رؤى
برانكو ميلانوفيتشماذا بعد العولمة؟
2025.04.13
مصدر الصورة : آخرون
ترجمة: دينا صالح
المقال الأصلي منشور على موقع JACOBIN في تاريخ 24 مارس 2025[1]
إن العالم كما نعرفه هو نتاج العولمة، وربما يقترب عصر العولمة هذا من نهايته..
عاد دونالد ترامب إلى السلطة، وأقل ما يمكن قوله إنه ليس من أنصار العولمة. فقد صرح الرئيس علنًا "رفضه للعولمة واعتناقه للوطنية"، وقال إن العولمة "تسببت في فقر ومعاناة الملايين من عمالنا". ولكي نفهم حقبة العولمة الحالية، والتي يسعى ترامب إلى وضع حد لها ولسجلها الحافل، من المفيد مقارنتها بالعولمة التي حدثت بين عام 1870 واندلاع الحرب العالمية الأولى.
تُمثل فترتا العولمة مرحلتين محوريتين، سنوات حاسمة شكلت عالمنا اليوم. وشهدت كلتاهما أكبر توسعات في الناتج الاقتصادي العالمي حتى الآن.
ومع ذلك، فقد اختلفتا جدًّا في جوانب عديدة. فقد ارتبطت العولمة الأولى بالاستعمار وهيمنة بريطانيا العظمى، وأدت إلى زيادة كبيرة في الناتج القومي للفرد، فيما أصبح يُعرف لاحقًا بالعالم المتقدم. كما أسفرت -في الوقت نفسه- عن ركود في كل أنحاء العالم، بل وحتى انخفاض في الدخل في مناطق مثل الصين وإفريقيا. تُظهر أحدث أرقام قاعدة بيانات مشروع ماديسون للإحصاءات التاريخية (Maddison Project) أن الزيادة التراكمية في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (أي المُعدل حسب التضخم) في المملكة المتحدة بين عامي 1870 و1910 قد بلغت 35%، بينما تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة خلال نفس الفترة. وبالتالي بلغ متوسط النمو الحقيقي في نصيب الفرد في الولايات المتحدة 1.7% سنويًّا، وهو رقم مرتفع جدًّا في تلك الحقبة. ومع ذلك، انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الصين بنسبة 4%، ولم يرتفع نصيب الفرد في الهند إلا بصورة طفيفة، بنسبة 16%. وقد خلق هذا النوع المحدد من النمو ما أُطلق عليه فيما بعد اسم العالم الثالث وعزز الفجوات في متوسط الدخل بين الغرب وباقي دول العالم.
أسفرت حقبة العولمة الأولى عن تفاقم اللامساواة، حيث شهدت المجتمعات الغنية نموًّا سريعًا، بينما أصيبت المجتمعات الأكثر فقرًا بالركود بل وتراجعت إلى الوراء، وذلك طبقًا لمفهوم اللامساواة العالمية الذي يعكس هذه الحقائق إلى حد كبير.
بالإضافة إلى تنامي التفاوت بين الدول، فقد اتسعت رقعة اللامساواة أيضًا داخل عديد من الاقتصادات الغنية، بما في ذلك الولايات المتحدة، كما يتضح من خطها المنحني الصاعد في الشكل 1، مع نمو الفئات العشرية[2] الأكثر ثراءً بشكل أكبر. ومثلَّت المملكة المتحدة استثناءً إلى حد ما، حيث وصلت اللامساواة إلى ذروتها قبل بداية العولمة الأولى مباشرة خلال ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر. يشير الجدول الذي أعده روبرت دادلي باكستر في عام 1867 (وهو نفس العام الذي نشر فيه كارل ماركس كتابه رأس المال) إلى أعلى مستوى لعدم المساواة في القرن التاسع عشر في ذلك العام، طبقًا للجداول الاجتماعية البريطانية، التي تعد المصدر الرئيسي للمعلومات المتعلقة بتوزيع الدخل في الماضي. انخفضت مستويات اللامساوة البريطانية بعد ذلك بفضل إصدار عدد من القوانين التقدمية، بدءًا من تحديد ساعات العمل يوميًّا إلى حظر عمالة الأطفال وتوسيع حق الاقتراع. كما تُظهر البيانات الحديثة ارتفاع اللامساواة أيضًا في ألمانيا بعد توحيدها في أواخر ستينيات القرن التاسع عشر. لم يتوفر لدى فرانسوا بورجينيون وكريستيان موريسون (Bourguignon and Morrison ) -اللذين يعتمد الشكل 1 على أرقامهما - معلومات عن التغيرات في التفاوت في الهند والصين، لذا مُثِّل كلاهما بخط مستقيم عبر شرائح الدخل العشرية (ما يعني نمو كل منهما بنفس المعدل). بينما تُظهر البيانات المالية الهندية الجديدة التي تُركِّز في أعلى شريحة في التوزيع -والتي أعدها الاقتصاديان فاكوندو ألفاريدو وأوغسطين بيرجيرون وجيلهيم كاسان Facundo Alvaredo, Augustin Bergeron, and Guilhem Cassan- تفاوتًا مستقرًّا، وإن كان مرتفعًا جدًّا. وهكذا، وبشكل عام، فقد ارتفعت عناصر التفاوت العالمي (بين الدول، وفي معظم الحالات، داخل الدول) خلال العولمة الأولى.
