مراجعات
أنور فتح البابقراءة نقديه لدراسة "خلديهم يا بلدنا" لعلياء مسلم
2024.12.20
تصوير آخرون
تاريخ نضال السويس بين النكسة وحرب المئة يوم ويوم ضمن كتاب "خمسون عامًا على حرب أكتوبر"
(1)
رغم مرور خمسين عامًا على حرب أكتوبر 1973 فإن هذه الحرب لا تزال تلقى اهتمامًا في مجال الدراسات السياسية والتاريخية والعسكرية وتبقى مجالًا للشد والجذب بين الباحثين والمهتمين بالشأن السياسي، وعلى الرغم من ثراء وغزارة المادة المتاحة عن الحرب في عديد من المصادر العربية المصرية والسورية وغيرها ومصادر العدو الإسرائيلي والمصادر الأمريكية والغربية -رغم ذلك- فإن كثيرًا من الجوانب المهمة عن هذه الحرب تظل غائبة خاصة في الجانب المصري ومحجوبة لأسباب سياسية وعسكرية.
ضمن هذه الدائرة تقع معركة "مقاومة السويس في 24 أكتوبر 1973" للعدو الإسرائيلي والتي بدأت في 24 أكتوبر 1973 إلى 28 أكتوبر 1973 وهو يوم تطبيق قرار وقف إطلاق النار الصادر عن مجلس الأمن الدولي. ثم حصار المئة يوم ويوم التالية والتي تُعرف في تاريخ السويس باسم "الحصار" حيث ضرب العدو الإسرائيلي طوقًا حاصر به السويس والجيش الثالث الميداني في سيناء واستمر حتي يناير 1974.
وتغيب أي سردية متكاملة لهذه المعركة سواء من الجانب الرسمي أو الشعبي بحكم الظروف التي خضعت لها المدينة وغياب أي تنسيق جماعي بين هذه الأطراف. كذلك التشكيك والاتهامات المتبادلة بينهم. حيث يأخذ الصراع عدة مستويات فالجانب الشعبي يتهم الجانب الرسمي ممثلًا في محافظ السويس والسلطة التنفيذية والقوات المسلحة بالتخاذل والتخلي عن أدوارهم. والجانب الرسمي يحاول أن يطمس دور المقاومة ويحاول أن يُسند ما تم في السويس إلى بقايا مؤخرة الجيش الثالث الميداني بالتعاون مع قوات الشرطة وبعض الأفراد المدنيين من أصحاب الخبرة. رغم اعتراف أحد كبار قادة القوات المسلحة بأن دور القوات المسلحة في الدخول إلى السويس متمثلًا في دعم الفرقة 19 لم يتم إلا يوم 25 أكتوبر مع وجود أفراد متفرقين منها يوم 24 أكتوبر وبمبادرات فردية داخل السويس. ولكن الدخول الفعلي أتى بعد حسم الموقف داخل السويس تمامًا ورد قوات العدو.[1] في حين أنه يتجاهل أي دور للمقاومة الشعبية في معركة قسم الأربعين -وهم الذين حملوا عبئها تمامًا- وينسبها إلى "مؤخرات الفرقة 19".[2]
(2)
كذلك تختفي أي سردية مكتملة لدى المقاومة، نقصد بالسردية الكاملة رؤية مكتملة لما دار في جميع أنحاء السويس ورصد للقوى المقاومة من أفراد منظمة سيناء العربية وبعض ضباط الشرطة والجنود الذين ساهموا في المقاومة بحمل السلاح والقتال أو من لعبوا أدوارًا في الاتصالات في القيادة بالقاهرة كضابط الاتصالات بوحدة اللاسلكي التابعة للشرطة عبدالرحمن غنيمة وقائد المرور الرائد مصطفى شوقي الذي أسهم في شكل من أشكال التنسيق بين أفراد المقاومة من منظمة سينا العربية والشرطة.
