عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

هاجن بليكس وإنجبورج جليمر

لا تصدّقوا «التهويل» حول الذكاء الاصطناعي.. ولا «نبوءات الهلاك»

2025.12.06

مصدر الصورة : أخرون

لا تصدّقوا «التهويل» حول الذكاء الاصطناعي.. ولا «نبوءات الهلاك»

 

في ديسمبر [i]2023، وبالتزامن مع مرور عام على إطلاق «تشات جي بي تي (ChatGPT)»، سألت مجلة «بوليتيكو» ميريديث وايتكر، رئيسة مؤسسة «سيجنال» والناقدة التقنية، عن الاتجاه التكنولوجي الذي تراه الأكثر خضوعًا لـ«المبالغة والتهويل».

بدا من السؤال أن المُحاوِر يفترض أن دور الناقد ينحصر في رسم خط فاصل بين الوعود والواقع، أو بين الضجيج والحقائق. لكن وايتكر قررت الالتفاف على السؤال، فبدلًا من الإشارة إلى تقنية بعينها، اقترحت ضرورة «فهم نموذج عمل رأس المال المغامر (Venture Capital) باعتباره نموذجًا يتطلب التهويل لضمان استمراره».

اليوم، لا مكان ينتشر فيه هذا «التهويل (Hype)» أكثر من عالم الذكاء الاصطناعي. فمن الذكاء الخارق إلى مراكز البيانات في الفضاء الخارجي، يُلهب هذا المجال خيالات تزداد جموحًا. ورغم أن كل حيلة دعائية تتبعها عملية تفنيد، وكل توقعات فلكية للإيرادات تقابلها تحذيرات من «فقاعة»، فإن مؤشر التهويل -ورغم الشكوك التي أثارها أخيرًا كبار المضاربين على الهبوط مثل مايكل بيري- يبدو سائرًا في اتجاه واحد فقط: نحو الأعلى.

يشير عدم جدوى خطاب «مناهضة التهويل» (مهما كانت دقة حججه) إلى أن التفاف وايتكر على السؤال ينطوي على أهمية بالغة. فبدلًا من ملاحقة كل موجة تهويل على حدة، تقترح وايتكر أن النقد يجب أن يهدف إلى «فهم الهوة المتسعة بين سردية المتفائلين بالتكنولوجيا وبين واقع عالمنا المثقل بأعبائها». تختلف وعود التكنولوجيا عن آثارها الواقعية، وتبدو الفجوة بين الاثنتين في ازدياد. وبالتأكيد، يلعب التهويل والعلاقات العامة والوعود المفرطة دورًا في ذلك.

ولكن، هل «التهويل» هو كل ما في الأمر؟ ولماذا توجد هذه الهوة أصلًا؟ ولماذا -كما تحثنا وايتكر على التساؤل- تبدو وعود التكنولوجيا دائمًا صاخبة وجوفاء؟

«التهويل» كجزء بنيوي من الاقتصاد الأمريكي

وفقًا لتأطير وايتكر، لا يتعلق التهويل بتقنيات محددة، أو بالشركات الناشئة عمومًا، ولا حتى بثقافة «وادي السيليكون»، بل هو جزء أصيل من طريقة محددة لإعادة استثمار الأرباح السابقة: رأس المال المغامر (VC). بعبارة أخرى، إن إنتاج التهويل مسألة تتعلق بـ«الاقتصاد السياسي».

مقابل كل موجة تهويل ينتجها «وادي السيليكون»، نجد نقدًا مصاغًا بإحكام. والحق أن انتقاد شركات بعينها بسبب تصرفات محددة هو جزء من الخطاب الإعلامي الليبرالي. لكن في الوقت ذاته، غالبًا ما يُعتبر نقد هيكل القوة والحوافز الكلية للرأسمالية (اللعبة التي تلعبها هذه الشركات) أمرًا خارجًا عن المألوف. وعندما يتعلق الأمر بالتهويل، نرى التباين ذاته، فالانتقادات للمبالغات وفيرة، لا سيما حول الذكاء الاصطناعي.