كيف يختلف هذا عن فترة العولمة الحالية -العولمة الثانية- التي يتم تحديد بدايتها تقليديًّا مع سقوط جدار برلين عام 1989 وتستمر حتى أزمة كوفيد-19 عام 2020؟ تجدر الإشارة إلى أن تحديد نهاية حقبة العولمة الثانية قد يكون موضع خلاف، إذ يُمكن تحديدها بفرض ترامب رسومًا جمركية على الواردات الصينية عام 2017، أو -بصورة رمزية- عندما تولى ترامب السلطة للمرة الثانية في يناير 2025. لكن اختيار التاريخ لا يؤثر في السمات الأساسية للعولمة الثانية.
خلال هذه الفترة، شهدت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وباقي دول العالم الغنية نموًّا اقتصاديًّا، ولكن بمعدلات تُعد متواضعة نسبيًّا مقارنةً بالدول الآسيوية. فقد ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الولايات المتحدة بمتوسط معدل سنوي بلغ 1.4% بين عامي 1990 و2020 -أي بوتيرة أبطأ مما كان عليه في فترة العولمة الأولى- بينما ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا بنسبة 1% فقط سنويًّا. أما الدول المكتظة بالسكان والفقيرة نسبيًّا (أو الفقيرة على الأقل في بداية العولمة الثانية) فقد شهدت نموًّا أسرع كثيرًا، مثل: تايلاند بنسبة 3.5% للفرد، والهند بنسبة 4.2%، وفيتنام بنسبة 5.5%، والصين بمعدل مذهل بلغ 8.5%.
ويظهر هذا التباين بين الشكلين 1 و2. فيظهر الشكل 1 بيانات الفترة من 1870 إلى 1910 ارتفاع كل جزء من توزيع الدخل في الدول الغنية بوتيرة أسرع من كل جزء من توزيع الدخل في الدول الفقيرة. بينما في الشكل 2، الذي يُظهر بيانات الفترة من 1988 إلى 2018، تتجاوز معدلات النمو في جميع أجزاء توزيع الدخل في الصين والهند معدلات النمو في جميع أجزاء توزيع الدخل في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وقد أدى هذا الأمر إلى تحول جذري في الاقتصاد والجغرافيا السياسية للعالم: التحول الاقتصادي من خلال نقل مركز الثقل الاقتصادي نحو المحيط الهادئ والتأثير في أوضاع الدخل النسبية للسكان في الغرب وآسيا، والتحول الجيو-سياسي من خلال جعل الصين منافسًا حقيقيًّا للهيمنة الأمريكية.
لا يمكن إنكار أنه على مدى العقود الثلاثة الماضية تدهورت مراكز الدخل العالمي لشرائح واسعة من الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة في الغرب. كان هذا التدهور ملحوظًا بشكل خاص في الدول الغربية التي فشلت في تحقيق النمو، فعلى سبيل المثال، انخفض ترتيب الشريحة العشرية الدنيا للمواطنين في إيطاليا من الشريحة المئوية 73 إلى 55 عالميًّا بين عامي 1988 و2018. في الولايات المتحدة، تراجعت الشريحتان العشريتان الأدنى دخلًا في مراكزهما العالمية، على الرغم من أن الانخفاضات كانت أقل (7 و4 نقاط مئوية على التوالي) مقارنة بإيطاليا. بالإضافة إلى ذلك، خسرت الطبقات المتوسطة الغربية مقارنة بمواطنيها في أعلى توزيعات بلدانهم. وبالتالي عانت الطبقات المتوسطة في الغرب من خسارة مزدوجة: فقد خسرت في مواجهة الطبقات المتوسطة سريعة النمو في آسيا وأمام مواطنيها الأكثر ثراءً في الوطن. مجازًا، حوصرت الطبقة المتوسطة بينهما.
