دراسات
د. كمال مغيثطه حسين والأزهر من العشق إلى القطيعة
2024.02.12
مصدر الصورة : ويكيبديا
طه حسين والأزهر من العشق إلى القطيعة
تمهيد:
الأزهر بناه الفاطميون؛ ليكون جامعهم بمدينة القاهرة، عاصمتهم التي شرعوا في بنائها بمجرد أن فتح الله عليهم مصر، وشهد الخليفة المعز لدين الله أول خطبة له فيه في الجمعة الأولى من شهر رمضان سنة 972م، وأصبح الجامع بعدها مركزًا لنشر الفقه الشيعي، وشهود المناظرات بين علماء السنة وعلماء الشيعة. وظل الأزهر جامع القاهرة حتى خطب فيه صلاح الدين للخليفة العباسي "المستضيء بأمر الله" سنة 1171م، إيذانًا بإسقاطه للخلافة الفاطمية، وفي سعي صلاح الدين لإبطال مذهب الفاطميين والقضاء على رموزهم وصورهم، فإنه قد أغلق الجامع الأزهر وتحول بالخطبة لجامع الحاكم بأمر الله، وسقطت الدولة الأيوبية سنة 1250 بتولي "شجر الدر" الحكم وقيام دولة المماليك، وفي سنة 1266 ورغبة من السلطان الظاهر بيبرس البندقداري (1260-1277) لإضفاء الشرعية على حكم المماليك؛ فإنه قد أعاد في مصر الخلافة العباسية بعد أن أسقطها هولاكو والمغول 1258، وأعاد الجمعة إلى الأزهر. وعلى الرغم من أن بيبرس والعديد غيره من سلاطين المماليك قد بنوا مساجد عظيمة تفخر بها القاهرة، فإنهم قد حفظوا للأزهر مكانته المركزية، ووسعوا في بنائه وأقاموا داخله ثلاث مدارس جديدة (الطيبرسية، والأقبغاوية، والجوهرية) وقام بالتدريس في الأزهر عبد الرحمن بن خلدون (1332- 1406)، وابن حجر العسقلاني (1372- 1449)، وكان السلطان قايتباي (1467- 1496) أول من نظم فيه الأروقة لإقامة طلاب العلم - الذين أطلق عليهم الناس "المجاورين" - من الأجانب وبدأ برواقَيِ الأتراك والشوام، وفي نهاية زمن المماليك مطلع القرن السادس عشر كان عدد هؤلاء المجاورين يزيد عن ألف مجاور.
وفي زمن العثمانيين زادت مكانة الأزهر وارتفع شأنه؛ فالدولة العثمانية التي تحكم إمبراطورية شاسعة أغلبها من بلاد الإسلام، أصبح الأزهر هو الجامع المركزي في تلك الإمبراطورية بعد تدهور مكانة جوامع سلاطين المماليك، وشجعت فكرة انضواء معظم بلاد المسلمين تحت نظام سياسي عثماني واحد رحيل طلاب العلم من شتى بقاع العالم الإسلامي لتلقي العلم في الأزهر، ويمكننا القول بأن الأزهر مثَّل في زمن العثمانيين كوزموبوليتانية إسلامية فريدة، ولم يكن على طالب العلم الذي يريد التعلم في الأزهر سوى أن يحمل "صُرَّة" ملابسة ويأخذ طريقه قاصدًا الأزهر؛ ليجد المأوى والطعام "الجراية" التي كانت تتسع وتثري أحيانًا فتشمل: الخبز والمرق واللحم وبعض الدنانير والكسوة، أو تضيق أحيانًا أخرى فلا تزيد على رغيفين "حاف" في اليوم، ولتنظيم شؤون الأزهر طلابه وشيوخه وأوقافه وحلقات العلم فيه أنشأ العثمانيون منصب شيخ الأزهر، وتولاه "الشيخ الخرشي" سنة 1679.
