رؤى

أحمد شوقي علي

لماذا يبحث المثقف عن ثمن ما دفعه؟

2024.11.23

تصوير آخرون

لماذا يبحث المثقف عن ثمن ما دفعه؟

 

عندما أنظر إلى الجدل الذي أثارته مشاركة لاعب كرة القدم العالمي محمد صلاح في الدورة الـ43 من معرض الشارقة للكتاب، أبصر مشكلة عميقة في الوعي والمعرفة. وأقول، مستعيرًا لغتي من خطاب التعالي المتثاقف الذي يتبناه الناقدون لاستضافة معرض كتاب لاعب كرة: أرى مشكلة تشي بضحالة الوعي والمعرفة معًا.

ثمة عناصر مختلفة تُرَكّب الصورة ولا تعقّدها، فالإمارات دولة نفط، غنية طبعًا، وصلاح لاعب عالمي، مشهور جدًّا بالتأكيد. وهكذا بسهولة تُروّج المسألة أولًا على أن صاحب المال يشتري كل شيء، وثانيًا أن غايتنا الترويج والانتشار، وبلا ثقافة بلا وجع قلب ودماغ. وكلاهما، بالطبع، عدوان لدودان للمثقف الملتزم الذي يتحسس الأغنياء ويعتقد بأن المعرفة فردية، والفن يُفرّق لا يجمع.. إلخ.

يتبنى ذلك المثقف تعريفًا محددًا ومحدودًا للثقافة، وكأن لها تعريفًا أصلًا، وكأن المعرفة هي المطالعة التي تنحصر قطعًا في الأدب وحده، وكأن ألمانيا، مثلًا، ليست دولة غنية جدًّا وإن لم تملك النفط. وكأن معرض فرانكفورت ليس أعرق معارض الكتب على مستوى العالم، أو أن الفعالية التي استضافها في عام 2023، للحديث عن نادي "أثليتك بلباو" الإسباني لكرة القدم، ليست فعالية رياضية لأنها جاءت تحت عنوان "تعزيز القراءة ونماذج القدوة".

أو أن مصر، لأنها دولة نامية وفقيرة، يُقبَل أن يستضيف معرضها الدولي للكتاب اللاعبين محمود الخطيب ومحمود تريزيجيه وطاهر أبو زيد في أعوام 2018 و2020 و2023 على الترتيب، ربما لأن أهلها يستشري فيهم الجهل أو الأمية، فيحتاجون إلى محفز شعبوي للإقبال على فعالية تخص المعرفة.

أو ربما لأن محمد صلاح، عندما تحدث عن القراءة، لم يذكر الأدب، وأشار إلى اهتمامه بكتب التنمية البشرية، وقال إنه يحب مصطفى محمود وإبراهيم الفقي. في الواقع، وبعيدًا عن أي تهكم، كلاهما متوسطي الأهمية، محمود والفقي. ولكن، هل ثمة روشتة طبية موصوفة للقراءة؟ هل يجب أن يستضيف معرض الكتاب الأدباء حصرًا لأنهم المعنيون بذلك المحفل؟ ولأنهم، يا للحسرة، مهملون ومنبوذون شعبيًّا وحكوميًّا، فلا يصح أن يزاحمهم عيدهم أطياف أخرى من منتجي المعرفة وممارسي الفن؟ تخيل أنك، بهذه الطريقة، كمثقف ترفض، مثل أي رجعي آخر، أن يستضيف معرض الكتاب راقصة لأنها ليست أديبة!

اللافت أن أزمة النقاد لاستضافة معرض الشارقة للكتاب محمد صلاح، لا تتسق مع عدّ الإمارات دولة غنية تشتري الثقافة، فعشرات المشاركات السنوية في الجوائز الأدبية الممنوحة من دول الخليج لا تقول ذلك. ولا ينطلق الانتقاد أيضًا من أن الإمارات مثلًا تتبنى موقفًا تطبيعيًّا فجًّا مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، فليس ثمة إشارة واحدة بين الانتقادات الكثيرة لهذه المسألة، أو اتخاذ هؤلاء الموقف نفسه من مشاركة 17 طاهيًا في الدورة نفسها من معرض الشارقة لأنهم ليسوا أدباء.

شخصيًّا، لست من المعجبين بمحمد صلاح، تحديدًا منذ موقفه المخزي من دعم اللاعب المتحرش عمرو وردة، أو موقفه الباهت من الإبادة الوحشية التي يتعرض لها قطاع غزة. ولا أقبل، في الأخيرة تحديدًا، أعذارًا من نوعية أن موقفًا مثل ذلك سيضر بمكانته. عند مقارنته بالمغربي أنور الغازي، الذي انتصر في معركته القضائية ضد فريق ماينز الألماني بعد أن أنهى التعاقد معه لدعمه غزة، أشمئز من الآراء التي تبرر له ذلك بدعوى أننا نعيش في بلَّاعة، وأن عليه الهروب منها.

لكنني، في الوقت نفسه، لا أستطيع أن أنكر ما يصنعه صلاح في سبيل تكسير أفكار المجتمع البالية، التي تعتبر الإنجاز بالمنح الإلهية السحرية لا بالاجتهاد الفردي. فالمنتخب المصري قبل محمد صلاح، الذي كان يقوده أبو تريكة، كان يمثل إنجازًا جماعيًّا مدعومًا من السماء، ويُلقب بـ"منتخب الساجدين". وكان موطن قوته غيبيًّا وعائدًا إلى صلاح جميع أفراد الفريق واتصافهم بالتدين والأخلاق، رغم امتلاكه عناصر مهارية كبيرة مثل أبو تريكة ومحمد زيدان وغيرهما. وهو النموذج الذي كان يغذي شعور مواطن يعتبر ما يعانيه من ظلم نتيجة مباشرة لفساده الأخلاقي وابتعاده عن تعاليم دينه.

على النقيض، يُطرح محمد صلاح كنموذج لإنجاز فردي، غير جمعي، قائم على الاجتهاد الشخصي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يصطدم تقديمه لأسلوب حياته الشخصية بالصورة الرجعية لعلاقة الرجل بالمرأة ويكسرها. محمد صلاح، في لقائه بالشارقة، قال: "مفيش مجتمع بيتقدم غير لما يكون دور المرأة بأهمية دور الرجل". فكم من رجل مثقف يستطيع أن يواجه جمهورًا عامًّا بأفكار مشابهة؟

إنني أدعم مساءلة الرموز المجتمعية ومراجعة أفعالها سلبًا وإيجابًا، لأن ذلك النقاش هو ما ينتج منه تغيير حقيقي. ما يفعله الرمز من تكسير لقيم بالية، وما يفعله الجمهور من تكسير لصنمية الرمز، هو ما ينزع القدسية عن اليومي والمعيش، ويفتح الباب نحو تغيير جذري، لا العكس. لكن الأزمة، أزمة محمد صلاح ومعرض الشارقة، ليس فيها أي من ذلك. هي فقط أزمة يثيرها مثقف يبحث عن ثمن لما ظن أنه دفعه، لما ظن أنه قام به من الوقوف على يسار الدولة والمجتمع، ويسأل بانتقاد مواقف مثل تلك أن يقبض ثمن هذا الموقف المزعوم من المجتمع والدولة على السواء.