لكن على عكس ما حدث خلال العولمة الأولى، تقلصت فجوة اللامساواة العالمية خلال الدورة الثانية، مدفوعةً بارتفاع معدلات النمو في الدول الآسيوية الكبرى. ومع ذلك، فقد تزايدت اللامساواة داخل الدول بشكلٍ عام. وتجلى هذا الأمر بوضوح شديد في الصين، حيث تضاعف تقريبًا مؤشر جيني[3] -وهو مقياس شائع لعدم المساواة- عقب الإصلاحات الليبرالية. كما ينطبق الأمر نفسه على الهند. يوضح الشكل رقم 2 أن وتيرة نمو دخل الأغنياء الهنود والصينيين تفوق وتيرة نمو الدخل للفقراء في البلدين. ولكن ارتفعت اللامساواة أيضًا في الدول المتقدمة، أولًا في ظل إصلاحات مارجريت تاتشر ورونالد ريجان، التي استمرت آثارها حتى عهدي توني بلير وبيل كلينتون، لتستقر أخيرًا في العقد الثاني من هذا القرن.
باختصار، شهدت العولمة الأولى صعود الغرب، بينما شهدت العولمة الثانية صعود آسيا. أدت الأولى إلى زيادة التفاوت بين الدول، بينما أدت الثانية إلى تراجعها. وأسفرت كل منهما عن زيادة الفجوات داخل الدول. وقد أدى عدم التكافؤ في معدلات نمو الدول خلال العولمة الأولى إلى تربع معظم سكان الغرب على قمة هرم الدخل العالمي، ونادرًا ما يتم الاعتراف بمدى ارتفاع مكانة الشرائح العشرية الفقيرة من الدول الغنية في توزيع الدخل العالمي. يكتب الاقتصادي بول كولير Paul Collier، في كتابه "مستقبل الرأسمالية" The Future of Capitalism، بأسًى عن الوقت الذي احتل فيه العمال الإنجليز قمة العالم: ولكن لكي يشعروا بالانتشاء، كان على الآخرين الشعور بالدونية.
أدت العولمة الثانية إلى إزاحة بعض الطبقات المتوسطة الغربية عن مكانتها، وأحدثت تغييرًا جذريًّا في توزيع الدخل، إذ تفوقت عليها آسيا الصاعدة. وتزامن هذا التراجع -غير الملحوظ نسبيًّا- مع تراجع واضح للطبقات المتوسطة الغربية أمام النخب الثرية المحلية. وقد أحدث هذا الأمر حالة من الاستياء السياسي، الذي انعكس بدوره في صعود الزعماء والأحزاب الشعبوية.
أخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن تقارب الدخل عالميًّا لم يمتد إلى إفريقيا، التي واصلت مسارها نحو الانحدار النسبي. إذا لم يتغير هذا الوضع، الذي يبدو احتمالًا ضئيلًا، فإن الانحدار النسبي لإفريقيا في العقود القادمة سوف يغير القوى التي تدفع فجوة التفاوت العالمي حاليًّا إلى التقلص، ويبشر بعصر جديد من ازدياد اللامساواة العالمية.