كذلك تغيب رواية مكتملة عن دور رائد الشرطة نبيل محمد شرف وأربعة من الجنود هم عريف محمد محمد السني
وجندي محمد عبدالرءوف ورقيب إبراهيم السيد إسماعيل وجندي عنتر محمد حسب وجميعهم استشهدوا في معركة قسم الأربعين ويغيب ذكرهم عند أفراد المقاومة ربما بفعل غياب التنسيق المنظم. كذلك تغيب عنا ظروف استشهاد النقيب محمد عاصم أحمد حمودة والجنود التابعين له: رقيب أول محمد سلامة حجازي وعريف محمد مصطفى حفني وجنود الشرطة: الرقيب أول محمود أحمد عزب وجندي مطافئ محمد شيبة السيد متولي وعريف محمد الدندراوي العناني وجندي صلاح محمد محمود والغفير النظامي عبد الشافي محمد محمدين الذين استشهدوا في أماكن متفرقة في السويس وجميعم يرد ذكرهم في بيان مدير أمن السويس وقتها اللواء محيي الدين خفاجة.[3] كذلك يغيب ذكر كثير من المدنيين الذين كانوا داخل المدينة وشاركوا بدوافع وطنية.
ولعل ظهور مجموعة من الكتب والمؤلفات عن معركة 24 أكتوبر قد أسهم في تجميع مجموعة لا يستهان بها من الروايات الشفوية والشهادات والمقابلات التلفزيونية التي قام بها صحفيون ومراسلون عسكريون وكتاب غير متخصصين لا يمتلكون أدوات البحث التاريخي[4] ولذا لم تخضع هذه المواد لعملية تمحيص أو تحليل دقيق أو نقد تاريخي أو مقارنة بين الروايات. بل أتت كجُزر منفصلة لا يربطها رابط. فأتت تحمل تناقضات صارخة واتهامات لا يُرد عليها من الأطراف المختلفة. بل إن بعضها أتت منبهرة بالفعل النضالي وبنبرة تمجيدية في معظم الأحوال. وما يلفت النظر أن معظم هذه الشهادات قد أتت بعد سنوات طويلة من الحدث بحيث غابت طزاجة الحدث التاريخي واضطربت الروايات إما بفعل تراجع الذاكرة والوقت أو دخول تحليلات تالية في روايات الشهود. وتدمير روايات سجلت عقب المعركة مباشرة.[5]
كذلك تحضر الكتابات الإسرائيلية مثل كتاب "التقصير-المحدال"[6] الذي حرره مجموعة من الكتاب والمحللين الإسرائليين لحرب أكتوبر ويتضمن نحو فصلين عن معركة السويس.
(3)
وسط هذا الاضطراب المعرفي والتاريخي تأتي دراسة د. علياء مسلم "خلديهم يا بلدنا" تاريخ نضال السويس بين النكسة وحرب المئة يوم ويوم، ضمن كتاب "خمسون عامًا على حرب أكتوبر". الذي حرره د. خالد فهمي لتضيف إشكالات أخرى ناتجة عن هذا الاضطراب وعدم الدقة في التناول لمن جمع مادة عن المعركة أو من شهود للفترة التي تغطيها الدراسة موضوع البحث وتشمل فترة ما بعد هزيمة يونيو 1967 وفترة حرب الاستنزاف وصولًا إلى معركة 24 أكتوبر وحصار المئة يوم ويوم.