لكننا نحتاج إلى نقد لا يكتفي برصد اللاعبين، بل يطال اللعبة نفسها. إذا أردنا فهم كيفية التعامل مع هذه الهوة -وتجنب «ديستوبيا» تكنولوجية قادمة- علينا تفكيك حجة وايتكر ومساءلة الاقتصاد السياسي الذي ينتج كلًّا من التهويل والهوة معًا.

لذا، لنأخذ باقتراح وايتكر ونسأل: لماذا يعتمد رأس المال المغامر تحديدًا على التهويل؟ أولًا، يتمحور نموذج استثمار رأس المال المغامر حول تمويل الشركات الناشئة. ومن المتوقع عمومًا فشل معظم هذه الشركات، لكن المستثمرين يأملون أن تصبح نسبة ضئيلة منها قيّمة بما يكفي لتعويض الخسائر وتحقيق أرباح ضخمة. الرهان جوهريًّا هو أن تتحول بضع شركات إلى تلك «الشركات أحادية القرن (Unicorns)» النادرة التي تتجاوز قيمتها مليار دولار. بالطبع، ينتهي المطاف بمعظم تلك المشاريع الموعودة بأن تكون مجرد «بغال». هذا هو أساس نموذج العمل، ولا يوجد لبس بشأنه لدى المؤسسين أو المستثمرين.

أين يأتي دور التهويل؟ بما إن رأس المال المغامر يراهن على المستقبل، فهو يتاجر في «المضاربات». والمستقبل ليس شيئًا يمكن التحقق منه تجريبيًّا، بل يخضع لتخمينات مدروسة. وبوضوح مماثل، فإن خطابات البيع ليست محايدة، إذ تهدف إلى جذب المستثمرين ورفع الأسعار، فهي بطبيعتها صياغات إيجابية. وكما يعلم الجميع، تخيل الفوز باليانصيب أسهل من الفوز به فعليًّا. امزج خيال المستقبل بالطبيعة الوردية للإعلانات، وستحصل على وصفة «التهويل» المثالية. لا سقف للتفاؤل هنا، وعندما يلتقي محرك تهويل رأس المال المغامر بتكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي، تتشكل «عاصفة مثالية». وسرعان ما يُقال لنا إن هناك تكنولوجيا ستحل كل المشاكل المتخيلة، وحتى تلك التي لم تخطر ببالنا.

من المهم تذكر الجمهور المستهدف بهذا التهويل: إنهم المستثمرون الطامحون إلى شراء حصص في «يونيكورن» مستقبلي بسعر رخيص. بالطبع، قد يسمع الآخرون خطاب البيع، وإذا ردد الصحفيون الخطاب فذلك أفضل. إن «آلة التهويل» تعاني من تسربات، فهي تقطر، ويصيبنا جميعًا رذاذها. فالعملاء والمستخدمون المحتملون يخضعون لأحلام وكوابيس يولدها «وادي السيليكون» ومنظومته.

نظرًا إلى شيوع التهويل، لا غرابة أن تبدأ انتقادات عديدة لوادي السيليكون بقلب الإشارة من الموجب إلى السالب: وصم الإعلان بالكذب. وهذا ما كانت «بوليتيكو» تنتظره من وايتكر؛ إدانة أكاذيب أو شركات بعينها.

نحن، مثل وايتكر، نرى ضرورة مقاومة هذا الدافع. في الواقع، نرى أن الاكتفاء بفضح التهويل وسيلة غير فعالة لمواجهة السلطة. بالتأكيد، يعود جزء من شعبية الخطاب المناهض للتهويل إلى الإحباط من الدفع المتسارع نحو الذكاء الاصطناعي، حيث يبحث الناس عن أدوات لصد هذا التيار. إن تسمية خطابات التبني بـ«التهويل» -أو أوصاف أشد مثل «الاحتيال» و«بيع الوهم»- توفر سلاحًا نفسيًّا وشحنة عاطفية تستحضر بعدًا أخلاقيًّا يغيب عن مصطلحات مثل: «إعلان مبالغ فيه».

