء الطابع الملائكي عليها ورسمها كملجأ آمن من تحديات العصر والانحسار الحضاري وماضٍ نوستالجي تهفو له نفوسنا المرهقة من إكراهات الحاضر، ورعبنا من صورة ضبابية للمستقبل، في نفس الوقت توقفنا عن شيطنتها وتصويرها على أنها العدو البدائي الخرافي الذي يشدنا نحو الماضي ويُكبلنا بغلال التخلف، إذا توقفنا عن كلا الأمرين استطعنا أن نرى الثقافة الشعبية لمصر ولأي دولة بوصفها تمثيلًا رمزيًّا لعالم كبير واسع، أكبر من حكم قيمة ثابت سلبًا أو إيجابًا، أو وسمًا نلقيه إلكترونيًّا وننتظر أن يصبح ترندًا يتقاذفه الناس فيما بينهم.
هل تُعادي الثقافة الشعبية المرأة؟
لهذا كله فإن الحكم بأن الأدب الشعبي أو الثقافة الشعبية تُعادي المرأة وتحقرها هو تعميم غير دقيق، وإذا قلنا: إنها مُحتفية بها وممكِّنة لها، فسيكون هذا من حسن ظننا ورغباتنا الجيدة، وتشخيص حالم لوضعها.
عند تتبع الدراسات والمقالات والأبحاث التي تبحث في الصورة السلبية للمرأة، أو تتحرى العنف ضدها والتحقير منها داخل خطاب ذكوري عنيف ولو رمزيًّا على الأقل، سنراها تجعل من ألف ليلة وليلة حقلًا لها، ستجد أعمالًا عديدة عربيًّا وغربيًّا تنطبق عليها تلك الفكرة، وهي بالمناسبة لا تفتري أو تدلس، لكنها تتبنى مجموعة من النصوص دون نصوص أخرى، ومجموعة من التوجهات والسياسات تجاه المرأة ممثلة داخل ألف ليلة وليلة بشكل خاص، والأدب الشعبي بشكل عام، لكن في نفس الوقت وعبر نصوص أخرى في نفس كتاب ألف ليلة وليلة تستطيع إمساك سياسات أخرى تجاه المرأة، تنتصر لها وتمكنها وتمثلها كبطلة تنتصر على الرجال، تسخر منهم، وتفكك سلطتهم وقوتهم المتوهمة، وسوف نذكر بعضهن في السطور القادمة.
شواهي ألف ليلة وليلة غير شواهي في المسلسل:
قد تُصدم إذا عرفت أن "شواهي ذات الدواهي" التي طاردت "جودر" البطل داخل المسلسل المصري المعروض في رمضان الماضي، لم تكن موجودة في الحكاية الأصلية لـ"جودر" الموجودة داخل دفتي كتاب ألف ليلة وليلة، ولكن "شواهي" داخل الحكايات الأصلية جاءت بطلة لحكاية أخرى هي حكاية (الملك عمر النعمان وأولاده)، تلك الحكاية التي احتلت حيِّزًا كبيرًا من هذه الليالي.
"شواهي" هي إحدى النساء القويات والماكرات والحكيمات، ورغم أنها العدو والشخصية الشريرة في الحكاية، فإنها شخصية لا تملك حيالها سوى الإعجاب بها واحترامها، حيث يراها الباحث طه الهباهبة في كتابه "العجوز في ألف ليلة وليلة" قد "احتلت المكانة الأولى في حكاية (النعمان وأولاده)، والتي استمرت بسببها وسبب حيلها وخططها ومكرها ما يربو على خُمس الليالي كلها، كما نستشف من هذا الأمر أنّ العجوز استخدمت مكرها.. من أجل مكاسب سياسية وطنية، ولغاية تثبيت عرش ابنها، وهزيمة أعدائه، ولهذا فقد تفوق دورها على دور بعض الأمهات في بلاط الخلفاء العباسيين، اللواتي كنَّ يحاولنَ تثبيت أبنائهنَّ أو أشقائهنَّ على العرش ولو على جثث الآخرين".
"شواهي" حكاية الملك عمر النعمان كانت كاهنة من الكهان، تتقن السحر والبهتان، ماكرة، وفاجرة، وغادرة، قرأت كتب الإسلام، وسافرت إلى الأماكن المقدسة الإسلامية، كما أنها مكثت في بيت المقدس كذلك فترة من الزمن؛ لتطلع على الأديان وتعرف دقائقها.
