فنون

محمد دياب

كمال الطويل.. فارس الأغنية الوطنية وحرب أكتوبر

2024.03.10

مصدر الصورة : الجزيرة

كمال الطويل.. فارس الأغنية الوطنية وحرب أكتوبر

"دولا مين؟ ودولا مين؟ دولا عساكر مصريين / دولا مين؟ ودولا مين؟ دولا ولاد الفلاحين" هكذا تغنى الموسيقار كمال الطويل (11 أكتوبر 1923 – 9 يوليو 2003)، الذي مرت ذكرى مئوية ميلاده في أكتوبر الماضي دون احتفالية تليق بمكانته ومنجزه الموسيقي، وهو الشهر نفسه الذي احتفلنا فيه باليوبيل الذهبي لانتصار أكتوبر 1973، الذي كان محطة فارقة في مسيرة الطويل؛ حيث كان حافزًا له على العودة إلى التلحين بقوة بعد اعتزال دام نحو خمسة أعوام، كانت أغنية "دولا مين" واحدة من بين ست أغنيات تجلى فيها الطويل وقدمها للمعركة.

يُعَد الموسيقار كمال الطويل من بين أعلام الأغنية الوطنية في النصف الثاني من القرن العشرين، تحديدًا في عصر ثورة يوليو 1952 التي كوَّن خلالها ثلاثيًّا وطنيًّا مع الشاعر صلاح جاهين والمطرب عبد الحليم حافظ، عبر أغنيات مثل: "إحنا الشعب" 1956 بمناسبة اختيار عبد الناصر رئيسًا للجمهورية، و"بالأحضان" عام 1961، و"المسؤولية" عام 1963، و"يا أهلا بالمعارك" عام 1965، و"صورة" عام 1966 جميعها قُدمت في حفلات عيد الثورة.

وقدَّم الطويل لعبد الحليم أغنيات لشعراء آخرين، مثل: "يا جمال يا حبيب الملايين" 1958 في مناسبة اختيار عبد الناصر رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة، من أشعار إسماعيل الحبروك، و"غني يا قلبي" 1958 عن وحدة مصر وسوريا، و"حكاية شعب" في مناسبة وضع حجر أساس السد العالي 1960، و"مطالب شعب" لأحمد شفيق كامل 1962، و"بلدي يا بلدي" لمرسي جميل عزيز 1964. 

 شارك الطويل بألحانه في الحروب الثلاث التي خاضتها مصر بعد الثورة، حرب "العدوان الثلاثي" 1956 التي قدم خلالها أحد أشهر أناشيدها: "والله زمان يا سلاحي"، الذي كتبه صلاح جاهين، وغنته أم كلثوم، واختير ليصبح أول نشيد وطني لمصر منذ عام 1960 وحتى عام 1979؛ كما قدم خلال الحرب نفسها أغنيتي "إني ملكت في يدي زمامي" من شعر مأمون الشناوي، و"الله يا بلدنا الله على جيشك والشعب معاه" كلمات: أنور عبد الله، وكلتاهما غناء عبد الحليم حافظ، وفي عدوان 1967 قدم الطويل سبعة أناشيد لصوت عبد الحليم حافظ، من أشعار عبد الرحمن الأبنودي من بينها: "أحلف بسماها وبترابها"، و"ابنك يقولك: يا بطل هاتلي النهار"، وختمها بـ: "ناصر يا حرية " لصلاح جاهين، التي ناشد فيها ناصر بالتراجع عن قرار التنحي. وهي أعمال لا زالت حاضرة في الوجدان إلى اليوم.

بعدها أعلن الطويل اعتزاله التلحين؛ لأنه يائس ومحبط من الوسط الفني حسب تعبيره، وفي ديسمبر من عام 1971 أعلن الطويل عن عودته إلى ممارسة التلحين مجددًا بأغنية "يا قمر يا اسكندراني" التي كان مقررًا أن تغنيها شادية، لكن الأغنية تأخرت في الظهور وخرجت فيما بعد بصوت المطرب محمد رشدي، وفي العام التالي 1972 عاد الطويل فعلًا إلى التلحين، وكانت أغنية "يا واد يا تقيل" للشاعر صلاح جاهين هي أغنية العودة، التي لحنها لسعاد حسني بناءً على طلبها؛ لتقدمها في فيلم "خللي بالك من زوزو" للمخرج حسن الإمام، الذي عُرض في نوفمبر 1972، حينها تهكم البعض على جاهين والطويل وقالوا: إنهما باعا القضية واتجها إلى تقديم أغانٍ خفيفة بعد وطنياتهما الكبيرة.