وقد وصل عدد أروقة الأزهر في أوجها إلى خمسين رواقًا، يسكنها نحو ثلاثة آلاف طالب، ثلثهم من الأجانب، في أروقة: الجاوة والهنادوة والأفغانية والأتراك والحرمين والجبرت والمغاربة والسودان والتكارنة والشوام والبوسنة، وبقيتهم من المصريين .
وكانت حرية الطلاب مطلقة في تعليم الأزهر، فعلى الطالب أن يعرف أسماء الشيوخ المعلمين أصحاب الأعمدة، والعلوم التي يدرسونها والكتب التي يقرؤونها، وموعد حلقاتهم، ويختار حرًّا من كل هذا ما يريد، ويختار بعد كل هذا الموعد الذي يطلب إلى الشيخ إجازته فيه، وكانت بعض حلقات هؤلاء الشيوخ عظيمة هائلة يتزاحم فيها الطلاب والناس من خارج الأزهر، إذا كان الشيخ ظريفًا لبقًا حلو الحديث يتخلل قراءتَه الطُّرَفُ وأبيات الشعر والحكم، بينما كان بعضهم يجلس إلى عموده طيلة النهار فلا يظفر بطالب واحد.
وكان الطالب يحصل على الشهادة التي كانت تسمى وقتها: "الإجازة، سواء بالإفتاء على مذهب من المذاهب، أو بتدريس علم من العلوم الدينية أو العربية، فيضرب له الشيخ موعدًا منفردًا أو بصحبة بعض الشيوخ أو في مقدمة حلقة درسه، ويروح الشيخ يسأل الطالب في دقائق العلم، وتفاصيله وألغازه، ويختلق له بعض المشكلات اللغوية أو الفقهية ويطلب منه حلها في وقت يطول أو يقصر، أو يطلب استكماله في جلسة ثانية، وقد لا يقتنع الأستاذ الشيخ بجدارة تلميذه بنيل الإجازة ويطلب إليه الاستمرار في حضور الدروس سنة جديدة، وقد تفاوت الأساتذة في درجة تسامحهم في منح الإجازات تفاوتًا كبيرًا، فمنهم - كما يقول المؤرخون – من لم يُجِز في حياته التدريسية كلها عددًا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من طلابه، وكان يمر العام والأعوام وهو لم يُجِز طالب علم واحدًا، ومنهم من كان سهلًا حتى يعلن إجازته جميع طلاب حلقته بلا سؤال ولا مراجعة، ثم يتزاحم الطلبة عليه بعد ذلك للحصول على الشهادات التي تحمل أسماءهم وإجازاتهم.
العشق والحلم:
عندما وُلِد طه حسين علي سلامة في 14 نوفمبر سنة 1889، كان الإنجليز قد قضوا في مصر بعد احتلالها سبع سنوات قضوا فيها على منافذ التعليم الحكومي المجاني أمام الفقراء، وأصبح التعليم كله بالمصروفات. كما قضوا على إمكانية عمل مشروع قومي لنشر التعليم كما شهدت أواخر عصر إسماعيل؛ ولذلك لم يعد أمام الفقراء إلا الكتاتيب لحفظ القرآن وتعلم مبادئ اللغة والحساب، ثم الأزهر لمن يود مواصلة تعليمه. وكان طه حسين واحدًا من هؤلاء الذي كان أبوه يحدثه: هل أعيش حتى أراك شيخ عمود في الأزهر؟ وكان قد سبقه إليه أخ أكبر من إخوته كانت القرية كلها تنتظر مقدمه في إجازة الصيف ويفاخر به أبوه، وينوب عن شيخ الطريقة الصوفية فيركب فرسًا أبيضَ يطوف بالبلدة في موكب هائل وحوله البيارق والطبول وحاملو البخور، كل هذا صار مثلًا أعلى عند الصبي، كما كان في نفس الوقت يخشى من تهديد أبيه بأن يبقيه في القرية يقرأ القرآن في المقابر والبيوت إذا قصر في حفظ القرآن.