تحالف مصالح غير متوقع
ما لم يُلاحظه أحد في بداية العولمة الثانية -الذي أصبح أكثر وضوحًا مع تطورها- هو تحالف المصالح بين أغنى أقطاب العالم الغربي وجماهير الفقراء في الجنوب العالمي. قد يبدو هذا الرابط غريبًا للوهلة الأولى، حيث لا يوجد تقريبًا أي شيء مشترك بين المجموعتين، بما في ذلك التعليم والخلفية الاجتماعية والدخل. لكنه كان تحالفًا ضمنيًّا، لم يُدركه أي من الجانبين تمامًا حتى أصبح واضحًا للعيان. فقد دعمت العولمة فئة الأثرياء في الدول المتقدمة، ليس فقط عبر إحداث تغييرات في البنية الاقتصادية الداخلية مثل: تخفيض الضرائب وتحرير الاقتصاد والخصخصة، بل من خلال إمكانية نقل الإنتاج المحلي إلى مناطق حيث تنخفض الأجور كثيرًا. وقد أدى استبدال بالعمالة المحلية عمالة أجنبية رخيصة إلى تنامي ثروات أصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال في الشمال العالمي. كما مكّن عمال الجنوب العالمي من الحصول على وظائف ذات رواتب أعلى والهروب من البطالة المقنعة المزمنة. وصار عمال الطبقة المتوسطة هم الخاسرين نتيجة لهذا التحالف، الذين تم استبدال بهم أيدي عاملة أقل تكلفة في الجنوب العالمي. لذا، ليس من المستغرب أن يتراجع قطاع التصنيع في الشمال العالمي، ليس فقط نتيجةً للميكنة وتزايد أهمية الخدمات في إجمالي الدخل القومي، بل أيضًا بسبب انتقال كثير من الأنشطة الصناعية إلى أماكن يمكن إنتاجها فيها بتكلفة أقل. وليس من المستغرب أن تصبح شرق آسيا مصنع العمل الجديد في العالم.
لقد تم تجاهل تحالف المصالح المحدد هذا في التصور المبدئي للعولمة. وفي الواقع، فقد ساد الاعتقاد بأن العولمة سوف تلحق الضرر بجماهير القوى العاملة في الجنوب العالمي، أي سيتم استغلالها بشكل أسوأ من ذي قبل. ربما وقع الكثيرون في هذا الخطأ بناءً على تطورات حقبة العولمة الأولى، والتي أدت بالفعل إلى تراجع قطاع التصنيع في الهند وإفقار سكان الصين وإفريقيا. خلال تلك الحقبة، كانت الصين خاضعة تقريبًا لحكم التجار الأجانب، وفي إفريقيا فقد المزارعون سيطرتهم على أراضيهم التي كانوا يزرعونها بصورة جماعية منذ الأزل. فأصبحوا أكثر فقرًا بعد فقدانهم لأراضيهم. لذا خلفت حقبة العولمة الأولى بالفعل تأثيرًا سلبيًّا جدًّا في معظم دول الجنوب العالمي. ولكن لم يحدث ذلك في العولمة الثانية، عندما تحسنت الأجور وفرص العمل في مناطق عديدة من الجنوب العالمي.
لا شك أن ساعات العمل وظروفه في دول الجنوب العالمي كانت وما زالت صعبةً جدًّا، وأسوأ بكثير من مثيلاتها في الشمال. وتظهر شكاوى العمال بشأن جدول العمل 996 (العمل من 9 صباحًا حتى 9 مساءً، ستة أيام في الأسبوع) واقعًا يعاني منه كثيرون في أغلب دول العالم النامي، وليست حكرًا على الصينيين. ومثلت هذه الظروف السيئة تحسنًا نسبيًّا مقارنةً بما سبق، وتم القبول بها على هذا الأساس.
حتى لو كان منتقدو العولمة الثانية المعاصرون مخطئين في اعتقادهم أنها سوف تؤدي إلى تدهور الوضع الاقتصادي لجماهير كبيرة من سكان الجنوب العالمي -بل إنها بدلًا من ذلك، كما رأينا، سوف تضر بالطبقات المتوسطة في الشمال العالمي- فإنهم كانوا على حق بشأن من سوف يستفيد أكثر من هذه التغييرات: الأغنياء في العالم.
النيوليبرالية المحلية في مواجهة النيوليبرالية الدولية
عند مناقشة النيوليبرالية، يتعين علينا أن نميز بصورة تحليلية بين سياساتها الداخلية من جهة، وسياساتها الدولية من جهة أخرى. يشمل النوع الأول الحزمة المعتادة من تخفيض معدل الضرائب وتحرير الاقتصاد والخصخصة وتقليص دور الدولة بشكل عام. أما النوع الثاني، فيتمثل في خفض كل من التعريفات الجمركية والقيود الكمية، وبالتالي تعزيز التجارة الحرة بشكل عام، بالإضافة إلى مرونة أسعار الصرف، والتداول الحر لرأس المال، والتكنولوجيا، والسلع والخدمات. ولطالما تم التعامل مع العمال بشكل مختلف، أي إن حرية انتقالهم لم تكن يومًا بنفس قدر حرية انتقال رأس المال، على الرغم من أن قدرتهم على التنقل عالميًّا كانت أحد طموحات النيوليبرالية.