وقد قدمها السرد قوية الشخصية، تتميز بالجلد والقدرة على تحمّل المشاق والأسفار، والصبر والأناة، وقوة الملاحظة والمتابعة والتحكم في إظهار مشاعرها، إلى جانب أنها تدرس أعداءها دراسة عميقة ومتأنية متحرية مواطن القوة والضعف في شخصياتهم.
تبدأ حكاية "شواهي ذات الدواهي" بمدينة دمشق في زمن خلافة (عبد الملك بن مروان)، وكان يتولَّى حكم دمشق ملك يقال له: (عمر النعمان) وكان من الجبابرة، قهر الملوك والأكاسرة والقياصرة، وبموت أبريزة زوجة الملك النعمان (ابنة الملك حردوب) في ظروف غامضة، يقرِّر والدها الانتقام من النعمان، إلا أنَّ والدته العجوز "شواهي" تأخذ على عاتقها قضيّة الانتقام دون خسائر تُذكَر، ويوافق الابن على ذلك، وهنا تبدأ شخصيَّة العجوز بكلِّ ما فيها من مكر ودهاء وخبث؛ حيث قالت لابنها: لا تحزن، فوالله لا أرجع عن الملك النعمان حتَّى أقتله وأقتل أولاده، ولأعملنَّ عملًا تعجز عنه الدهاة، ويتحدَّث عنه المتحدّثون في جميع الأقطار.
قبلت العجوز التحدي، وحددت أهدافها بدقّة ووضوح (قتل النعمان وأولاده)، فقامت بتجنيد مجموعة من حكماء الزمان، وخرجت العجوز ومعها عظماء القادة وعساكرهم بعد أن ألبستهم زي التجار المسلمين، ومعها كتاب من الملك (أفريدون) يثبت أنَّهم تجار من بلاد الشام، طالبًا عدم التعرُّض لهم؛ لأنَّ التجار هم عمار البلاد، وليسوا من أهل الحرب والفساد، ولبست هي ثيابًا من الصوف الأبيض الناعم وحكَّت جبينها حتى صار وسيمًا، ودهنته بدهان دبرته حتى صار لها ضوء عظيم، وأمرت من معها أن يضربوها ضربًا مبرحًا حتَّى أدمت القيود ساقيها، ثم طلبت أن يضعوها في صندوق ويوضع مع جملة الأموال على البغال، وهكذا دخلت بلاد الملك النعمان، كزاهدة منبوذة من أهل الكفر والطغيان.
وبدأت العجوز في تنفيذ خُطَّتها لقتل الملك النعمان وأولاده وهي مراقبة تمامًا، ومحروسة طوال الوقت من قادة الروم الذين كانوا يراقبون تحركاتها ويحرسونها بكلِّ دقة، وبذلك تمكنت من قتل النعمان بواسطة السمِّ البطيء، كما قتلت أولاده غدرًا وغيلة، وظلت تعيث فسادًا في الأرض.
وفي نهاية الحكاية ينتصر العرب على الروم، ويُلقون القبض على تلك العجوز "شواهي ذات الدواهي"، ويقودونها الى الساحة العامة ذليلة وعلى رأسها طرطور أحمر مكلل بروث الحمير، وأمامها منادٍ ينادي: هذا جزاء من يتجرأ على الملوك وعلى أولاد الملوك. ثم تمَّ صلبها على باب بغداد.
أخيرًا: علينا ملاحظة رسم شخصية "ذات الدواهي" عبر الحكاية كما يحددها طه الهباهبة في كتابه المذكور سلفًا بأنها "ليست ذكية مخادعة منتقمة فحسب، بل إنَّها تتميَّز بقدرة عسكرية فريدة، ولعلَّها فاقت بعض قادة الملك النعمان ورجال حكمه، كما كانت متفوِّقة ميدانيًّا بالخطط والتوجيهات والتعبئة العسكرية، مع سرعة الانتقال والحركة، والحصول على المعلومات الأمنية، وتمريرها إلى قيادتها في القسطنطينية.. إنَّ (العجوز) نموذج من النماذج النسائيّة المحاربة، مثل: (فاطمة بنت القاضي نور الدين)، و(فاطمة الأميرة ذات الهمة)، و(فاطمة الأقواسية)، و(السيدة حسنة الدمشقية)، و(فاطمة أم علي الزيبق) وغيرهنَّ من هذه النماذج النسائية المحاربة التي زخرت بها كتب السير الشعبية والحكايات".