وبعد أن أتم حفظه كان يحدث نفسه: "أنه لا ينبغي أن يثق في وعود الرجال" قاصدًا أبيه؛ إذ انتهت الإجازة ولم يصحب أخاه إلى الأزهر، حتى زف أبوه إليه بشرى سفره إلى الأزهر بعد أن فصَّلَ له "جبة وكاكولة"، وهكذا شعر الفتى بأن آماله قد تحققت، وأن الدنيا قد دانت له، والقطار يحمله إلى القاهرة في خريف سنة 1902، وفي الغرفة التي تضمه مع أخيه وُضع طه حسين في ركن منها كما يوضع الشيء - على حد تعبيره - على حصير وُضِع عليه بساط قديم، وقلبه معلق بالأزهر أسبوعًا أو أسابيع، حتى دعاه أخوه ذات صباح لمصاحبته لدخول الأزهر، فيقول: خلع نعليه وخالف بينهما، وخطا الهوينا على تلك الحصر البالية المبسوطة التي تنفرج عما تحتها من الأرض كأنها تتيح لأقدام الساعين عليها أن تنال "البركة" بلمس هذه الأرض المطهرة، وراح الفتى يحضر حلقات الشيوخ في الأزهر فيرضى حينًا ويسخط أحيانًا، يرضى إذا كان الشيخ لطيفًا عميقًا واسع الصدر طويل البال، يسمح لطلابه بالتساؤل والتعبير والاختلاف، ويسخط إذا لم يكن يفعل الشيخ الأستاذ شيئًا سوى قراءة كتابه المقرر. وكان القَبول في الأزهر بلا أي مصروفات، وإنما يُشترَط الذكورة والبلوغ وحفظ القرآن الكريم، وترَكَ يومُ امتحانه في حفظ القرآن في نفسه جرحًا غائرًا، فبينما ينتظر دوره سمع هذا الصوت الغليظ لشيخ من لجنة الامتحان ينادي: "أقبِلْ يا أعمى"! وكان هذا الوصف أشد ما يكرهه الصبي، فتجهم وغضب حتى أخذ أخوه بيده ليضعه أمام اللجنة ليفاجأ بامتحان تافه يسير يُكتفَى فيه بترديد الآيتين الأوليين من سورة الكهف وسورة العنكبوت، وأعاد الصوت الكريه الكرة وهو يقول للصبي: "اذهب يا أعمى! فتح الله عليك". ومع هذا واظب الصبي على حضور ما يحب من الدروس، وكانت المواد التي تدرس بالأزهر أربع مواد أساسية؛ هي: الفقه والتوحيد والمنطق والنحو، كان لا بد للطلاب جميعًا من الحضور في حلقة منها، وكانت هناك مواد ثانوية هي: الحديث والتفسير وأصول الفقه والبلاغة والأدب والقراءات، وطبعًا لكل مادة من هذه المواد كتب متعددة تتراوح بين الصعب والعميق، والذي لا يَقدِر على تدريسه أو دراسته إلا أولو العزم من الشيوخ والطلاب، وما هو سهل ويسير يسيغه أي طالب، والكتب تلك يشتريها الطلاب من دكاكين الوراقين حول الأزهر.
وانتهت السنة الأولى للصبي في الأزهر، فعاد في الصيف إلى قريته وقد اكتسب ثقة شديدة في نفسه، ولم لا وقد أصبح رسميًّا من "المجاورين" الذين يعرفهم الناس في القرية ويكبرونهم؟! وبعد أن انتهى أبوه من صلاته راح ككل الصوفية يقرأ بصوت عالٍ من "دلائل الخيرات"، وهو أحد أوراد الصوفية التي ألفها صوفي مغربي منذ ستة قرون، فاستمع طه حسين مليًّا، ثم قال لأبيه: إن ما تقرؤه في الدلائل عبث لا غَناء فيه، فرد أبوه غاضبًا: أهذا ما تعلمته في الأزهر؟ فقال بثقة: نعم، وتعلمت أيضًا أن كثيرًا مما تقرؤه في "دلائل الخيرات" حرام ويضر ولا ينفع، وأن التوسل بالأنبياء والأولياء هو لون من الوثنية، وراح يردد رأيه الغريب في غير مكان، حتى راحت القرية تتحدث عن جرأة هذا الصبي الثائر المتمرد!
