عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

مراجعات

محمد عطية

قبور الأحلام في الشمس المشرقة

2025.05.25

مصدر الصورة : آخرون

قبور الأحلام في الشمس المشرقة

 

في روايتها "أيام الشمس المشرقة" الصادرة عن دار العين لا تكتفي ميرال الطحاوي بتعرية الحلم الأمريكي وفضح شراسة النظام النيوليبرالي المهيمن، بل تدفعنا إلى التعاطف مع مأساة السذج القابعين في القاع الذين صدقوا الأحلام الوردية ورفعوا الآمال إلى السماء لينتهوا إلى لا شيء. وفي طريقها لرسم صراع الطبقات، نقترب بدقة من الطبقات الدنيا ومن الطبقة الوسطى وتمر بشكل عابر على الطبقة العليا فهي بالطبع طبقة ما لا عين رأت.

من هامش إلى هامش

تُفتتح الرواية بين ممرات الشمس المشرقة، ورغم ما يوحي به الاسم من تفاؤل فإننا نتفاجأ بأن تلك الممرات تكاد تتطابق وممرات الجحيم، وحين تصل نعم الخباز أول المهمشين إلى بيتها تجد بكرها صريعًا وقد اخترقت رأسه رصاصة هو مطلقها، لم يسبب الحادث أي صدمة فمثل تلك الأحداث معتادة في الشمس المشرقة مع اختلاف جهة إطلاق الرصاص. لا تقدم الرواية اسمًا في البداية للدولة التي تقع فيها تلك البقعة المسماة بالشمس المشرقة، رغم ذلك لن يحتاج القارئ إلى بذل أي جهد ليحدد موقعها على أطراف العالم الجديد في الدولة التي يعرفها الجميع. تستعرض الكاتبة حيوات شخصيات من بيئات مختلفة من المنطقة العربية والإفريقية، تَعبُر تلك الشخصيات الجانب الآخر لتنصهر في بوتقة الشمس المشرقة، تقضي البوتقة على كثير من التمايزات، بينما يفضل البعض التمسك ببعض أهداب الهوية الضائعة، ووحدَه الفقر يساوي بين الجميع.

في رواية جوستاڨ ڨلوبير مدام بوڨاري، كانت إيما بوڨاري تطارد أحلامًا قرأتْ عنها في الروايات أو ذِكرى عاشتها ليوم واحد، فظل حلمها سرابًا تطارده حتى لاقت مصيرها المحتوم. وفي أيام الشمس المشرقة يتناوبنا السرد بين البيئة المحلية في الوطن الأم وبين العودة المتكررة إلى الشاطئ الآخر، لنعاين الظروف الخانقة التي عانى منها أبطال العمل ودفعت بهم إلى الهجرة، وبالتوازي نعيش عن قربٍ حياتهم في المهجر ونرى حلم الهجرة وقد تحول إلى كابوسٍ مستمر ليصاحبنا ذلك الشعور المُقبِض طوال العمل. نشأت نعم الخباز في أسرة كثيرة الأبناء، تَشوَّه وجهها وهي طفلة بفعل الجمر ولم تملك أي سمة من سمات الجمال. آمنت الأسرة أن لا أمل لها في الزواج فقررت إرسالها لتمتهن الخدمة في البيوت. بدأت خدمتها عند عجوز مريضة فكانت تقوم على رعايتها وتمريضها حتى أصبحت متخصصة في تقديم هذا النوع من الخدمات، وبعد عدة تنقلات صحبت أحد الأثرياء إلى دار مسنين تقع في الشمس المشرقة، استقر بها الحال هناك وفي بداياتها كانت الهجرة يسيرة وتقدم الحكومة القروض والطعام ومعونات البطالة. عملت نعم في تنظيف البيوت، تمامًا كما يشبه حياتها قبل الهجرة، قنعت بحياتها لكنها ظلت تحلم بالحب والزواج حتى التقت أحمد الوكيل.

هو الآخر نشأ في قرية نائية، مات أبوه صغيرًا وفقدت أمه عقلها حتى ماتت وهي مربوطة بشجرة. لم يقنع الوكيل بفقره وملابسه المرقَّعة وتمرد على أوضاعه، وفي تمرده دائمًا كان كثيرًا ما يتكئ على غيره، فمن مساعدته للشيخ الفقيه في قريته إلى خدماته التي عرضها على "أم حنان" التي أذهلت القرية بما جلبته معها من ابتكارات مدهشة، إلى مدرس العلوم المتزمت فكان كساعده الأيمن وتمتع معه بإحساس السلطة. بعد زيارته عدة دول انتهى به الحال إلى الأرض المشرقة يستجدي الجميع بابتسامة متذللة، وهناك وجد الشيخ أبو عبدالقادر ليعمل معه في تغسيل ودفن الموتى مقابل النوم في المسجد والقليل من الطعام، ومثلما كان يركب الداتسن مع العمال ليصل إلى مدرسته من أجل الوجبة المدرسية ينتظر في الشمس المشرقة تدفق المعونات، ظلت نعم الخباز تحوم حوله حتى تزوجا بالفعل وأنجبا ولدين وانفصلت عنه في النهاية لتساوي وجوده والعدم بعد أن أصبح يعاملها كأخت لا زوجة.

