مراجعات
ممدوح حبيشيكتاب: "أبناء نوت وأساطير أخرى"
2024.11.02
كتاب: "أبناء نوت وأساطير أخرى"
هذه المقالة لن تكون عرضًا أو قراءة تقليدية لكتاب محمد أ. جمال المهم، والمعنون بـ"أبناء نوت وأساطير أخرى: حكايات مصرية عتيقة"، بقدر ما هو أقرب إلى حوار مع الكتاب وتفاعل مع المساحات التي يطرحها عبر صفحاته والمعاني التي تختبئ أحيانًا خلف سطوره،
ستحاول هذه القراءة التوقف عند استكمال المؤلف للمحات ذكية لامعة أشار إليها أحيانًا في المتن وأخرى في الهامش عن تأثير الأسطورة كما يقدمها جمال عبر كتابه وبقايا بعضها داخل ثقافتنا المصرية، ذلك أنه -قبل الإبحار في رحلتنا مع الكتاب- علينا معرفة أن كثيرًا مما نعيشه ونختبره من مفردات لغتنا أو الحكايات الشعبية التي تعيش في وجداننا تأبى مغادرة صفحات الذاكرة ومعتقدات وتقاليد وعادات الميلاد والحياة وكذلك الموت وما بعده، بل حتى الأمثال الشعبية التي تحيا على ألستنا ونشم بها المواقف والأحداث ونصفي بها الحكمة والمعرفة ونتناقلها لنعفي أنفسنا والآخرين كلفة التجربة ووطأة ثمنها أحيانًا، ليست إلا نتاج عناصر وبقايا من هذه الأساطير المصرية رغم أنها بعيدة أو بعدت عنا، ما يجعل كثيرًا منا يجهلها، وبعضنا تصل إليه أطياف منها تكون في بعض الأحيان مشوهة أو غير دقيقة أو خطأ، أوقات كثيرة يشعر المصريون حتى المثقفون منهم بأنها ليست من حقنا بل من حق علماء الآثار أو التاريخ، هي بالفعل عاشت هناك أسيرة أروقة معاهد البحث وردهات المتاحف ولا يأتي ذكرها خارج مذكرات البحث والرسائل العلمية إلا قليلًا.
في هذا الكتاب نحن أمام سرد سلس صاغه محمد أ. جمال داخل قالب درامي مشوق، معتمدًا على استخدام آليات سردية عده لتحقيق هذا التشويق لإثارة فضول القارئ وأحيانًا الاسترجاع والتوقف والسرد المتوازي وإخفاء المعلومات بشكل قصدي عن القارئ في أحيان أخرى، فنحن أمام بناء سردي يليق برواية أو ملحمة بامتياز، ولمَ لا؟ فالأساطير هي حكايات الآلهة، وهي في رأي نورثراب فراي "نوع معين من القصة، قصة بعض شخصياتها آلهة أو مخلوقات أكثر قدرة من البشر، ومن النادر وجودها في تاريخ الأحداث الماضية، فعملها يحدث في عالم هو فوق الزمن العادي أو سابق له"، حاول بها الإنسان البدائي تفسير ظواهر الحياة والطبيعة والكون وحتى النظم الاجتماعية، وهي عند الإنسان قديمًا عقيدة لها طقوسها وهي كما يقترح عبد الحميد يونس حينما يتعرض "مجتمعها لتغيير أو تطوير أن تتفكك وتترسب في اللاشعور لتتحول لشعيرة أو ممارسة أو يعاد صياغتها في حكايات شعبية".كما أن فراس سواح يراها -الأسطورة- شكليًّا تُعتبر من أشكال الأدب الرفيع، هي قصة تحكمها قواعد السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها، جرى في أغلب الثقافات المعقدة صياغتها في قالب شِعري تداوله شفاهة بين الأفراد وعبر الأجيال. إخراج اللسان تحديًا
في الصفحات الأولى حكي لنا الكتاب أسطورة الخلق عند المصريين القدماء حيث كانت نون المحيط السرمدي، مياه ساكنة لانهائية لا موج فيها ولا سقف لها، كذرات الحديد الممغنطة تجمعت على بعضها ذرات ملكت الرغبة في الحياة والوجود فخلقت أول مظاهر الحياة: التل الطيني بنبن الذي ما لبث أن منح نفسه الحياة وخلف نفسه بنفسه فأصبح الإله الأول من سيعرف فيما بعد برب الأرباب "أتوم" الذي عانى الوحدة فقرر الشروع في الخلق، فخلق الهواء (شو) والماء والرطوبة (تفنوت) والسماء وقوانين الفيزياء والأخلاق (ماعت) ثم خلق الشمس و حينما بكت عينه الشمسية من التأثر، وقتها تأمل العالم الذي أبدع فذرفت عيناه الدموع فإذا بهذه الدموع قد تحولت لنا كبشر، وحينما ذرفت الشمس الدمع كانت حتحور ربة الجمال. كان أتوم قد خلق عديدًا من الآلهة الفرعية ذوات الشأن المتواضع، ولأن العالم كان ثابتًا فكانت هناك أراض يشملها نور الشمس دومًا وأماكن أخرى كانت مظلمة طوال الوقت، فتآمر عدد من الآلهة متواضعو الشأن محاولين الانقلاب والتمرد علي رب الأرباب، حتى إن أرسل إليهم أتوم وزيره وكاتم سره يدعوهم إلى ترك ما ينوون فعله تحدوه وأسروه، فيعود إلى رب الأرباب ويحكي له ما يحدث مستطردًا:
"ليس هذا فقط، بل أخرجوا لي ألسنتهم أيضًا
- أخرجوا لك ألسنتهم؟
قالها أتوم رع بغضب حتى فارت عين الشمس وكادت تحرق الحاضرين".