مناقشة ونفور:
وعاد الصبي للأزهر في العام التالي؛ ليواصل درسه والانتظام في حلقاته، وعمومًا فقد كان عدد الطلاب كبيرًا بحيث يضيق بهم الأزهر، فكانوا يتلقَّون دروسهم بالإضافة للأزهر في مسجدي محمد بك أبو الدهب إلى الغرب من الأزهر، ومسجد الشيخ حسن العدوي إلى الشمال منه.
كانت حياة المجاورين جميعًا شديدة الفقر، بل لقد استقر في أذهانهم جميعًا أن الفقر هو الشرط الأول لتحصيل العلم والاجتهاد، وأنه لا تستقيم بُلَهْنِيَةُ العيش ورَغَدُه مع طلب العلم، فكانوا يأكلون وجبتين فقيرتين يوميًّا - كما سنرى - أما الوجبة الساخنة - وجبة اللحم مع البطاطس، أو القرع والمرق - فكانت وجبة وحيدة عصر الجمعة من كل أسبوع، فيقول الفتى: إنه وابن خالته كانا يدبران أمرهما ليوم كامل بقرش واحد مع الأربعة أرغفة، نصيبهما من جراية الأزهر، يشتريان بمليمين ونصف سلطانيتين عميقتين من الفول النابت بالزيت، وبنصف مليم حزمتين من الكراث، وفي العشاء إذا بقي لهما نصف القرش اشتريا بنصفه حلاوة طحينية، وبنصفه الآخر شرائح من الجبن الرومي، أما إذا كانا قد أسرفا على أنفسهما فلم يبقَ لهما غير ربع القرش اشتريا به شيئًا من الطحينة وصبَّا عليها شيئًا من عسل أسود أو أبيض كان يأتيهما مع الزوادة من الصعيد، أما إذا كانت قد جارت البليلة أو البسبوسة على ما بقي لهما من القرش فلم يكن أمامهما سوى رغيفي الجراية والعسل.
ويستأنف الفتى حياته في القاهرة، وهو بين الرضا عن بعضها والسخط على بعضها الآخر، فكان مما يرضى عنه حضور أخيه الكبير لدروس "الأستاذ الإمام" الشيخ محمد عبده، الذي غضب عليه الخديوي فطرده من الأزهر، ولم يحرك شيوخ الأزهر ساكنًا لحماية الرجل؛ مما آلم الفتى، وراح بعض النابهين من الطلاب يقصدون درسه في منزله، ويتحدثون عنه بكل التوقير والمحبة، وكان الفتى يتمنى لقاءه لولا سنه الصغيرة، وسرعان ما مات الإمام مبكرًا سنة 1905، فلم يحزن لموته الأزهريون، وربما كان المطربشون أشد حزنًا لخسارة الإمام المجدد.
وكان من الشيوخ الذين أحبهم الفتى الشيوخ: بخيت وسيد المرصفي وعبد الله دراز وأبو خطوة، ولكن معظم شيوخه كانوا قساةً غلاظًا ضيقي الصدر، وسأذكر هنا بعضًا من مواقف الفتى مع الشيوخ في سنواته الست التي قضاها منتظمًا في الأزهر؛ ففي درس البلاغة يسمع من شيخه: "لكل كلمة مع صاحبتها مقام"، فأراد الغلام مناقشته، فقال الشيخ: "دع عنك هذا يا بني؛ فإنك لا تحسنه، وإنما تحسن هذه القشور التي تُقبِل عليها في الضحى، فأما اللُّباب فلم تُخلَق له ولم يُخلَق لك" وضحك الشيخ وتضاحك الطلاب، ووجم الغلام، وأما تلك القشور فقد كانت كتاب "الكامل" للمبرد.