لكن القدر كان يخبئ أمرًا آخرَ؛ ففي السادس من أكتوبر عبرت قواتنا قناة السويس ودكت خط بارليف، كان هذا الحدث العظيم في رأيي هو المحرك الأكبر في عودة الطويل، الذي طالما اتُّهم بالكسل الفني، إلى التلحين وبقوة، فقدم ستة ألحان عظيمة للمعركة وللنصر، كان أولها نشيد: "خللي السلاح صاحي" الذي كتبه أحمد شفيق كامل، وغناه عبد الحليم حافظ في نحو دقيقتين على إيقاع المارش، وقدم النشيد بعد صدور قرار وقف إطلاق النار من مجلس الأمن في 22 أكتوبر 1973، وهو القرار الذي لم يلتزم به العدو حينها؛ لذا فالأغنية تحذر "خللي السلاح صاحي / لو نامت الدنيا صاحي، مع سلاحي / سلاحي، في إيديا نهار وليل صاحي/ ينادي يا ثوار، عدونا غدار، خلي السلاح صاحي".

وهي الأغنية الوحيدة التي قدمها عبد الحليم خلال المعركة على إيقاع المارش من بين ستِّ أغانٍ له، تبعها الطويل بلحن بديع كتب كلماته الشاعر مجدي نجيب، وغنته المطربة نجاة الصغيرة، حمل عنوان: "النهارده كل شيء يا بلادي" تقول بعض كلماتها: "كلمة سلاح يا بلادي، إيد عالزناد يا بلادي/ عزم الرجال يا بلادي، أصبح له معنى / كلمة صمود يا بلادي، صوت البارود يا بلادي/ ما فيش محال يا بلادي، أصبح له معنى". 

في فبراير من العام التالي 1974 قدم الطويل للنصر أغنيتين؛ الأولى: كانت لعبد الحليم حافظ وهي: "صباح الخير يا سينا" للشاعر عبد الرحمن الأبنودي، وهي الأغنية الوحيدة التي قدمها الأبنودي للمعركة، وكتبها بطلب من عبد الحليم الذي هاتفه في لندن معاتبًا له: "أيُعقَل أن تكتب لي أغانيَ يونيو 1967، ولا تكتب لي أغنية واحدة عن النصر؟!"، فأرسل له الأبنودي نص الأغنية التي تعبر كلماتها عن الفرحة بعودة سيناء مجددًا إلى حضن الوطن: "وصباح الخير يا سينا، رسيتي في مراسينا / تعالي لحضننا الدافي ضمينا وخدينا يا سينا".

الأغنية الثانية أغنية فرح عبرت عن الموضوع نفسه، العبور إلى الضفة الأخرى من قناة السويس، حملت عنوان: "عالبر التاني"، غنتها نجاة الصغيرة، من كلمات مرسي جميل عزيز، تقول بعض كلماتها: "عالبر التاني وعدينا، عالبر التاني/ حضنتنا الفرحة وعدينا، عالبر التاني/ ولقينا العيد مستنينا، عالبر التاني/ ويا سينا ورسينا، عالبر التاني".

 

سعاد حسني تطلب أغنية، وعبد الحليم يتخلى عن أخرى: 

في الشهر التالي مارس من العام نفسه، قدم الطويل لحنًا جديدًا غنته الفنانة سعاد حسني، التي كشفت لجمهورها عن وجه جديد غير وجه الفتاة المرحة الشقية الذي قدمته في فيلم "خللي بالك من زوزو"، وجه الفتاة التي تشعر بالمسؤولية الوطنية، قدَّمت سعاد لأول مرة في مسيرتها الفنية أغنيات وطنية للمعركة وللنصر، أولها: كانت "تلك الأغنية التي كتبها لها صلاح جاهين، ولحَّنَها سيد مكاوي، أخذ مطلعها من شعار كان أطلقه الزعيم جمال عبد الناصر "ما أُخِذ بالقوة لا يسترد بغير القوة". 

 أما أغنيه كمال فلها قصة: في مطلع عام 1974 أمضى كل من الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم سهرة في منزل المخرج علي بدرخان وزوجته النجمة سعاد حسني بدعوة من بدرخان، غنى خلالها الأول أغنيته الجديدة التي كتب نجم كلماتها بمناسبة الانتصار: "دولا مين؟ ودولا مين؟" أبدت سعاد إعجابها بالأغنية، وطلبت من شاعرها أن يسمح لها بغنائها، على أن يتولى الموسيقار كمال الطويل تلحينها من جديد، وبالفعل خرجت الأغنية إلى النور بصوت سعاد ولحن جديد ومختلف للطويل؛ ليمنحها صوت سعاد ولحن الطويل حياة جديدة وبُعدًا جديدًا جعلها إحدى أيقونات أغاني المعركة.

 ولأن كلمات الأغنية تبدأ بجملة طفولية: "دولا مين؟" استخدم الطويل كورس من الأطفال؛ ليكثِّف الشعور بالبهجة والفرحة بالنصر، تقول بعض كلمات الأغنية التي تشير إلى جنود الجيش المصري: "دولا الورد الحر البلدي/ يصحي يفتح تصحي يا بلدي / دولا خلاصة مصر يا ولدي، دولا عيون المصريين"، الطريف في أمر الأغنية، غير كونها خرجت إلى النور بلحنين مختلفين، هو أن سعاد عندما غنتها في حفل في عام 1974 بدلت الجملة الأخيرة فيها من "طول ما بهية في حضن ياسين" إلى: "طول ما اصحاب البيت صاحيين"! ويبدو أنه كانت هناك محاذير رقابية على الجملة رغم موافقة الإذاعة على النص الذي سُجِّل دون تعديل.