يُعد هذا الاختلاف التحليلي مهمًّا بشكل خاص لفهم الصين واستشراف ما سيحدث في ظل إدارة ترامب الثانية. فهو يوضح -بشكل فوري- أن الصين لم تلتزم بمبادئ الليبرالية الجديدة في سياساتها الداخلية، بينما انتهجتها إلى حد كبير في علاقاتها الاقتصادية الدولية. ويميز هذا النهج الصين عن عديد من الدول المتقدمة والنامية الأخرى، التي التزمت بكل جوانب العولمة محليًّا وعالميًّا بجدية. فمنذ الثمانينيات، بدأت الولايات المتحدة في التحول النيوليبرالي، ولم يقتصر ذلك على السياسات الداخلية، بل شمل خفض التعريفات الجمركية وتوقيع اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشماليةNAFTA ، وزيادة الاستثمارات الأجنبية الواردة والصادرة. وسرى الأمر نفسه في الاتحاد الأوروبي، كما تم تطبيقه أيضًا في روسيا والدول الشيوعية السابقة.
ظلت الصين هي الاستثناء، فكانت الدولة الوحيدة التي احتفظت بدور بارز للدولة، وظلت الفاعل المهيمن في القطاع المالي وفي الصناعات الرئيسية مثل الحديد والصلب والكهرباء وصناعة السيارات والبنية التحتية بشكل عام. والأهم من ذلك، فقد ظلت الدولة قوية في صياغة السياسات وحافظت على ما أسماه فلاديمير لينين الهيمنة المطلقة على الاقتصاد. ويمكن فهم سياسة الصين هذه -وخاصة في عهد شي جين بينج- على أنها تشبه إلى حد كبير سياسة لينين الاقتصادية الجديدة. حيث تسمح الدولة -طبقًا لقواعد تلك الأنظمة- بتوسع القطاع الرأسمالي في المجالات الأقل أهمية. لكنها تحتفظ بالسيطرة على أهم قطاعات الاقتصاد وتتخذ القرارات الحاسمة المتعلقة بالتطور التكنولوجي. لقد شاركت الدولة الصينية بشكل فعال في تطوير أحدث التقنيات الحديثة، بما في ذلك التكنولوجيا صديقة البيئة والسيارات الكهربائية واستكشاف الفضاء وأخيرًا الذكاء الاصطناعي وإلكترونيات الطيران.
تراوحت مشاركة الدولة من تقديم حوافز بسيطة على شكل خفض الضرائب إلى الضغط المباشر، حيث تُملي على الشركات الخاصة ما يجب عليها فعله إذا أرادت الحفاظ على علاقات جيدة مع الحكومة. ويُعد إلغاء الحكومة في عام 2020 ما كان من المفترض أن يكون أكبر اكتتاب عام أولي في التاريخ لشركة "Ant Group" المملوكة لـ Jack Ma -وهي شركة تابعة لمجموعة علي بابا- الذي كان من شأنه السماح بالتوسع في قطاع التكنولوجيا المالية (Fintech) غير الخاضع للتنظيم إلى حد كبير - مثالًا صارخًا على التفاوت في القوة بين الدولة والقطاع الخاص.
لذا، عندما نتحدث عن نجاح العولمة في الحد من الفقر وزيادة النمو في عديد من الدول الآسيوية -وخاصةً في الصين- يجب الأخذ بعين الاعتبار الفرق بين السياسات المحلية والدولية. ويمكن القول إن نجاح الصين يعود تحديدًا إلى قدرتها على دمج هذين العنصرين بطريقة فريدة. فقد أبقت سلطة الحكومة قائمة دون المساس بها داخليًّا، بينما سمحت في الوقت نفسه بعرض كامل لمزايا التجارة لاستغلال نقاط قوتها. وقد تنجح هذه الإستراتيجية تحديدًا في دول كبيرة أخرى مثل الهند أو إندونيسيا، إلا أن لها حدودًا واضحة مع الدول الصغيرة، لأنها تفتقر إلى اقتصادات الحجم، وربما الأهم من ذلك، أنها لا تتمتع بالقدرة التفاوضية المتعلقة برأس المال الأجنبي، والتي سمحت للصين بالاستفادة من عمليات نقل تكنولوجية كبيرة من الدول الأكثر تقدمًا.