تودد الجارية.. البطلة العالمة:
إذا تركنا البطلة العدو (شريرة الحكاية) ملتفتين لبطلة أخرى لا تقل حكايتها أهمية أو شهرة، لدرجة أنها قد طُبعت في طبعات شعبية منفصلة، بل قد استلهمت في العديد من الأعمال الفنية هي حكاية "تودد الجارية"؛ حيث تحكي حكاية تودد عن شاب ورث أموالًا طائلة عن أبيه، فيذرها في مصاحبة أصدقاء السوء، ولم يبقَ لديه غير جارية اسمها تودد، فنصحته الجارية أن يبيعها الى الخليفة هارون الرشيد بعشرة آلاف دينار، بشرط أن يقوم الخليفة بامتحانها قبل إتمام البيع، عبر مناظرة كبار العلماء والعارفين في هذا الوقت الموجودين في بلاط سلطان المسلمين، وتَعرِض الحكاية تفاصيل هذه المناظرة والتحدي العلمي، حيث تبدأ تودد تحديها للعلماء.
تأتي المرحلة الأولى بتحدِّي الفقيه وعالم الدين الذي يتقدم ليختبر تودد، فيلقي عليها عددًا من الأسئلة حول الإسلام؛ أركانه وفرائضه وسننه، وتحسن الفتاة الإجابة عن كل تلك الأسئلة، فيعترف الفقيه بتفوقها في الرد، حينها تشرع تودد في سؤاله هو، فتلقي عليه ثلاثة أسئلة عن سهام الدين، وعن الإسلام وفروعه، مشترطة عليه أنه إذا أخفق فعليه أن يتجرد من ثيابه وطيلسانه في إشارة واضحة ساخرة، يستطيع الفقيه الرد عن السؤالين الأولين، أما الثالث فيقف أمامه عاجزًا، فتجيبه هي، فيضطر لخلع ثيابه بعدها.
ثم يأتي الأستاذ المقرئ العالم بالقرآن والنحو واللغة، فيوجه إليها أسئلة عن بعض آيات القرآن وقراءاته، والصحابة الذين جمعوا القرآن، وأسباب نزول بعض الآيات، ثم تسأله الفتاة بدورها أسئلة هي أقرب إلى الأحاجي، فيعجز المقرئ عن الإجابة، فتطالبه هو الآخر بخلع ثيابه.
بعدها تواجه تودد تحدِّيًا في فرع آخر من فروع علوم عصرها وهو الطب، حيث يشرع الطبيب في تحدي الجارية ملقيًا عليها أسئلة تتحرى علم التشريح، وحول أعراض المرض والأدوية، وأشياء متعلقة بالحفاظ على الصحة وعن الأغذية، فتجيب تودد عن الأسئلة، وتنجح مجددًا في إعجاز الطبيب حينما اختبرته كما فعلت مع الفقهاء وعلماء الدين.
بعدها يأتي دور المنجم الذي لم يكن أسعد حظًّا من الفقهاء أو الطبيب، وبعدها تحاجج وتتحدى أحد الفلاسفة وتنال منه، ويتقدم الممتحن الخامس وهو المنجم الحاسب الكاتب، فيطرح على تودد أسئلة في الفلك، ولكننا لا نرى بين تلك الأسئلة والفلسفة أدنى علاقة، وإنما هي ألغاز وأحاجٍ مما يُقصَد به الإغراب، ولكن توددًا تفلح في الإجابة عن كل تلك الأسئلة حتى تضطر الفيلسوف إلى خلع ثيابه والخروج، هكذا أظهرت تودد براعة فائقة في علوم النحو والشعر، والفقه والتفسير واللغة، والموسيقى والفلك، والفرائض والحساب وأساطير الأولين، وإعراب القرآن والقراءات السبع، والمساحة والرياضة، والهندسة والفلسفة، والحكمة والمنطق، فيقرر هارون الرشيد تحدِّيَها بالشيخ (النَّظَّام) شيخ المعتزلة الذي ما لبثت أن غلبته هو الآخر، فتنطلق تودد في إعلان انتصارها بشكل واضح حينما تردد متسائلة وهي مخمورة بزهو الانتصار: "أيكم المتكلم في كل فن وعلم؟".
