مراجعات

سلمى مبارك

قراءة في كتاب "أكثر الرجال ضحالة"

2024.04.27

مصدر الصورة : ويكيبديا

قراءة في كتاب "أكثر الرجال ضحالة"

كتاب عصام زكريا الأخير- "أكثر الرجال ضحالة مختارات من قصص ونثر وودي آلن"، الصادر عن الكتب خان، الذي قدم فيه ترجمته لأربع وعشرين قصة قصيرة، بالإضافة لمقتطفات من فقرات "ستاند آب" الكوميدية لوودي آلن، يستحق أن نقف عنده؛ لأكثر من سبب.

أولًا: لأنه يقدم هذا المخرج الثائر الساخر بشكل جديد، ليس من خلال نقد لأفلامه، وإنما من خلال ترجمة مختارات من أعماله الأدبية، مما يقودنا -بعيدًا عن عمليات الاقتباس- إلى علاقة غير تقليدية تربط السينما بالأدب. المرور من الكتابة الأدبية لصناعة الأفلام والعكس عملية شائعة؛ فمن الأدباء المرموقين من يقرر في لحظة من مسيرته صناعة الأفلام، مثل: مارجوريت دوراس، أو أندريه مالرو في فرنسا، أو آسيا جبار في الجزائر، أو ناصر خمير في تونس. وعلى الجانب الآخر، نجد من السينمائيين من يتجه للكتابة وخاصة كتابة المذكرات. لكن الكتابة الأدبية التي تعتمد على الخيال، وليس على السيرة الذاتية، نجدها بشكل أقل، ومن أمثلتها: أعمال بازوليني الشعرية، أو روايات أنتونيوني في إيطاليا، أو تجربة خيري بشارة في كتابة الرواية مع "الكبرياء الصيني" التي صدرت في 2023، ولا ننسى شادي عبد السلام الذي كتب الشعر، ومنه قصيدة بالإنجليزية كانت نواة لفيلمه "المومياء".

تظل هذه الكتابات التي يقوم بها سينمائيون، أو الأفلام التي يصنعها أدباء إنتاجًا هامشيًّا في المسيرات الأساسية لهؤلاء المبدعين. لكننا نلاحظ مع بداية سنوات الـ2000، أن حركة الذهاب والإياب ما بين القلم والكاميرا تتزايد لدى المبدع الواحد، وهو ما يعبر عن سمة أساسية لعصر ما بعد الحداثة الذي تتداخل فيه الفنون بشكل أكثر كثافة من ذي قبل، ويصبح فيه الوسيط الفني -أيًّا كان أدبيًّا أم سينمائيًّا- حاملًا لوسائط أخرى متعددة من اللوحة، للموسيقى، لفن العمارة، ..إلخ، ومتداخلًا معها على مستوى الشكل والمضمون؛ وهو ما يصعِّب المهمة على الناقد الذي يجد نفسه مضطرًّا -بسبب هذا الإنتاج العابر للحدود، الذي تمتزج فيه الأنواع الفنية، بل تظهر به أنواع جديدة هي توليفة من أنواع قديمة منصهرة في بوتقة واحدة- إلى أن يتعامل مع أعمال تحتوي على وسائط متعددة، وتقيم حوارًا ما بين لغات وسياقات فنية عدة. 

هذا هو ما نجده في كتابات وودي آلن التي يضمها هذا الكتاب، وهو أيضًا ما يجعل عصام زكريا يخصص جزءًا من مقدمته المهمة لتناول العلاقة بين وودي آلن وعصر ما بعد الحداثة.

يُعتبر هذا المخرج حالة فريدة في التعبير عن المزاوجة بين صناعة الفيلم وكتابة الأدب. من المؤكد أن وودي آلن سينمائي قبل أن يكون أي شيء آخر، لكن الظاهرة الفريدة التي يمثلها هي استمراره في الكتابة بالتوازي مع صناعة الأفلام، التي قال عنها: إنها بالنسبة إليه نوع من العلاج النفسي، وإن الفن بشكل عام يسمح للفنان أن يعيش في العالم الذي يصنعه. 

أصدر وودي آلن أول مجموعة قصصية "الثأر" في 1971، ثم توالت بعدها الأعمال القصصية والمذكرات التي صدرت على التوالي في 1975، 1980، 2007، 2020، 2022. إن ما يلفت النظر في هذه الكتابة هو قيمتها الأدبية، بغض النظر عن قيمتها كنصوص كاشفة عن العالم الفكري والفني للمخرج؛ فقراءة هذه القصص تشكل في حد ذاتها متعة أدبية، وتقدم وجبة شهية مبهجة ومدهشة من الخيال الأدبي الخصب الجامح؛ مما يجعلها نصوصًا قابلة للدراسة الجادة بأدوات النقد الأدبي، وما يجعل من فكرة تحليل أفلامه جنبًا إلى جنب مع كتاباته الأدبية موضوعًا مثيرًا لدراسة مقارنة.