فالباحثة قد حددت منهجها منذ بداية الدراسة وهو الاعتناء بسردية تلك الأحداث التي سقطت عن التاريخ الرسمي... وأيضًا بكيفية سرد تلك الأحداث في السويس... وتوثيق علاقة الدفاع الشعبي والمستبقين وغير الرسميين مع الجيش المصري منذ أول لحظة رأى فيها سكان السويس علامات النكسة (الهزيمة).[7]
تنتقد الباحثة السجلات العسكرية مثل مذكرات "الشاذلي" التي تعزو الدفاع عن المدينة في 24 أكتوبر إلى صلاحيات محمد بدوي محافظ السويس أو إسترتيجيات فتحي عباس مسؤول المخابرات العسكرية أو جهود التعبئة التي قام بها الشيخ حافظ سلامة على حساب المدنيين الذين يدعون أنهم تحركوا من تلقاء أنفسهم.[8]
والحقيقة أن الباحثة قد أقحمت حافظ سلامة باعتباره شخصية رسمية فوضعته في مكان واحد مع المحافظ ممثل السلطة التنفيذية وقائد المخابرات كواحد من المؤسسة العسكرية متجاهلة أن حافظ سلامة لم يشغل أبدًا وطوال حياته التي تجاوزت تسعين عامًا أي وظيفة في الجهاز الحكومي للدولة. ولم تعامله الدولة أبدًا باعتباره جزءًا من الجهاز أو مواليًا له فيما عدا الاستعانه به في عمليات الوعظ والإرشاد على الجبهة حيث كان هو إمام مسجد الشهداء الذي لم يكن يتبع وزارة الأوقاف إنما يتبع "جمعية الهداية الإسلامية" الخاضعة لوزارة الشؤون الاجتماعية وقتها.
لكن حافظ سلامة اكتسب مكانته وسمعته قبل وأثناء وبعد المعركة كرجل دين "مستقل" وإن كان هو وتابعوه قد أطلقوا عليه لقب "قائد المقاومة الشعبية" فكان ذلك جزءًا من الرد على السردية الرسمية التي تنفي عنه أي دور مقاوم وتهمشه في مجرد أداء الشعائر و"تغسيل الموتى" كما تذهب رواية الفريق يوسف عفيفي.[9] في حين أنه لعب دورًا مهمًّا في المقاومة قد لا يكون القيادة -حيث غابت فعليًّا أي قيادة مركزية- لكن كانت القيادة ميدانية تخلقها ظروف كل مجموعة مقاومة. ولعل دوره الأساسي كان يكمُن في التوجيه الروحي ودعم فكرة المقاومة خاصة مع وجود علاقة قوية مع العميد عادل إسلام المستشار العسكري للمحافظة والتشاور الدائم أثناء المعركة بشأن الأوضاع داخل السويس وهو الأمر الذي أثار حفيظة المحافظ محمد بدوي الخولي ضد مستشاره العسكري فطلب من اللواء أحمد بدوي قائد الفرقة السابعة بالجيش الثالث بعد وقف إطلاق النار عزله، فتم له ذلك وأتم إسناد المنصب إلى العميد محمد الكتري.[10] كذلك لعب دورًا مهمًّا في تنسيق وتوفير المواد التموينية والمياه بحكم معرفته بالمدينة كأحد أبنائها فضلًا عن علاقاته المتشابكه مع الأفراد والجهات الرسمية بفعل التواجد المستمر في المدينة.
والحقيقة الفعلية أنه لا توجد سردية رسمية تُكرس حافظ سلامة كمقاوم أو قائد للمقاومة عدا شهادة رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي التي كتبها في فترة لاحقة ضمن مذكراته بعد إقالته من رئاسة الأركان والتي دوَّنها في فترة متأخرة فقد فيها صفته الرسمية. كذلك غيَّب الإعلام ذكره فيما عدا فترة قصيرة تلت حرب أكتوبر كُرم فيها ضمن من كرموا من أفراد المقاومة ضمن حفل رسمي حضره رئيس الوزراء ممدوح سالم أقيم في قصر ثقافة السويس. ولعل أجلى مظاهر تجاهله وتهميشه كان خطاب الرئيس السادات عقب أحداث 5 سبتمبر 1981 والتي عصف فيها السادات بمعارضيه من كل الاتجاهات واعتقلهم وخصص خطابًا طويلًا هاجم الجميع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ووصف في هذا الخطاب حافظ سلامه بلفظ "الراجل المجنون بتاع السويس".