أما نجوى ذات الأرداف الكبيرة والجسد غير المتناسق، المنتمية إلى عائلة من الطبقة الوسطى، بإمكانياتها المتواضعة حملت على عاتقها عبء تحقيق أحلام الأم سليلة العائلة الأرستقراطية، التي فشلت كل محاولاتها للترقي الاجتماعي عن طريق السفر فظلت تنظر إلى طلاء سقفها المتساقط ومعه تتساقط في سلم الطبقات، حتى اقتربت من الطبقات الدنيا، لم تتمكن نجوى من اللحاق بكليات القمة لكنها أتمت تعليمها وتعينت في الجامعة، وأصبحت المساعدة الشخصية ليوسف الأزهري، رئيس القسم الفاسد، صاحب النفوذ، وكانت شاهدة على علاقته بالطالبة زهرة التي انتهت بزواجهما وتعيينها في القسم، وللتخلص من نجوى أرسلها يوسف في بعثة تعليمية إلى الخارج. في الجامعة بآشفيلد لم تسعفها قدراتها لتتم دراستها وساءت علاقتها بهانا رئيسة القسم، وهناك تلتقي بياسمين العامري التي تحاول مساعدتها، كانت ياسمين جميلة ومحط اهتمام الرجال، نظرت نجوى إلى ياسمين كما تنظر إلى زهرة، كفتاة تستغل جمالها، ونسيت أنها لعبت مع هانا نفس الدور الذي لعبته مع الأزهري من قبل، لم يشفع لها ذلك في النهاية ورسبت في الاختبارات وانقطعت عنها المنحة، ما اضطرها إلى القبول بوظيفة عاملة اجتماعية بالشمس المشرقة بعد أن فشلت محاولات تزويجها، وكانت تلك نهاية أحلامها حتى أنها لا تدرك ما الذي يمنعها من العودة.

مثلت الشمس المشرقة مرآة كشفت أن الحياة في الوطن الأم لم تختلف كثيرًا عن الحياة خارجه وأن تلك الجنة الموعودة لم تكن سوى سراب، وأن ما لم يحققه الحالم في وطنه لن يحققه في بيئة أخرى.

لعبة الأسماء

غالبًا ما يميل كُتاب ما بعد الحداثة إلى استخدام أسماء غريبة وغير معتادة كنوع من التحدى للأعراف الأدبية التقليدية، ما يعزز تفاعل القارئ مع النص، فنجد بعض الأسماء موحية والبعض الآخر يحمل معنى معاكسًا، ففي حين لا نجد أي تفاؤل في الشمس المشرقة أو المقابر التي يطلق عليها حديقة الأرواح، كان مسمى سنام الجمل وهو يحمل شكل منحنى الوسط الإحصائي الشهير دالًّا على الطبقة الوسطى، ومسميات مثل الجنة الأبدية التي تمثل الطبقة العليا. أما عناوين الفصول فنجد عنوان مثل الروض العاطر وهو ما يحيل إلى كتاب تعليمي تراثي عن آداب الجماع، والفصل في أغلبه يركز في المغامرات الجنسية لرئيس قسم التاريخ في الجامعة. وبجانب تأثير تلك الأسماء الساخر نجدها تعمل كوسيلة للنقد الاجتماعي والسياسي، وتجذب تلك الأسماء انتباه القارئ وتدفعه إلى التفكير كثيرًا في محاولة تفسير معانيها.

حقيقة العبور

في كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين تنبأ توماس بيكيتي بأن اللامساواة عندما تصل إلى الحد الذي وصلت إليه في مجتمعنا المعاصر، لا تتوقف أو تنعكس إلا بحدوث ثورة أو حرب. وتبعًا للإحصائيات في عام 2012، حصل 1% من السكان الأعلى دخلًا على 22.5% من إجمالي الدخل. ويمتلك أغنى 85 فردًا في العالم ثروة تزيد على ما يملكه نحو 3.5 مليار نسمة يمثلون النصف الأفقر من سكان العالم، وفي 2011 حصل تيم كوك من شركة أبل على 378 مليون دولار في شكل مرتب وأسهم ومزايا أخرى، حيث كان ذلك الرقم يعادل 6258 متوسط راتب الموظف في أبل. برزت مثل تلك الأحوال بوضوح في الرواية، فلا نجد وصفًا مفصلًا للطبقة العليا في الرواية، وكأن الوصول إليها مستحيل، ولا يحدث الاتصال إلا عن طريق مقدمي الخدمات المنزلية والأطفال في عيد الهالوين أو على سبيل التسلية كما تتسلى الثرية العربية علياء الدوري بسليم الدوري المهاجر العربي، الذي يحرس العقار الذي امتلكته العائلة الوحيدة التي تمكنت من العبور من الطبقات الأدنى إلى منتجعات الجنة الأبدية. وتتجلى اللامساواة كذلك في التقارب الشديد بين سكان الشمس المشرقة وسكان تلة سنام الجمل التي هي مجرد هضبة وسطى تنام تحت أقدام "الجنة الأبدية".

***

لا يمكن اختزال الرواية في الحديث عن الغربة والاغتراب، فقد رسمت الكاتبة ببراعة ودقة شديدة البيئات المحلية، وقدمت محاكاة لشراسة النظام الرأسمالي ونقدت العيوب الاجتماعية في كل منها. وهي رواية تتأمل أحلام الإنسان في حياة أفضل، تلك الأحلام التى دفعت أمهات مركب "عين الحياة" إلى قذف صغارهن في الماء أمام شواطئ الشمس المشرقة، كما تقذف كلاب البحر صغارها في الاتجاه العكسي إلى الماء بعد الفطام. وكم تكون الأحلام مكلفة!