وشيخ آخر يفسر تنكير الرضوان في {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، فناقشه الغلام، فقال الشيخ: "اسكت يا بني، وقانا الله شرَّك وشرَّ أمثالك، اتق الله فينا ولا تشاركنا في هذا الدرس فتفسِدَ علينا أمرنا".
وهاله أن يقول شيخ كبير في درس الأصول عن الزوج وزوجه: "فإذا قال لها: أنتِ طلاق أو أنت ظلام أو أنت طلال أو أنت طلاة، وقع الطلاق، ولا عبرة بتغيير اللفظ"، وذاك الشيخ الذي لا يكاد يُسأل حتى يشتم، فإذا ألح السائل لم يُعفِه من لكمة في وجهه إذا كان قريبًا من مجلسه، أو برميةٍ من حذائه إذا كان بعيدًا، وكان حذاؤه جافيًا غليظًا ملئت نعله بالمسامير.
وفي درس النحو فسر الشيخ بيت شعر لتأبَّطَ شرًّا:
فأُبتُ إلى "فَهمٍ" وما كدت آئبًا .. وكم مثلها فارَقْتُها وهْيَ تَصفِرُ
سأله طه حسين عن مرجع الضمير "هي" فقال الشيخ: إنك وقح وقد كان يكفي أن تكون غبيًّا، فرد طه حسين: ولكن هذا لا يدل على مرجع الضمير، فرد الشيخ: انصرفوا؛ فلن أستطيع أن أقرأ وفيكم هذا الوقح. وأوشك الطلاب أن يَفتِكوا بالفتى لولا أنْ أشهَرَ زملاؤه من أهل الصعيد نعالهم لحمايته.
وفي درس آخر وكتاب آخر لشيخ من الشرقية، أخذ طه حسين يجادل الشيخ حتى قال: لن أمضي في الدرس حتى يقوم ذلك الغلام. ولم يقم الغلام ولا أصحابه إلا عندما أُشهِرت عليهم نعال الشرقية، ولم تكن نعال الشراقوة بأقل خطرًا من نعال الصعيد.
ويتفاخر أحد شيوخه الأساتذة بأنه يستطيع أن يتحدث ساعتين دون أن يفهم أحد عنه شيئًا، ولا يَفهَم هو عن نفسه أيضًا، وكان في مجلسه من الغرفة يسمع من أخيه وزملائه كثيرًا من نقائص هؤلاء الشيوخ ومعايبهم، فهذا الشيخ يتجسس على زملائه ويكتب فيهم التقارير للأمن وللمشيخة، وهذا الشيخ تربطه علاقة مريبة بهؤلاء الطلاب ولا يكاد يستقر على كرسيه حين يحضر أحدهم حلقته، وكانت هذه الأحاديث تثير في نفس الفتى كثيرًا من الغضب والأسى وخيبة الأمل.
وأحد شيوخ المنطق والأصول يجادله الفتى ويلح في الجدل، حتى يضيق الشيخ فيقول للفتى: "اسكت يا أعمى! ما أنت وذاك؟". فيغضب الفتى ويواجه الشيخ بحدة بالغة: "إن طول اللسان لم يُثبِت قط حقًّا، ولم يَمحُ باطلًا".
وكان طه حسين شاهدًا على جرأة وشجاعة أستاذه المرصفي، ونقده للمناهج الأزهرية العتيقة، وقد شجعه ورفيقيه على ارتياد دار الكتب وقراءة ما فيها من كتب الأدب، فليس هناك ما يدفع النفوس للحرية والإسراف فيها مثل درس الأدب. ومع هذا فمع أزمات طه حسين مع الأزهر فوجئ به وهو يلتزم جانب الشيخ الأكبر بلا مناقشة، وكان الفتى أثيرًا لديه، يزوره في بيته مع رفيقيه "الزيات والزناتي".