والحقيقة التي أعرفها كأحد أبناء السويس وكواحد ممن أرخوا للسويس والحركة السياسية والثقافية فيها[11] أن مجموعة السويس في منظمة "سيناء العربية" قد ارتبطوا بعلاقات قوية مع شخصيتين ورد ذكرهما في دراسة د. علياء وهما الشيخ حافظ سلامة والكابتن غزالي باعتبار أن الشيخ هو الموجه الروحي وباعتبار الكابتن كان مدربًا لألعاب القوى فهو بطل جمباز ومصارعة ومعظم مجموعة المنظمة كانوا على علاقة به عبر مباشرة هذا النشاط. وقد ظلت المجموعة التي بقيت على قيد الحياة بعد استشهاد زملائهم تربطهم علاقات قوية مع كليهما حتي وفاة غزالي في 2017 وحافظ سلامة في 2021. وبالتالي تسقط فكرة كون أن حافظ سلامة جزء من السردية الرسمية.
(4)
هناك أجزاء في الورقة لم تُدقق معلوماتيًّا ولا تاريخيًّا وتحتوي على معلومات غير دقيقة مثل:
- ما تذكره الدراسة عن "سادات غريب" باعتباره "فدائي" والحقيقة أن الأستاذ سادات غريب هو نجل الفدائي "غريب محمد غريب" أحد أعضاء منظمة سيناء العربية وأحد المشاركين في عملية "وضح النهار"[12] وليس له أي علاقة بمعركة 24 أكتوبر.
- ما ذُكر عن موضوع تهجير الأهالي من السويس عقب هزيمة يونيو 1967 حيث ورد "في اليوم التالي لقصف مستودعات الوقود (في السويس في 24 أكتوبر1967) اتخذت لجان الأمن القومي المحلية التابعة للحكومة قرارًا بإخلاء الأشخاص غير الضروريين من مدن القناة.[13] وواقع الأمر أن قرار التهجير للسكان كان قد اتخذه مجلس الوزراء بعد الاعتداءات الإسرائيلية في 30 سبتمبر 1967 بتهجير سكان مدن القناة إجباريًّا وتعيين علي صبري نائب الرئيس ووزير الإدارة المحلية وزيرًا مقيما بمنطقة القناة.[14]
- ما تذكره الدراسة من أنه عند تطوير الهجوم شرقًا أن وزير الحربية أصدر قرارًا بأن "يتقدم الجيشان الثاني والثالث شرقًا رغم إصرار الشاذلي وآخرين على البقاء في أماكنهم"[15] لكن الثابت تاريخيًّا أن ما دفع إلى الضفة الشرقية كانتا الفرقتين 21 المدرعة من خلال الفرقة 16 مشاة "الجيش الثاني" والفرقة الرابعة المدرعة عدا لواء مدرع من خلال رأس كوبري الجيش الثالث[16] ولم يُدفع الجيشان بأكملهما الأمر هنا كان يحتاج إلى ضبط المصطلحات خاصة في التأريخ لمعركة بهذا الحجم.
- ما ذكرته الباحثة من أن القوات الإسرائيلية دخلت عبر حي "الجناين" إلى حي المثلث "حيث يتمركز الفدائيون"[17] والحقيقة أن المثلث لم تكن أبدًا مكانًا لتمركز الفدائيين حيث أنها كانت عبارة عن "مساكن شعبية" مهجوره في حين أن تجمع الفدائيين كان يبدأ من "مزلقان البراجيلي" وينتهي فيما بعد قسم شرطة الأربعين وفقًا للأكمنة التي نصبها المقاومون.
- تتحدث الباحثة عن تصدي المقاومة بمدفعيتها الهزيلة لسرب من الدبابات بالقرب من "محطة الأربعين".[18] والحقيقة أنه لا توجد معركة بهذا الاسم فمحطة السويس لم تدر حولها أي عمليات قتالية لأنها بالتحديد لم تكن تقع في مسار العمليات، فضلًا عن أنه لم تكن القوات تمتلك مدفعية إطلاقًا إلا إذا كان المقصود "المدافع الرشاشة".