الأغنية السادسة والأخيرة التي قدمها الطويل لنصر أكتوبر، وضعها خصيصًا لصوت عبد الحليم حافظ، حملت عنوان: "الباقي هو الشعب"، وكتبها الشاعر سيد حجاب، في بداية الحرب كان حليم قد عرض على الطويل نص أغنية "عاش اللي قال" للشاعر محمد حمزة؛ ليلحنها له، ولكن كمال ما إن قرأ أول كلمات القصيدة حتى أعادها لعبد الحليم قائلًا له: لن ألحن بعد اليوم في مدح شخص أو رئيس مهما بلغت عظمته، وإذا أردت أغنية من ألحاني فلتكن تحية للشعب المصري. وبعدها بأربعة أشهر، وفي فبراير من عام 1974، أعجب الطويل بكلمات أغنية للشاعر سيد حجاب تحمل عنوان: "الباقي هو الشعب" وقام بتلحينها، وقام بتسجيل موسيقى الأغنية وصوت الكورال على الموسيقى، وطلب من حليم أن يحضر إليه في الاستديو ليسمعه الأغنية تمهيدًا لتسجيل صوته على موسيقى الأغنية، وحسب ما ذكر الدكتور هشام عيسى الطبيب الخاص بعبد الحليم حافظ في كتابه "حليم وأنا": رفض حليم بدوره أن يغنيها، وكانت حجته: أن هذا المؤلف شيوعي، وأن الأغنية التي كُتِبت وقت حدوث الثغرة فيها تعريض بالجيش.

 تبدو الأسباب التي ساقها الدكتور هشام عيسى، الذي كان شاهدًا على الواقعة لرفض حليم للأغنية غير مقنعة؛ فقد سبق لحليم أن غنى لشعراء ينتمون للتيار نفسه منهم عبد الرحمن الأبنودي الذي سُجن عام 1966 بتهمة الانضمام لخلية شيوعية تُدعى "الخلية الصينية"، كما غنى حليم للشاعر محسن الخياط أكثر من أغنية؛ منها: "سكت الكلام والبندقية اتكلمت"، من ألحان بليغ حمدي عام 1969، و"لفي البلاد يا صبية" خلال حرب أكتوبر من ألحان محمد الموجي، كما غنى حليم من ألحان إبراهيم رجب عام 1968 أغنيتي: "من قلب المواكب"، و"يا بلدنا لا تنامي" وكلاهما ينتمي للتيار نفسه.

على أية حال، كان من نتيجة هذا الخلاف الذي شبَّ في الاستديو بين حليم والطويل، أن انسحب حليم وغادر الاستديو، وعندها قام الطويل بالاتصال بالمطربة عفاف راضي، وطلب منها الحضور فورًا إلى الاستديو - كما روت بنفسها في برنامج تليفزيوني - وسجلتها بصوتها، تقول كلمات الأغنية الجميلة: "الباقي هو الشعب، والباني هو الشعب / ولا فيه قوة ولا فيه صعب، يصدوا زحف الشعب / مشوارنا الطويل يا بلدي مشوار الفدا / لو كان ألف ميل يا بلدي ما خلاص ابتدا / تنادي الندا وعلينا اللي باقي، والباقي هو الشعب". 

بعد تسجيل الأغنية صورتها عفاف راضي تصويرًا تلفزيونيًّا أبيض وأسود، ولحسن الحظ توجد نسخة منه مرفوعة على موقع يوتيوب لمن يود مشاهدتها، الطريف في أمر الأغنية أنه يوجد تسجيلان لها؛ الأول: بصوت الكورس، والثاني: بصوت عفاف راضي مصاحبًا للكورس، وفي بداية الثمانينيات وفي عهد الرئيس حسني مبارك، أعاد الطويل تسجيلها بصوت عفاف راضي على اللحن نفسه، ولكن بعد أن قام الشاعر سيد حجاب بتبديل كلماتها لتتحول إلى: "إحنا شبابك يا بلادي، حارسين ترابك يا بلادي، نبني ونعلا في رحابك". 

بعدها إنطلق الطويل يبدع في ساحة الغناء؛ فقدم لوردة "بكرا يا حبيبي"، ولنجاة "لو يطول البعد" و"استناني" و"عيش معايا"، وقدم لمحمد رشدي "يا قمر يا اسكندراني" و"انت مين"، ولشادية "رحلة العمر" وآخرين، ورحل عبد الحليم حافظ عام 1977 دون أن يتمكن من غناء "خللي للحزن نهاية" التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي، والأغنية جاهزة بحوزة نجله الملحن زياد الطويل، ونتمنى أن نستمع إليها قريبًا بأحد الأصوات الجميلة التي تليق بألحان كمال الطويل.

اختتم كمال الطويل مسيرته مع الألحان بقصيدة: "لا تنتقد خجلي الشديد"، للشاعرة الكويتية سعاد الصباح، وغنتها المطربة الكبيرة نجاة الصغيرة، وكان مسك الختام.