فراق لا لقاء بعده:
وعُرف الفتى بجرأته على التقليدي والعتيق من الآراء، فسأله بعضهم عن رأيه فيما كتبه الكامل في "المبرد" ويقول: وكان مما كفَّرَت به الفقهاءُ الحجاجَ قوله والناس يطوفون بقبر النبي: "إنما يطوفون برِمَّةٍ وأعواد"، فقال الفتى: إن الحجاج لم يكفُرْ وإنما أساء الأدب. وأنكر الطلاب ذلك، حتى فوجئ باستدعائه ورفيقيه لمقابلة الشيخ الأكبر؛ حيث وجدوا لجنة كبيرة من الشيوخ الذين ينتقدونهم وطلابًا يشهدون على آرائهم في شيوخهم وغيرها، وكان قرار اللجنة محو أسماء هؤلاء الطلاب من سجلات الأزهر، فقصد الطلاب شيخهم بخيت المطيعي الذي كان معروفًا بجرأته في الحق، ولكنه رفض التدخل قائلًا: "اسكت يا ابني خلينا ناكل عيش".
ولمواجهة تلك المحنة كتب طه حسين مقالًا لاذعًا ينتقد فيه الأزهر ومناهجه وشيخه جميعًا، وذهب به إلى صاحب الجريدة أحمد لطفي السيد، فقرأ المقال وقال له: لو لم تكن قد فُصِلت من الأزهر لكان هذا المقال كافيًا لفصلك، فإذا كنت تريد العودة للأزهر فدع الأمر لي. ثم تبين للفتى ورفيقيه أنه لم يُفصَل ولكن الشيخ كان يهددهم فحسب، وراح الفتى بعدها يتردد على مقر الجريدة فيخالط الكثير من المثقفين والأدباء "من المطربشين"، ويسمع منهم عن العلم الحديث وما يتيحه لطلابه من حرية في مناهج الأدب والتاريخ والفلسفة وغيرها، وعرف من هؤلاء المطربشين بأمر الجامعة المصرية الأهلية، فتقدم لها ليدفع مصروفاتها جنيهًا كاملًا في السنة، وعلى الرغم من أن دفع هذا الجنيه كان عسيرًا على الفتى فإنه قد أحب الجامعة وما فيها من انطلاق وحرية، ويعجب أشد العجب بدرسه الأول فيها، وكان درسًا عن الحضارة الإسلامية لأحمد زكي بك، يبدؤه بـ"السلام عليكم"، ويتحدث من عند نفسه لا من كتاب قديم، وأصبحت أوقاته موزعة بين ثلاثة أماكن: دار الكتب في الصباح، والأزهر في وسط اليوم، والجامعة في المساء، ومع هذا فقد كان يقضي وقته في الأزهر وقلبُه معلَّق بالجامعة حتى يذهب إليها ويسمع فيها درسًا عن التاريخ المصري القديم، ودرسًا بعنوان "أدبيات الجغرافيا والتاريخ" يلقيه بالعربية محاضر إيطالي.