(5)
الجزء الثاني من الدراسة عنوانه "السمسمية تؤرخ للحرب" وفيه تتناول الدراسة تجربة فرقة "ولاد الأرض" وقائدها
"الكابتن غزالي" وتقع الدراسة في بعض المزالق مثل:
- تذهب الباحثة إلى أن "ولاد الأرض" غنوا لانتقاد عبد الناصر بسبب الهزيمة التي لم تكن خطأ الجيش (الذي
يعتبرونه مكونًا من أولادهم وأولاد الشعب) بل خطأ القيادة العسكرية (التي خانتهم جميعًا، جيشًا وشعبًا) وغنوا
لاحقًا لانتقاد السادات بسبب معاهدة سلام زائفة[19]. والثابت تاريخيًّا أن "ولاد الأرض" لم تنتقد شخص عبد الناصر إطلاقًا بقدر ما ألقت مسؤولية الهزيمة على البيروقراطية والفساد والمثقفين المتقاعسين. كذلك فلا يوجد في أغانيها أي انتقاد لمعاهدة السلام إذ إنه في وقت توقيع معاهدة السلام سنة 1979 كان نشاط الفرقة قد توقف تمامًا. والصحيح أن نقد السادات لم ينقطع في فترة ما قبل حرب أكتوبر حتي إبعاد الفرقة عن السويس.
- تنسب الدراسة أغنية "يا ريس البحرية يا مصري" [الغنوة دي سلاحي، الغنوة دي كفاحي، ومدفعي صاحي عالكنال سهران] إلى الشاعر البورسعيدي "كامل عيد" مؤسس فرقة "شباب النصر" في حين أن مؤلف الأغنية الشاعر السويسي "كامل عيد رمضان" أحد مؤسسي ولاد الأرض وأن الأمر مجرد تشابه في الأسماء كان يحتاج إلى تدقيق.
- في تحليلها لأغنية "برهوم":
برهوم يا برهوم
يا بو زيد هلال
قوم صحي الناس
دي بلدنا
عايزانا كلنا
تذهب إلى أن قصة "برهوم" هي قصة "الحشاش والعامل والبحار العاديين الذين لولاهم ما كانت الحرب، فإن هؤلاء الأبطال يقفون على النقيض من أولئك المذكورين في التاريخ الرسمي، مثل: حافظ سلامة أو المحافظ محمد بدوي".[20] والحقيقة أن الباحثة تُصر على وضع حافظ سلامة ضمن التاريخ الرسمي وفي مقاربة مع قصيدة "برهوم" التي تنتمي إلى سياق آخر هو سياق الهزيمة وحرب الاستنزاف. وهي مقاربة مجافية للواقع لانتفاء السياق التاريخي الموضوعي والمنطقي.