بعد نجاحها في هذا الاختبار العلمي، يقرر الخليفة اختبار معرفتها بالألعاب والفنون، فيستدعي الخليفة الشطرنج والنرد ومعلميهما، فتغلب تودد الجميع، ثم يسألها الخليفة إن كانت تعرف شيئًا من آلات الضرب. فتستدعي عودًا وتضرب عليه اثني عشر نغمًا، وتغني بأبيات من الشعر، فيموج المجلس من الطرب، فيقرر الخليفة إنهاء مجلس الامتحان بقوله: "بارك الله فيك ورحم من علمك!".
ويأمر الخليفة لصاحب الجارية بمئة ألف دينار، ويطلب منها أن تتمنى عليه، فتقول: إنها تريد أن يردها لسيدها، ويستجيب لها الخليفة فيردها عليه ويعطيها خمسة آلاف دينار ويجعل صاحبها نديمًا له مطلقًا، ويرتِّب له في كل شهر ألف دينار.
وهذه الحكاية واضح فيها الانتصار للمرأة التي تستطيع بمعرفتها الموسوعية، وإحاطتها بعلوم عصرها، هزيمة علماء السلطان الذين يفترض بهم تمثيل أعلى وأرقى درجات المعرفة والعلم آنذاك في تركيب متميز يدركه الدكتور "محمود علي مكي"، حينما يورد في مقاله -الذي جاء ضمن العدد الخاص حول ألف ليلة وليلة من مجلة فصول- حيث لاحظ "أن لهذه الحكاية دلالةً تميزها لا عن سائر حكايات مجموعة ألف ليلة فحسبُ، بل عن الحكايات الشائعة في عالم ما يُعرَف باسم العصور الوسطى في الأدب العربي أو الآداب الأوربية على السواء؛ فالحكاية تقدم لنا صورة تبهر النظر للمرأة المثقفة العالمة، التي تعرف كيف تتفوق على الرجال، هذا بالإضافة إلى ما تتسم به من الجمال المادي والجمال المعنوي؛ فهي مخلصة لمولاها، حتى إنها تؤثر العودة إليه على أن تكون مَحظيَّة للخليفة نفسه".
فاطمة.. الأمومة صنو البطولة والفروسية:
تُعتبَر حكاية "علي الزيبق" من حكايات ألف ليلة وليلة، إلا أنها ما تلبث أن تصير سيرة شعبية مستقلة، وخلالها نجد نموذجًا أنثويًّا بطوليًّا آخر هو فاطمة والدة البطل "علي الزيبق" كبير شطار مصر، الذين تمردوا على السلطة السياسية الحاكمة والمتحالفة مع الطبقة البرجوازية وكبار الملاك والتجار آنذاك في عصور المماليك المتأخرة، لا بد هنا أن نعرف أن المؤرخين والمنظرين وقفوا أمام حركات الشطار والعُيَّاق موقفين متناقضين: كل جانب من هذين الجانبين تخندق في موضعه مدافعًا عن مجموعة القيم والمصالح التي يمثلها ويدافع عنها، فحينما رأى البعض هؤلاء الشطار "سفلة"، وكانت انتفاضاتهم "انتفاضات غوغائية" يقودها السفلة ضد الأرستقراطية والشرعية، كانت رؤية الوجدان الشعبي شيئًا آخر، يختلف تمامًا عن التاريخ الرسمي، فرأى في حركاتهم حركة ثورية شعبية بمعنى الكلمة، وتحول فيها "الزيبق" لروبن هود، أو اللص الشريف، أو الفارس النبيل، فهو من العامة، يولد بينهم، ويتبنى القضايا والهموم اليومية في معترك الطغاة واللصوص، وهو ليس من أصل ملكي أو فارسي، وإنما أبوه "حسن رأس الغول" من أصل عربي، وأمه "فاطمة الزهراء الفيوميَّة" من أصل مصري، هو إنسان عادي يستخدم ذكاءه و قوته وحيلته، وشعاره: "ما أخذ بالسرقة لا يُسترد إلا بالسرقة".