كتب وودي آلن في أنواع عدة؛ منها: القصة القصيرة، والمسرحية، والمحاكاة الساخرة، والمذكرات واليوميات، وكلها أعمال مدهشة من حيث الخيال السريالي العبثي، والمفارقات الغريبة، والسخرية المذهلة من كل شيء، ومن الذات قبل أي شيء آخر. يتحرر وودي آلن من كل الحدود، متناولًا الموضوعات الأثيرة لديه: الحب، الموت، المثقف، الفن، الدين، تعقيد النفس الإنسانية، والتساؤلات الوجودية، مازجًا بين الكوميديا الساخرة، والتراجيديا السوداء المبطنة لها.

تساؤل آخر يستوقفنا، تطرحه هذه المختارات القصصية والنثرية: ما هو السبب الذي يجعل من السينمائي يمسك بالقلم ويطرح جانبًا الكاميرا؟ هل هي الرغبة في التجريب؟ أم الرغبة في التوجه لجمهور مختلف؟ هل يسمح القلم بما لا تسمح به الكاميرا؟ أم هي مجرد موهبة أدبية تريد أن تعبر عن نفسها؟

علاقة الصورة بالكلمة علاقة معقدة.. البعض وجد أن الكلمة تستطيع أن تشعل الخيال أكثر من الصورة؛ فقراءة وصف لامرأة جميلة بقلم أديب متميز، من الممكن أن يولِّد آلاف الجميلات المختلفات في مخيلة القراء، بينما يقيد تصوير امرأة جميلة على ورقة أو على شريط سينمائي الخيال، فتتشكل صورة واحدة فقط لامرأة جميلة. هذا هو ما عبر عنه الأديب الفرنسي فلوبير عندما رفض أن تصاحب رواياته بعض الرسومات للشخصيات والمشاهد التي تتخلل صفحات العمل الأدبي، وهو ما كان شائعًا في الإخراج الفني عند طباعة الروايات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. 

لكن فيما يتعلق بأسباب الكتابة لدى وودي آلن، فقد نجدها في ميله للحوار في أفلامه ذاتها، وولعه بالألعاب الكلامية، والكوميديا اللغوية المبنية على الإحالات الأدبية والسينمائية والفنية بشكل عام.. وهو ما تسمح به الكتابة بشكل أيسر مقارنة بلغة الصورة. تمتلئ نصوص وودي آلن بالإحالات سواء لعناصر ثقافية مرتبطة بالحياة اليومية الأمريكية، أو بمرجعيات فنية متعددة المصادر، مما يجعل من التناص والتواسط (بمعنى: تداخل الوسائط الفنية) إستراتيجيات كتابية شائعة لديه. وهو ما يصعِّب كذلك من مهمة الترجمة -التي تتميز في هذا الكتاب بالسلاسة، فلا يكاد القارئ يشعر بأن النص مترجم- وما جعل المترجم ينهي كل قصة من المختارات بمجموعة من الهوامش الشارحة لتفاصيل تغيب عن القارئ القادم من ثقافة مغايرة.

من القصص التي حققت نجاحًا واسعًا ويضمها الكتاب "حكاية كوجيلماس"، التي نُشِرت للمرة الأولى في 1977، وأُعيدَ نشرها أكثر من مرة. والقصة تحكي عن بطل من نيويورك، هو أستاذ في الإنسانيات في سيتي كوليدج، يحاول الهروب من حياته الزوجية التعيسة، عن طريق اللجوء إلى ساحر يتمكن بألعابه السحرية من أن يدخله إلى رواية "مدام بوفاري" لفلوبير؛ لكي يقيم علاقة عاطفية مع بطلة الرواية، وهو ما يتسبب في تغيير أحداث الرواية. ويبلغ الخيال الساخر مداه في هذه القصة عندما يقوم المؤلف -كما في المونتاج المتوازي- بالانتقال ما بين قصة الحب التي تجمع البطل المعاصر، ومدام بوفاري -"التي تتحدث باللغة الفصحى التي صيغت بها الرواية في ترجمتها الإنجليزية"- وبين طلاب الأدب في المدارس والكليات، الذين فوجئوا بشخصية غريبة ظهرت في الصفحة 100 من الرواية، فكانوا يسألون أساتذتهم: مَن "هذا اليهودي الأصلع الذي يقبِّل مدام بوفاري؟".

هذه السخرية المحلِّقة هي التي تطالعنا في تلك المختارات من عالم وودي آلن الأدبي، المحتج بالكوميديا كما يقول المترجم "على كل أشكال السلطات الثقافية، من السياسة إلى التقاليد الاجتماعية والدينية إلى الفلسفة والأدب والفنون".