- المعلومات الواردة عن الكابتن غزالي ضمن الدراسة غير دقيقة وغير محققة. فغزالي لم يقُم بتدريس التربية الرياضية في المدارس فهو كان موظفًا في وزارة الزراعة ولكنه عمل مدربًا في الساحات الشعبية لألعاب القوى وكان مسؤول شرق الدلتا في اتحاد ألعاب القوى. وقد التقته الكاتبة في "المرسم" الخاص به حيث كان يمارس مهنة إضافية هي "خطاط" ومع ذلك تذهب إلى أنه كان يقضي وقته في متجره.[21]
- تستشهد الباحثة ببيت زجلي يقول:
قولنا يا باسط لقيناها هاصت
سلمناها مصر الحرة ضيعهلنا عبدالباسط[22]
ويزعم من تسميه الباحثة "سيد" بأنه مؤلف هذين البيتين. والحقيقة أنها من تأليف الكابتن وكانت عبارة عن "تتر" يؤدى بشكل سريع ولا يستخدمه الكابتن إلا مع المقربين له. ويدعي "سيد" أنه تم الاستشهاد بأداء هذه الأغنية في منزل عبد الناصر مرارًا وتكرارًا، وبينما قبل عبد الناصر بعض الانتقادات، كان المغنون يشيرون مرة تلو الأخرى
إلي أن السادات لم يقبلها، والثابت تاريخيًّا أن "ولاد الأرض" لم يلتقوا عبد الناصر وجهًا لوجه أبدًا ولم يغنوا في بيته، وهل كان هناك من يجرؤ أن يمس شخصة بغناء صريح، ولنا أن نتذكر أغنية: الشيخ إمام: يا محلى رجعة ضباطنا من خط النار، التي غنيت في أعقاب الهزيمة وكيف أدت بإمام ونجم إلى السجن رغم أنها لم تمس شخص عبد الناصر. كما أن هناك نصًّا يُنسب إلى الكابتن غزالي باعتباره أحد نصوص "ولاد الأرض" وهو:
جابلك إيه يا صبية عبدالناصر لما مات؟
جابلي عِجْل من المنوفية اسمه أنور السادات[23]
هذا النص هو نص شاع في فترة ما بعد رحيل عبد الناصر ولا يُعرف من نظمه ولكنه ليس من أعمال غزالي ولا "ولاد الأرض" ولا قاموا بغنائه، علمًا بأن أغاني الفرقة لم تقتصر على نصوص غزالي بل شملت مجموعة من الشعراء منهم كامل عيد رمضان، عبدالعزيز عبدالظاهر، عطية عليان، زين العابدين فؤاد، فؤاد قاعود.
وفي نفس السياق تذهب الباحثة إلى القول بأن أغنية: "ياعم حمزة.. كبروا التلامذة وقالوا لأ بألف همزة" أدت إلى اعتقالهم لمدة 12 يومًا، كذلك سافر "ولاد الأرض" إلى القاهرة عام 1973 أثناء إضرابات الطلبة في الجامعات، وغنوا هذه الأغاني حتي تعلمها الطلاب، وكان هذا آخر عروضهم لتلك السنوات، فقد تم القبض عليهم بعد عدة أيام، وحجزوا في القلعة لبضعة أشهر[24]، وحقيقة الأمر أن هذه الواقعة غير صحيحة على الإطلاق فلم يتعرض غزالي أو أيّ من أعضاء الفرقة للاعتقال على خلفية الغناء أو نشاط الفرقة. لكن الصدام مع نظام السادات جاء مع قرار النظام حل المقاومة في السويس مطلع 1973 وجمع السلاح من أيديهم وارتفع صوت غزالي محتجًّا فصدر قرار في مارس 1973 بإبعاده عن السويس إلى قرية كفر السراية قرب بنها مع تحديد إقامته حتى عودته إلى السويس في 24 أكتوبر 1974.
خاتمة
وتبقى لدينا بعض ملحوظات ختامبة على منهج الدراسة ورصدها للأشخاص والحوادث، فالورقة بدأت بفكرة مسبقة عن اختيار منهج محاولة "تجلية الروايات" التي سقطت عن التاريخ الرسمي دون أن تحدد الأسس التي ستنتهجها لتحديد التاريخ والرواية الرسمية من غير الرسمية "المهمشة" فاعتمدت على روايات شفوية -لا ضير في توظيفها- لكن وفقًا لشروط الكتابة التاريخية التي تلجأ إلى مقارنة الروايات ومراجعتها ونقدها ولكن يبدو أن ذلك لم يتم اتباعه. حيث تم اتباع "إقصاء" وفقًا لمنهج "أيديولوجي" لجزء من سردية المقاومة بمحاولة الفصل بين شخص حافظ سلامة والمقاومة باعتباره جزءًا من "رواية السلطة" والحقيقة أننا قد نعتبر حافظ سلامة جزءًا من سلطة "الثقافة السائدة" التي نصبته "قائدًا للمقاومة" اعتمادًا لروايته عن رغبة المحافظ محمد بدوي الخولي في التسليم. والمدهش أن الباحثة قامت بعمل مزدوج إذ اعتمدت رواية حافظ سلامة عن رغبة المحافظ في تسليم المدينة ثم تلتها بإقصاء صاحب الرواية واعتباره جزءًا من رواية السلطة.