كل هذا والفتى مستمر في كتابة المقالات في صحيفتي اللواء والجريدة، ينتقد فيها القديم والأزهر ومناهجه وطرقه وشيوخه، حتى أصبح اسمه معروفًا في المجال العام، وفي نحو سنة 1911م أنشأ محمد رشيد رضا مدرسة للدعوة والإرشاد، وكان حفل تأسيسها في فندق سافواي، ورغم معارضة معظم الشيوخ والطلاب الأزهريين لتلك المدرسة ولانحياز رشيد رضا للخديوي، الخصم اللدود لأستاذه محمد عبده، فقد حضر شيخ الأزهر وكثير من شيوخ مجلس إدارته هذا الحفل، وقيل: إنه قد دارت عليهم كؤوس الشمبانيا، وقال بعضهم: بل مجرد مياه غازية. فكتب طه حسين نقدًا لتلك الحفلة ضمَّنه أبياتًا شعرية من إنشائه تقول:
رعى الله المشايخ إذ توافوا ... إلى سافواي في يوم الخميسِ
وإذ شهدوا كؤوس الخمر صِرفًا ... يدور بها السُّقاةُ على الجلوسِ
رئيسَ المسلمين عَداكَ ذمٌّ ... ألا لله درُّك من رئيسِ
ورغم هذا ومع ضيقه بالأزهر ومناهجه وطرائقه العتيقة، فلم يكن أمامه إلا الظفر بالعالِمية؛ ليصبح أستاذًا فقيرًا يأخذ أرغفة الجراية، ويجلس إلى عمود بالأزهر، ويحصل على خمسة وسبعين قرشًا إذا كانت عالِميته من الدرجة الثالثة، ومئة قرش إذا كانت الثانية، ومئة وخمسين قرشًا إذا كانت الأولى، وأما غير ذلك فلن يكون أمامه سوى قراءة القرآن في المآتم والمقابر وفي البيوت.
وقد مر الفتى بمراحل تعليمه في الأزهر التي بلغت نحو تسع سنوات، وهي ثلاث مراحل: المنتسب ثم المنتظر ثم المستحق، وكان الانتساب يتم كما سبقت الإشارة بعد اختبار حفظ القرآن، وقد انتسب الفتى إلى رواق "الفشنية"، ويتجاوز الطالب تلك المرحلة بكتابة "عرضحال" يقول فيه: إنه انتسب في الأزهر أعوام كذا، وحضر دروس كذا وكتب كذا، ويَشهَد على ذلك اثنان من شيوخ الأزهر، وهكذا انتقل الفتى إلى مرحلة المنتظرين تلك التي كان على شيخ الرواق أن يمتحنه فيها بعد أن يعين له بعض الموضوعات، ولأن شيخ الرواق كان ابن شيخ كبير ويعرف طه حسين، فقد سأله ونجَّحَه في جلسة واحدة، وانتقل طه حسين إلى المرحلة الأخيرة التي تنتهي بحصوله على العالِمية وهي مرحلة المستحقين، وفي سنة 1911 تقدم طه حسين للحصول على العالِمية، فذهب إلى الأزهر، وحصل على "التعيين" وهو الموضوعات التي ينبغي أن يستعد بها للجنة الامتحان الشفوي، ويقول: إنه قرأ وحفظ وراجع واستعد للامتحان فأحسن الاستعداد، حتى لم يبقَ بينه وبين الامتحان إلا سواد الليل؛ ليفاجأ بالشيخ سيد المرصفي يزوره في بيته بالليل طالبًا منه أن يعتذر عن حضور الامتحان؛ فالنِّيَّة قد بُيِّتت لإسقاطه، مؤكدًا له أنه عضو في اللجنة التي سوف تُسقطُه وهي برئاسة الشيخ: "دسوقي العربي"، فقال طه حسين: ولكني سأحضر أمام لجنة برئاسة الشيخ: "عبد الحكيم عطا"، فقال المرصفي: رفض الشيخ عبد الحكيم عطا تدخل الشيخ الأكبر في الامتحان، فلن تنعقد لجنته، وذهب الفتى للجنة من صباح الغد، وسألته اللجنة السؤال الأول الذي قضى فيه نحو ساعتين ونصف، لقي فيه الفتى من المناقشة أشدها، ومن الجدال أعنفه، وفجأة يدخل الشيخ الأكبر (الشيخ عبد العزيز البشري 1909-1916)؛ ليقول لرئيس اللجنة: حرام عليك يا شيخ دسوقي، ارفق به. ولكنه لم يرفق به، وزاد شدة على شدة، وعنفًا إلى عنف، وانتهت المسألة الأولى، فقيل للفتى: اذهب فاسترح. فخرج ليجد الشيخ الأكبر جالسًا بباب اللجنة وكأنه ينتظر شيئًا، ويطلب من أحد الشيوخ أن يأخذ الفتى ليسقيه فنجانًا من القهوة، وفي انتظار هذا الفنجان يأتي من يحمل محفظة الفتى إيذانًا بأنه قد سقط، وأن اللجنة لا تريد أن يُتِم ما بقي له من درس.