وهنا يشرح مؤلف الكتاب السبب الحقيقي الكامن وراء ثورة رب الأرباب العارمة: "الحقيقة أنه عند الآلهة المصرية وربما المصريين القدماء جميعًا، كان فعل إخراج اللسان بمثابة أسوأ درجات التحدي والإهانة وإعلان العداوة والبغض، فهو تعبير عن نية مخرج اللسان في تدمير عدوه بالكامل حتى لا يعود له وجود، واحتقاره الكامل له ولكل ما يمثله".
هو نفس السلوك المستهجن الباقي معنا حتى الآن في حياتنا، ألا يمارسه الأطفال بنفس المعنى وهو التحدي والسخرية، كم من أم وأب صرخوا: "عيب" عندما يخرج واحد من أطفالهم لسانه متحديًا وساخرًا من صديق أو شريك لعب أو حتى أحد الوالدين من دون أن يعرف السبب وراء ذلك العيب أو مسوغاته، بالتأكيد تم تخفيف المعنى ولم يعد المعنى المباشر الرغبة في إزاله من يخرج له اللسان من الوجود أو تدميره كليًّا وهي ممارسة معتادة من تخفيف حمولات المعنى العنيف والقاسي لبعض الأساطير خاصة وإن تضاءلت فتحولت إلى عادة كما هو الحال في إخراج اللسان حتى فقدت صلتها وعلاقتها المباشرة والواضحة بأصلها الأسطوري أو كادت، ولكن العادة ظلت محتفظة بمعناها المستمد من الأسطورة المصرية القديمة.
خدوا فالكم من عيالكم
حينما اختفى أوزير، إثر مؤامرة من أخيه الغاضب والحاقد والحاسد ست عليه، خرجت زوجته المحبة والمخلصة إيزه (إيزيس) للبحث عنه في كل مكان دون جدوى. لم تقدر الربة الساحرة القوية على إيجاده، ومن ساعدوها كانوا مجموعة من أطفال البشر، حيث تجمعوا حولها واستطاعت قتل الخوف بداخلهم حينما طمأنتهم وأهدتهم قطع القصب، القطعة تلو الأخرى فتنافسوا في تزويدها بالمعلومات والتفاصيل. قصوا عليها القصة بأنهم شاهدوا خدم ست يحملون التابوت الذي يحوي جسد أوزير ويلقون به في النهر الذي حمله معه متجهًا شمالًا نحو البحر. لذا وكما يشير المؤلف في هامش الصفحة التي يحكي فيها الحكاية:
"نتيجة للكشوفات المتتالية الكبرى التي عرفتها إيزة من هؤلاء الأطفال، صار المصريون القدماء يقدسون أقوال الأطفال ويؤمنون بأنها تحمل النبوءة، ولم يكن من الغريب أن يستشير الكبار أطفالهم في أمورهم ويحاولون تفسير كلماتهم الطفولية بحثًا عن نبوءات أو رسائل إلهية متضمنة".