هناك حقيقة واضحة في هذا النهج، فتسمية الكذبة باسمها أمر قوي. نحن نتعرض لقصف بمزاعم أن هذا المستقبل التكنولوجي «حتمي». هذه كذبة تهدف إلى إخضاعنا، وتستحق التفنيد، فهناك دائمًا مستقبل بديل يمكن بناؤه.

لسوء الحظ، نادرًا ما تكون الانتقادات التقنية التي تتبنى مواقف «مناهضة التهويل» واضحة بقدر وضوح وايتكر بشأن مصدر التهويل (رأس المال المغامر) وهدفه (المستثمرون). يتضح هذا عند التحذير من «الفقاعة»، فالتحذير منها هو من الأساس دعوة للمستثمرين لإعادة توجيه أموالهم. ونحن لا نعتقد أن وظيفة النقد التكنولوجي هي تحذير المستثمرين، فهم جزء من النظام البيئي الذي يولد التهويل وينفخ في الفقاعة.

ما جدوى النظرية السياسية إذن؟

يرسم وصف عرض البيع بـ«التهويل» خطًّا ضمنيًّا بين الكاذبين والمخدوعين، ما ينتج تصنيفًا سياسيًّا غريبًا: شركات معينة هي «كاذبة»، بينما يوضع المديرون والمستثمرون والعمال في دور مشترك كـ«ضحايا» للاحتيال.

ما الخطأ في هذا التجميع؟ الحقيقة أن الهوة بين وعود التكنولوجيا وواقعها المريع تتعلق بـ«الطبقة». عندما يصدح التهويل، يسمع المستثمرون والمديرون وعودًا، لكن تلك الوعود تشكل تهديدات للآخرين. ولننظر في مثالين:

الوعد الأول (أو التهديد) هو أن الذكاء الاصطناعي سيؤتمت المراقبة ويضبط العمالة. نرى هذا في مستودعات «أمازون»، حيث تراقب خوارزميات الذكاء الاصطناعي أدق حركات العمال. إن ما يبدو «أتمتة» هو واقعيًّا «تصنيع (Industrialization)» للرقابة: فالذكاء الاصطناعي يتطلب عمال بيانات لتصحيح وتدريب الخوارزمية. بعبارة أخرى: تُمكّن الخوارزمية هؤلاء العمال -الذين يتقاضون أجورًا زهيدة- من إنتاج رقابة على نطاق صناعي دون أن يصيروا مديرين.

نرى تأثيرات مماثلة سياسيًّا، حيث تستخدم وزارة الخارجية الذكاء الاصطناعي لمسح منشورات التواصل الاجتماعي وإلغاء تأشيرات المنخرطين في «الحديث الخاطئ». ومع توسع نطاق المراقبة، تتسلل الخوارزميات إلى أدق تفاصيل الحياة، لتتسع الهوة بين الخاضعين للخوارزمية ومن يمتلكون زمامها.

الوعد الثاني (أو التهديد) هو أن الذكاء الاصطناعي «سيسمح للثروة بالوصول إلى المهارات، بينما ينزع من المهارة القدرة على الوصول إلى الثروة». أي أن الذكاء الاصطناعي (وخاصة التوليدي) محاولة لنقل المعرفة إلى «أدوات» مملوكة لرأس المال لخفض الأجور. في كتابنا «لماذا نخشى الذكاء الاصطناعي»، أطلقنا على هذا «التايلورية التكنولوجية (Techno-Taylorism)»، نسبة إلى فريدريك وينسلو تايلور، ومدرسة الإدارة العلمية التي ركزت في مركزية معرفة العمل لدى الإدارة لتقسيم المهام وتقليص العمالة المكلفة.

تختلف «التايلورية التكنولوجية» عن الكلاسيكية في أن المعرفة لا تُنقل إلى جهاز إداري بشري، بل إلى «أداة». والهدف واحد: تحويل العمل لخفض الأجور الإجمالية. نرى هذا عبر القطاعات، فمن المترجمين للمبرمجين، تُلغى الوظائف لتظهر كعمل مؤقت (Gig work)، حيث يضطر العمال إلى ترميم مخرجات الذكاء الاصطناعي الركيكة مقابل أجور أقل وأمان منعدم. وكما يقال: «القرش المُدَّخر هو القرش المكتسب»، ووعد الذكاء الاصطناعي أن هذا القرش سيُنتزع من جيوبنا.