هكذا انقطعت الصلة بين طه حسين وبين دروس الأزهر، ولم يعد يذهب إليه إلا للصلاة، أو للقاء بعض أصدقائه أو من يحترمهم من شيوخه، وظل محتفظًا بزيه الأزهري "العمامة والكاكولة" والصورة التي تجمع طلاب الجامعة المصرية مع أساتذتهم، تضم طه حسين بزيه الأزهري، وفي طريقه لبعثته إلى فرنسا في أواخر سنة 1914، وعندما وصفه بعض الأجانب مرتديًا زيه الأزهري بأنه: "يحضر حفلة تنكرية"، فإنه قد دخل حجرته واعتزم أن يستبدل البدلة بزيه الأزهري الذي خلعه وكوَّرَه وصعد إلى ظهر السفينة ليلقي بكاكولته وعمامته من فوق ظهر السفينة لتستقر في قاع ذلك البحر العريض.
خاتمة:
هكذا انتهت علاقة طه حسين بالجامع الأزهر والدراسة فيه وبزيه الأزهري، ولكنها لم تنتهِ بالأزهر ثقافةً وفكرًا ومواقفَ؛ فقد عاد طه حسين من فرنسا ليعمل مدرسًا للتاريخ في الجامعة الأهلية، وعندما تندمج تلك الجامعة في الجامعة الحكومية الوليدة منذ سنة 1923، وكان هو نفس العام الذي أُلغِيَت فيه الخلافة العثمانية، وسعى الملك أحمد فؤاد للدعاية لنفسه لاختياره خليفة للمسلمين بدلًا من الخليفة العثماني، وراح بعض شيوخ الأزهر يدعون لتنظيم مؤتمر لمناقشة مسألة الخلافة، يفاجأ الناس بكتاب صغير الحجم وخطير الشأن بعنوان: "الإسلام وأصول الحكم" لمؤلفه الشيخ علي عبد الرازق، خريج الأزهر والقاضي الشرعي، الذي ينكر فيه تمامًا أن للخلافة أصلًا في الدين، ويؤكد أن الدين الإسلامي لم يحدد أي شكل من أشكال نظم الحكم، وإنما هو دين خلقي روحاني ليس له شأن بالحكم من قريب أو من بعيد، وأن الخلافة الإسلامية التي بدأها أبو بكر الصديق كانت ابتدعت لتأسيس سلطة زمنية تتمسح بالإسلام. وهنا ثار الأزهر وطلابه، ودعت هيئة كبار العلماء لعقد جلسة لمعاقبة الشيخ علي عبد الرازق، وقامت تلك الهيئة بطرده من زمرة العلماء المسلمين، وتجريده من شهادة العالِمية، فكتب طه حسين في جريدة السياسة: "ما هي هيئة كبار العلماء تلك؟ وعلى أي آية من كتاب الله أو حديث من أحاديث الرسول الكريم أقيمت؟ بل إن الأزهر نفسه هو مجرد مؤسسة مدنية أقيمت وفق القانون الوضعي، وليس له أن يحتكر الشأن الديني بحال من الأحوال". وبهذا الموقف الدرامي انتهت علاقة طه حسين بالأزهر كمؤسسة دينية وتعليمية، ولكن لم تنتهِ صلته بالتراث الإسلامي الذي بدا جليًّا رائعًا في العديد من كتبه ومقالاته، التي اجتهد فيها لمد الجسور بين الإسلام وقضايا العصر.