ترامب ونهاية مسار العولمة الثانية
تقترب موجة العولمة الدولية، التي بدأت قبل أكثر من ثلاثين عامًا، من نهايتها. وقد شهدت السنوات الأخيرة زيادة في التعريفات الجمركية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتشكيل تكتلات تجارية، وفرض قيود صارمة على نقل التكنولوجيا إلى الصين وروسيا وإيران ودول أخرى (غير صديقة)، واستخدام نهج الضغوط الاقتصادية، بما في ذلك حظر الاستيراد وفرض العقوبات الاقتصادية، وفرض قيود صارمة على الهجرة، وأخيرًا، تطبيق سياسات صناعية تدعم المنتجين المحليين ضمنيًّا. وإذا ما أقدم اللاعبون الرئيسيون -وتحديدًا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي- على الخروج عن النظام التجاري النيوليبرالي التقليدي، فلن تتمكن المنظمات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، من مواصلة الترويج لمبادئ واشنطن السياسية المعتادة أمام العالم. ولذلك، فإننا ندخل عالمًا جديدًا من السياسات التجارية والاقتصادية الخارجية الخاصة بكل دولة ومنطقة، مبتعدين عن العالمية والأممية، ومتجهين نحو المذهب التجاري الجديد (neo-mercantilism).
يناسب هذا النموذج ترامب بشكل شبه مثالي. فهو يعشق المذهب التجاري، ويعتبر السياسة الاقتصادية الخارجية أداة لانتزاع شتى أنواع التنازلات -والتي لا تمت إلى الاقتصاد بأي صلة أحيانًا- مثل تهديده بفرض رسوم جمركية على الدنمارك إذا رفضت التخلي عن جرينلاند. ربما يكون الأمر مجرد تهديد، ومع ذلك، فإنه يعبر بوضوح عن رؤية ترامب بوجوب استخدام التهديدات والضغوط الاقتصادية كأدوات سياسية. ستؤدي هذه السياسات إلى مزيد من تفتيت المجال الاقتصادي العالمي. وتسعى واشنطن إلى إبطاء صعود الصين والحد من قدرة الدولة على تطوير تقنيات جديدة قد يُمكن استخدامها لأغراض اقتصادية وعسكرية على حد سواء.
لكن من جانب آخر، من المرجح تعزيز الجانب المحلي من حزمة السياسات النيوليبرالية التقليدية في عهد ترامب. ويتجلى هذا الأمر بوضوح في رغبته خفض ضرائب الدخل الشخصي وإلغاء القواعد التنظيمية في شتى المجالات والسماح باستغلال أكبر للموارد الطبيعية، وخصخصة الوظائف الحكومية على نطاق أوسع، ما يُعزز بشكل كبير جميع المبادئ المحلية للنيوليبرالية. وهكذا سنشهد تناقضًا ظاهريًّا فقط: تنامي النزعة التجارية دوليًّا مع تنامي النيوليبرالية محليًّا - أي على النقيض تمامًا من مزيج السياسات الذي تتبعه الصين.
يرى بعض الاقتصاديين -مستشهدين بأمثلة تاريخية- أن السياسات التجارية يجب أن تصاحبها بالضرورة سياساتٌ تتسم بمزيد من السيطرة والتنظيم من قبل الدولة على المستوى المحلي. ولكن لا ينطبق هذا الأمر على الإدارة الأمريكية الحالية. إذ يطرح ترامب نموذجًا جديدًا، يجمع بين خضوع الهجرة للرقابة الصارمة وتبني نهجًا نيوليبراليًّا متطرفًا محليًّا ومذهبًا تجاريًّا دوليًّا، من المرجح أن يجذب كثيرين في فرنسا وإيطاليا وألمانيا أيضًا.
وهكذا، يدخل العالم حقبة جديدة تتبع فيها الدول الغنية سياسة مزدوجة غير مألوفة. فبعد التخلي عن العولمة النيوليبرالية، تتجه هذه الدول قدمًا نحو مشروع النيوليبرالية المحلية.
1- https://jacobin.com/2025/03/what-comes-after-globalization
برانكو ميلانوفيتش: خبير اقتصادي وأستاذ زائر في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك CUNY.
2- تتألف كل فئة عشرية من 10% من سكان ذلك البلد، مرتبة من الأفقر إلى الأغنى.
3- مقياس إحصائي يستخدم لقياس عدم المساواة في الدخل أو الثروة أو الاستهلاك بين مجموعة من السكان. قام بتطويره الإحصائي وعالم الاجتماع الإيطالي كواردو جيني Corrado Gini .
https://en.wikipedia.org/wiki/Gini_coefficient
ترشيحاتنا