ألا يشير هذا المعتقد المصري القديم والمنحدر عن تلك الأسطورة التي ساعد فيها الأطفال على المعرفة وكشف الحقيقة وتبيّن الأسرار لمثل مصري ما زلنا نتداوله ونضربه من حين إلى آخر: خدوا فالكم من عيالكم؟
هنا نحن أمام معتقد مشفَّر داخل مثل شعبي حي نابع من داخل الثقافة المصرية، مكتنز بدلالات وعلاقات خفية بماضٍ أسطوري، فكم واحدًا ممن يضربون هذا المثل أو يُضرب لهم يعلمون شيئًا عن هذه الروابط أو العلاقة الممتدة عبر آلاف السنوات؟
طقوس الحداد والموت
في موقع متقدم من قصة الخلق التي يحكها الكتاب، تتلقى إيزه (إيزيس) خبر موت زوجها أوزير (أوزوريس):
"كانت جالسة فنهضت، وخلعت رداءها اليومي، وارتدت عباءة كتانية بيضاء وقصت إحدى ضفائرها السوداء، فعلان سيصبحان من الآن فصاعدًا رمزًا للحداد في كيميت وخرجت".
إشارة ذكية وتعليق مكتنز يشير به المؤلف إلى هذا الفعل الذي تحتويه الأسطورة فيتحول إلى رمز وممارسة وعادة تستمر وتخرج خارج حدود الأسطورة للممارسة اليومية، وفي الحقيقة أن أهل كيميت لم يتوقفوا عن فعل ذلك حتى أوقاتنا هذه التي نحيا، فما زالت النساء حفيدات إيزه يخلعن رداءهن اليومي عندما يفقدن عزيزًا أو غاليًا ويرتدين رداء الحداد، نعم انقلب الأبيض إلى أسود نتيجة عوامل تاريخية متعاقبة وطويلة ولكن ما زالت الفعلة التي خلقتها الربة المصرية القديمة يفعلنها في حياتهن اليومية كما استمرت عادة قص الجدائل حدادًا حتى وقت قريب، وما زالت ممارسة قص الشعر تمارس كدليل على الحزن أو المعاناة النفسية وأحيانًا كفعل اعتراض واضح.
طقوس الموت وعادات الحداد لا تتوقف في الكتاب عند هذه اللحظة بل تمتد إلى ما هو أبعد حينما تجد إيزه جسد زوجها الذي غدر به أخوه ست وتخبئه في أحد الكهوف استعدادًا لممارسة طقوس الحمل منه للحصول على وريث شرعي لعرشه الذي اغتصبه أخوه، ينجح ست في سرقة الجسد وتقطيعه ونثر أشلائه في أقاليم مصر حتى لا تستطيع إيزه إيجاده، وحينما تكتشف إيزه وأختها ذلك تغرقان في الدموع وشق الثياب وشد الشعر واللطم وإهالة التراب فوق الرأس والعويل، وهذه الطقوس التي ناحتا بهما الربتان، كما يعلق المؤلف، "ستظل باقية في هذه البلاد بين البشر ولا تزال صدى أفعالهن القديمة يتردد بين نساء عالمنا المعاصر خاصة في قرى صعيد مصر في طرق الحداد على الراحلين وأغاني الندابات وأشعار العديد".
نمتي المقابر:
حينما وجدت إيزه جسد زوجها وجمعته واتفقت مع أنبو (أنوبيس) الذي سيصبح إله التحنيط فيما بعد، فيقوم بتحنيطه وإعداده للعالم الآخر والحفاظ علي جسده حتى حينما تقرر روحه العودة إلى جسده تستطيع إيجاده، فخلقت بذرة العالم الآخر وكذلك البعث الذي سيتشكل حينما يتخذ أوزير طريقه في العالم الآخر صانعًا مملكته هناك، مملكة الموتى، وبينما هي تحضر لهذه الرحلة، قررت أن تبتعد في جزيرة نائية منعزلة كي تضمن الهدوء والخصوصية ولكن سرعان ما ستكتشف أن السر قد كشف وتملك الفضول من جميع الآلهة ورغبوا في معرفة ما تفعله تحديدًا إيزه (إيزيس) بمساعدة أنبو (أنوبيس)، فتهافتوا متحججين بتقديم واجب العزاء (بالمرة) إلى الشقيقتين، فوجدت إيزه نفسها مضطرة إلى استقبال الوافدين وتلقي التعازي.
إيزه (إيزيس) اخترعت طقوس العزاء وزيارة أهل الميت لتقديم واجب العزاء وهو ما زلنا نعيشه في كل لحظة من حيواتنا.
نحن لا نتحدث هنا عن مجرد تواصل واستمرارية ثقافية وحضارية بين ثقافتنا اليوم والحضارة المصرية القديمة، بل لما هو أبعد من ذلك وأعمق، نحن في الحقيقة في عديد من نواحي حياتنا وطقوسنا وعاداتنا، بل وفي بعض معتقداتنا نكتشف أننا نعيش أساطير المصريين القدماء، أساطير أبناء نوت، حتى وإن كنا لا ندرى ذلك في كثير من الأحيان.