والحقيقة -كما سبقت الإشارة إليه- فإن غياب قيادة موحدة للمقاومة نظرًا إلى ظروف الحرب والقتال وتقطع السبل بين كافة الأطراف ساعد على ذلك. فالمحافظ عدل عن فكرة الاستسلام بعد استشارة القيادة في القاهرة بل إن هناك رواية من أحد أفراد منظمة سيناء بمشاهدته للمحافظ يتابع أعمال مقاومة قام بها أفراد من الجيش يُعتقد انتسابهم إلى الفرقة 19 وفدائيون من منظمة سيناء العربية. حيث يذكر الفدائي محمود أحمد طه وهو أحد أفراد معركة قسم شرطة الأربعين في شهادة له: "الملحمة اشتعلت في الأربعين بقيادة المحافظ محمد بدوي ومدير الأمن محيي الدين خفاجة كانوا متواجدين في ميدان الأربعين وكان معهم إتنين فدائيين هما غريب محمد غريب وعبدالمنعم حسين خالد الله يرحمهم مع بقايا الجيش الثالث الميداني ومع الشرطة ومع ناس مكلفين، وكان ميدان الأربعين عبارة عن مجزرة. بقوا ينطوا من العربيات من كتر الضرب عليهم بالأسلحة الخفيفة حتي وصل إلى منتصف "الكول". كان عند الجعار (مطعم أسماك) الشهيد أشرف عبدالدايم، واللي في آخر "الكول" كان الشهيد أحمد أبو هاشم وكان معاه توفيق حسان وده كان نقيب في الجيش واستشهد معاه بعض عساكر[25].
ما نستخلصه من الرواية السابقة هو أن سردية معركة 24 أكتوبر 1973 غابت عنها الرؤية الشاملة بسبب تقطع السبل بين المقاومين بعضهم وبعض وقت المعركة في ظل غياب وسائل اتصال وما يرويه الفدائي محمود عواد أعلاه هو حدثٌ دار على بعد 500 متر هي المسافة بين قسم شرطة الأربعين وميدان ومسجد الأربعين فما بالك بمدينة كانت تموج بالمقاومين.
ومن هنا فعلي المؤرخ الذي يسعي إلى بناء رواية كاملة للمقاومة في السويس أن يحاول التنسيق بين هذه الروايات وفقًا لموقع كل مجموعة شاركت في المقاومة وتعريضها للفحص والنقد والمقارنة والمراجعه على عكس ما فعلت د. علياء مسلم عندما اعتمدت على روايات شفوية لم تراجعها ولم تخضعها لمنهج النقد والتحليل التاريخي وانصرفت إلى منهج إنثربولوجي يرصد الظواهر من جانب واحد ويُغلب رواية على أخرى دون رؤيتها وتحليلها داخل إطارها الثقافي والاجتماعي والسياسي العام، واللجوء إلى تعميمات وأحكام انطباعية لا تستند في معظمها إلى مصادر موثقة بل إلى وجهات نظر وانطباعات شخصية رويت بعد تمام الحدث بنحو 40 عامًا وذلك في 2012 تاريخ تحرير الدراسة.
1- الفريق يوسف عفيفي، أبطال الفرقة 19 -مقاتلون فوق العادة- دار الصفوة، القاهرة 1990، ص 186.
2- الفريق يوسف عفيفي: نفس المرجع 184.
3- حسين العشي: خفايا حصار السويس، مائة يوم مجهولة في حرب أكتوبر 1973، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1996 ص 128.
