المدن: عمران وأماكن في القلب
دينا عزتفي رحاب الإمام الشافعي
2024.11.30
تصوير آخرون
الخطاط محمد شافعي يحكي قصة أسرته وولعه بالخط العربي ومبتدأ حياته في رحاب الإمام
بينما الهدم ينال من آثار إسلامية عريقة وفريدة في منطقة الإمام الشافعي، بكثير من الأسى وشعور الخوف والفقد يتحدث محمد شافعي، أحد أهم أسماء جيل الشباب في فن كتابة الخط العربي، عن هذه المنطقة التي ولد فيها والتي يبقى فيها منزل أسرته منذ أن استقر جده وجدته في منزل ملاصق لمسجد الإمام الشافعي، حيث كان ميلاد والده ثم ميلاده هو قبل ٣٠ عامًا. "شافعي هو اسم أبي، وقد أطلق جدي، خالد الصوفي زادة عليه هذا الاسم تيمنًا بالإمام الشافعي".
كان الجد خالد الصوفي زادة قد قدم إلى مصر، بحسب رواية محمد شافعي، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر ليدرس في الازهر ثم ليستقر بالقاهرة بعد زواجه بابنة عبدالعزيز سليم، السيدة نفوسة، والتي كان أخوها، عبدالوهاب، شيخًا لمسجد الإمام الشافعي.
بعد نحو مئة عام، في العقد الأخير من القرن العشرين، ولد محمد شافعي في نفس الدار لتكون أيام طفولته وصباه في رحاب "هذا المكان الآسر الحافل بكل مفردات العمارة الإسلامية على تنوعها الواسع وبكل ملامح الخط العربي الذي امتهنته الأسرة عبر قرن وأصبح مرتبطًا بكثير من المساجد والمقابر في نفس الحي".
محمد شافعي
لا يستطيع محمد شافعي أن يحدد مكانًا واحدًا يسكن القلب وحده من أماكن هذا الحي العريق المرتبط اسمه بأحد أئمة الإسلام الأربعة، محمد بن إدريس الشافعي، المولود في القرن الثامن ميلادي في غزة، قبل ان يرتحل عنها مع أمه إلى مكة ثم المدينة ليرتحل هو بعد ذلك إلى اليمن ثم العراق ثم مصر حيث توفي في القرن التاسع الميلادي.
يقول: "لا أظن أن هناك أي أثر في هذا المكان لم يرتبط في ذهني برحلة إدراك جمال العمارة الإسلامية والخط العربي، لكن أظن أن قبة مسجد الإمام الشافعي لها ميزات كبيرة لأنها أنشئت في العصر الأيوبي ثم مرت عليها تجديدات في مراحل مختلفة من المملوكي إلى العثماني ثم العصر الحديث حيث كانت آخر التجديدات في عصر الخديوي توفيق".
ويضيف: "أظن أن المسجد بكامله وكذلك ضريح الإمام الشافعي هو مكان لا يمكن إلا أن يكون مبهرًا سواء بسبب أنه مساحة روحية رحبة أو لأنه بالفعل متحفًا مفتوحًا لفنون الخط العربي".
سيطرت العمارة الإسلامية علي آفاق هذا الحي، بحسب محمد شافعي، ومحبة أهل الحي لكل ما تمثله هذه العمارة التي جعلت الحي يبدو "ربما لفترة طويلة أنه مكان توقف فيه الزمن وعجزت الحداثة رغم تمددها أن تنال من عراقته البادية والتي ذاب في هواها أجيال متوالية عرفت معنى الجمال العمراني من واقع الحياة اليومية وتشربت بالوجد الروحاني المنساب مع معمار الحي".
لكن محمد شافعي يأسف لما كان خلال الشهور الأخيرة من إزالة لواجهات منازل ومدافن "ليس لها مثيل بكل بساطة". وضمن ما أزيل من جواهر المعمار، يقول: "واجهة مدفن صدقي النبراوي.. هذه الواجهة كانت في ذاتها قطعة فنية رائعه صممها يوسف أحمد أحد أعمدة الأثريين المصريين الذين أحيوا كثيرًا من الأساليب القديمة في الخط والزخرفة".
واجهة مدفن صدقي النبراوي
"لم أكن أتصور أنه من الممكن أن يأتي علينا وقت لنرى مثل هذه الواجهة لمثل هذا الفنان المتميز الذي شارك في عهد الخديوي توفيق في ترميم الكثير من المساجد القديمة وأحيا الكثير من الخطوط التي كانت صعبة التنفيذ ووضع قاعدة لكثير من الخطوط الصعبة ودرسها"، يقول محمد شافعي. ويضيف أنه مما يضاعف الأسى أن واجهة هذا المدفن كانت فعليًّا تمثل نقطة الولوج إلى الحي العريق بأكمله.
يقول محمد شافعي إنه يشعر بالفزع لكثرة ما هدم، منها أحواش لشخصيات لها اسم وأثر في التاريخ الإسلامي وبعضها مرتبط مباشرة بشخص الإمام الشافعي نفسه ومنها مدرسة الإمام الشافعي النظامية "التي كانت في الأصل قبة حليم بن محمد علي والتي تحولت استراحاتها لفصول مدرسية في العهد الملكي، وكانت هي المدرسة التي تتلمذ فيها جدي ووالدي".
قبة حليم باشا التاريخية
وبحسب محمد شافعي فإن كثيرًا من استراحات مدافن الشخصيات الكبرى تحولت مع الوقت إلى مدارس، "بالضبط كما تحولت بعض القصور إلى مدارس، في الأحياء التي بها قصور، وكان في هذا أو ذاك بشكل ما سببًا لتطوير استخدام المباني والحفاظ عليها ولو بدرجة ما عوضًا عن هدمها بالكامل".
يقول محمد شافعي إن الهدم الذي وصل إلى مقابر الإمام الشافعي هذا العام، والذي كان قد بدأ في عام 2019 في مساحات مختلفة من جبانة القاهرة القديمة، اقتطع من قلب القاهرة فنًّا وتراثًا وذكريات "فهذه لم تكن فقط أبدًا شواهد قبور"، واقتطع ذكريات ورابطة كانت باقية في نفوس الكثيرين سواء من أبناء الأحياء التي تعرضت للهدم ومن أبناء الأسر التي كانت مدافنهم واقعة في مساحات الهدم.
"لم يتمكن أحد من إيقاف الهدم عندما بدأ قبل بضعة أعوام، كانت هناك الكثير من المناشدات والوعود وغيرها، لكن الواقع أن الهدم استمر وربما سيستمر لاحقًا"، يقول محمد شافعي، مشيرًا إلى فقدان مقابر لشخصيات مهمة في ذاكرة مصر والتاريخ الإسلامي وووجود تهديدات تنال من مدافن أخرى.
محمد شافعي
ويضيف: "لم يكن لنا سوى التوثيق، البعض منا وثق شواهد الآثار البديعة التي أزاحها البلدوزر والبعض الآخر شارك في توثيق نماذج الخط العربي، وربما سيصدر بعضنا ما وثقه، رسمًا أو تصويرًا، في كتاب أو كتب حتى لا يأتي يوم يظن فيه أحد أنه لم تكن هناك حياة وتفاصيل في هذه الأماكن".
لا يعلم محمد شافعي ماذا سيحل بالحي الذي ما زال يحتضن مسجد الشافعي الذي عرف مجموعة من أبرز قارئي القرآن، لكنه يعلم أن هناك من يعمل بجد لتوثيق سيرة الحي وسيرة المدينة التي أصبحت تقع في نطاق هدم بدأ ولم يتوقف.