ولم يكن الزيبق ليدشَّن بطلًا ويصير رمزًا للأمة كلها، حتى تختار الجماعة الشعبية أن تخلق وتفسح لأمه دورًا مهمًّا ومحوريًّا في ذلك. فأمه فاطمة الزهراء ابنة قاضي الفيوم القاضي نور الدين، التي أضفى عليها راوي السيرة صفات الأبطال، وجعلها أمًّا منقذة حامية لابنها، لم يفصل ملامح أمومتها عن مكونات الفروسية والبطولة حتى بالمعنى المعتمد والسائد للرجال آنذاك؛ فهي أشجع الفرسان في زمنها، وبفضل سيفها تحسم دائمًا المعارك العسكرية الكُبرى، وليس ابنها هو الذي ينفرد ببطولة المقاومة بالحيلة، ولكنها تقف وراءه دائمًا وتسانده بسيفها كلما لزم الأمر.
نحن أمام واحد من أهم العناصر التي تميز قصة على الزيبق، وهو علاقته بأمه التي رُسِمت كأنها إعادة تمثيل لأسطورة إيزيس المصرية. تميزت فاطمة بالحساسية والجمال، لُقِّبت بـ«أنثى الأسد»، تخاف على ابنها لكنها لا تقف عائقًا بينه وبين حقه، والاعتراض على الظالمين، وإذا اشتد الكرب، ونفدت حيل الزيبق وشارف على الموت، تظهر له لتنقذه بشجاعة واستبسال، فإذا غرر به أحد وأرسله إلى الصحراء ليموت من الجوع والعطش، جاءت إليه وأطعمته من جوع، وسقته من عطش، وإذا التف حول رقبته حبل المشنقة، جاءت إليه لتنقذه بشجاعة ألف فارس، وإذا فشل في حبه واكتشف غدر حبيبته، ضمته إلى صدرها الدافئ لتعوضه عن حنانه المفتقد، فهذه هي الأم التي تتصدر مشهد البطولة دائمًا.
"فاطمة الفيومية" التي حينما تخفَّت في زي الرجال قدرت على ما يقدرون عليه، بل تفوقت عليهم ولم يفرقها أحد عنهم؛ فها هي تغلب أحد الأبطال "محمد بن البنان" وتقتله دون قصد منها، لقد كانت تحاول إثبات قدرتها كامرأة، وأنها لا تفرق عن الرجال، ونجحت في ذلك، حتى إن البنان أعجبته بطولتها وقدراتها فأورثها أمواله، وأوصاها أن تتخفى في زيه حتى تبقى سيرته في مصر، وبالفعل أصبحت تتنقل في زيه وتحارب الرجال، وهي من علمت ابنها "علي الزيبق" فنون القتال، وأفهمته أنها "محمد بن البنان"، وظلت تساعده في انتقامه من "المقدم الكلبي"، واستطاعت فاطمة إنقاذ علي أكثر من مرة، فتارة تلبس ثياب امرأة عجوز، وأخرى ثوب أجير، وأخرى تبدو سيدة عربية، وتنقذه مرة من السم، وكل مرة تنقذه من يد الكلبي.
هي كما يرى محمد رجب النجار في كتابه "حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي" إثبات يوضح إلى أي مدى أن البطولة لا تقتصر على الرجال فقط؛ فهي فارسة شجاعة، وتنقذ ابنها من الكثير من المتاعب والحيل التي كثيرًا ما تفوقت عليه فيها.
نساء قويات بكل ما يملكن:
تبدو النماذج السابقة صورًا معروفة للعقل الجمعي، والوعي الشعبي، وتكاد الغالبية تعرف كل شخصية. لكن يظن بعض المتحدثين عن الثقافة الشعبية أن النموذج الذي يعرفه هو النموذج الوحيد، وأن التواجد القوي للنساء القويات داخل هذه الثقافة محدود واستثنائي، تلك النظرة التي سرعان ما ينكشف عدم دقتها أو صحتها. فالباحث في الثقافة الشعبية، وألف ليلة وليلة على الأخص، سيجد العديد من النماذج النسائية القوية، اللواتي استخدمن كل مصدر للقوة، سواء جاء ذلك في شخصية تظهر في جانب الخير، أو أخرى تظهر كشخصية شريرة، والمؤكد أن المرأة في الجماعة الشعبية لم تتوانَ عن إظهار قوتها، فتعددت النماذج وتفرقت في الحكايات.