4- من أشهر هذه الكتابات:
حسين العشي، خفايا حصار السويس، مائة يوم مجهولة في حرب أكتوبر 1973، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1996.
محمد الشافعي: شموس في سماء الوطن، اليوبيل الفضي لنصر أكتوبر، أبطال المقاومة الشعبية في مدن القناة. الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1998.
محمد الشافعي: السويس مدينة الأبطال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1999.
حامد حسب: السويس تجربة مدينة، المقاومة، الحصار، الانتصار. الهيئة العامة لقصور الثقافة 2010.
سليم كتشنر: حكايات مصرية من مدن القنال، يوميات المقاومة الشعبية، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2013.
محمد أبو ليلة: كل رجال السويس، دار كنوز، القاهرة 2015.
مذكرات حافظ على أحمد سلامة:
أ- ملحمة السويس في حرب العاشر من رمضان، حقائق ووثائق للعبرة والتاريخ، دار النصر للطباعة الإسلامية. القاهرة 2000.
ب- خفايا وأسرار الثغرة المشئومة في حرب رمضان، الدروس المستفادة للعبرة والتاريخ موثقة بوثائق تنشر لأول مرة، رسائل النور، القاهرة 2006.
5- عرفت من د. محمد أنيس الذي كان أستاذي في آداب القاهرة سنة 1984 أنه وثق شهادات أفراد المقاومة الشعبية في السويس سنة 1974 على جاهز "ريكورد شرائط بكر" وأودعها مركز إعلام السويس وبالسؤال عنها علمت أنها تلفت في عملية نقل المركز من مكان إلى آخر. ولا أدري هل احتفظ د. أنيس بنسخة قي مركز توثيق تاريخ مصر المعاصر في الهيئة المصرية العامة للكتاب أم لا.
6- يوشيعيا هوبن وآخرون: التقصير "المحدال"، سلسلة الدراسات الفلسطينية 38، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1974.
7- د. خالد فهمي (تحرير): خمسون عامًا على نصر أكتوبر، دار المرايا، القاهرة 2024، د. علياء مسلم: "خلديهم يا بلدنا" تاريخ نضال السويس بين النكسة وحرب المائة يوم ويوم، القاهرة، ص 202.
8- د. علياء مسلم: المرجع السابق ص 210.
9- الفريق يوسف عفيفي: المرجع السابق، ص 192.
10- حافظ سلامة: خفايا وأسرار الثغرة المشئومة في حرب رمضان، ص 110.
11- أنور فتح الباب: موقع مدى مصر، كابتن غزالي.. فنّ ولادنا نلمّه، نسنّه، ونعمل منه مدافع، 5 إبريل 2017.
12- د. علياء مسلم: المرجع السابق ص 205 (الهامش).
13- د. علياء مسلم: المرجع السابق ص 205.
14- د. أسماء محمد محمود: سكان مدن القناة بين الاستقرار والتهجير (1967/1974) مجلة مصر الحديثة المجلد 17.
العدد 18 القاهرة 2019، ص 250
15 د. علياء مسلم: نفس المرجع، ص 208.
16 الفريق سعد الدين الشاذلي: حرب أكتوبر (مذكرات)، د.ن لندن، 1988، ص246.
17- د. علياء مسلم: ص 211.
18- علياء مسلم: المرجع السابق ص 210.
19- علياء مسلم: المرجع السابق ص 213.
20- علياء مسلم: المرجع السابق ص 217،هامش الصفحة.
21- علياء مسلم: المرجع السابق 218.
22- علياء مسلم: المرجع السابق ص 228.
23- علياء مسلم: المرجع السابق ص 228.
24- علياء مسلم: المرجع السابق ص 229.
25- سليم كتشنر: حكايات مصرية من مدن القنال -يوميات المقاومة الشعبية- الهيئة العامة لقصور الثقافة. 2013. القاهرة، ص112 شهادة محمود أحمد طه.