كان تايلور سيعجب بهذا التطور. فبينما يتحدث المروجون عن «الإنتاجية»، يدرك رأس المال أن ما يهم هو «تكلفة العمالة لكل وحدة». ويمكن تقليل التكلفة بزيادة الإنتاجية، أو ببساطة بخفض الأجور. قد يكون أحدهما مرغوبًا اجتماعيًّا، والآخر قوة للإفقار، لكنهما بالنسبة إلى رأس المال ودفاتر حساباته شيء واحد.

هذا مفتاح فهم «هوة وايتكر» بين الوعد والواقع. نحن موعودون بالرخاء، لكننا نحصل على أداة للقوة الطبقية تُستخدم للمراقبة وتبخيس المهارات. لماذا ينتج رأس المال المغامر هذا التناقض؟ لأنه يرى العالم عبر دفاتر الحسابات. لا توجد «هوة» بالنسبة إليهم، فالتكاليف تنخفض والأرقام رابحة.

كيف نتحدث عن الذكاء الاصطناعي دون الوقوع في فخ «التهويل» أو «الهلاك»؟

إذن، كيف نناقش الشعور العام بأن التكنولوجيا تعدنا بالجنة وتنتج الجحيم؟ الهدف هو التغيير. وفي مفارقة غريبة، يمكن للخوارزميات المنتجة للهراء أن تكشف بوضوح أن التكنولوجيا مسألة «سلطة». فالذكاء الاصطناعي الحالي يخدم القلة ضد الكثرة.

يجب الحديث عن «ذكاء» هذه الأنظمة باعتباره الذكاء الذي تم «حصاده» وجمعه، لا ذكاءً يمتلكه الفرد. فمن أنظمة التصنيف الرقابية للأنظمة التوليدية، تقع خصخصة المعرفة في قلب المشروع التايلوري الجديد.

الذكاء الاصطناعي سلاح في حرب طبقية من الأعلى، وهذا يوضح الخط السياسي الحقيقي: العمال ضد رأس المال. هذا الخط لا يظهر بالصراخ بـ«التهويل»، بل بتحليل الاقتصاد السياسي بجدية.

بمجرد التفكير في الذكاء الاصطناعي كسلاح طبقي، وفي الهوة كانقسام طبقي، تتضح الأمور. يمكننا تبني منظورًا إستراتيجيًّا، فاستخدام التكنولوجيا لإغراق القطاعات بالرداءة يمثل تهديدًا، ولكنه فرصة لبناء تضامن عمالي واسع.

تواصل الرأسمالية تقديم وعود بمستقبل الوفرة، والذكاء الاصطناعي هو محور ذلك. لكن الهوة تكشف خواء أفكارهم، فكل ما لديهم تكنولوجيا للمراقبة والسيطرة وتسميم العقول. لطالما سعت الرأسمالية إلى تحويل البشر إلى ملحقات لرأس المال، وبالتالي ملحقات للآلات. والذكاء الاصطناعي، كأحدث حلقة، يفتقر إلى التمويه المعتاد.

إذا كان كل ما يقدمه الرأسماليون هو حرب طبقية من الأعلى، ومستقبلهم الموعود مجرد تهديد، فقد حان الوقت لابتكار مستقبلنا الخاص، والتفكير في عالم تخدمنا فيه التكنولوجيا لا العكس. عالم نصنع فيه الوعود ونحققها، وتُطور فيه التقنية لإثراء الحياة وعدالة الاقتصاد.

حان الوقت للمطالبة بتكنولوجيا تخدم الحاجات البشرية لا نَهَم الأرباح، وأن نرد على الحرب الطبقية من الأعلى بحرب طبقية من الأسفل. ففي النهاية، لا يزال أمامنا عالم لنكسبه.


[i] نُشر في JACOBIN بتاريخ 4 ديسمبر 2025.