فنون

كريم جمال

مذكرات نور الهدى والمظلومية الحائرة

2024.04.19

مصدر الصورة : آخرون

مذكرات نور الهدى والمظلومية الحائرة

في عام 1953 عادت المطربة اللبنانية نور الهدى بشكل نهائي إلى لبنان، بعد عقد كامل (1943-1953) قضته متنقلة بين القاهرة وبيروت، كانت فيه نجمة من نجمات الصف الأول في الإذاعة المصرية، وبطلة رئيسة في عشرات الأفلام التي قدمتها السينما الغنائية في عصرها الذهبي، وذلك بعدما وقفت أمام فريد الأطرش ومحمد فوزي ومحمد عبد الوهاب، وبعدما وصلت أغانيها في تلك الأفلام إلى كافة الأقطار العربية، وتحول تدريجيًّا مشروعها الفني من مجرد صوت قوي يتتبع خطوات أم كلثوم وعبد الوهاب الفنية؛ ليغني في ملاهي دمشق وبيروت الليلية، إلى خامة صوتية متفردة، ومشروع فني كُتب له أن يكون له نغمته الخاصة وجمهوره الواسع في معظم البلاد العربية، غير أن تلك العودة المفاجئة إلى بيروت، فتحت باب السؤال والتخمين، وتناولت الأقلام بعضًا من تلك المرحلة في حياة نور الهدى الغامضة، وربما زاد الأمرَ التباسًا تلك الإشاراتُ غير الواضحة التي كانت تصرح بها نور الهدى مرارًا وتَكرارًا في الصحافة اللبنانية خاصة عن ظلم وقع عليها في القاهرة وغيَّر مجرى حياتها.

وحتى يتكشف لنا جانبٌ من مسيرة ألكسندر بدران/ نور الهدى التي وصفت ذاتها في يوم: "بقيت لغزًا وطلسمًا بالنسبة إلى أقرب الناس إليَّ، فلم يفهموني!". كان لا بد من الرجوع إلى تلك المذكرات التي أملتها بنفسها على الكاتب جان سالمة، ونشرها ضمن منشوراته في عام 2014، بعد أن سجلها في شكل حواري معها بهدف توثيق ذكرياتها عن حياتها الفنية المصرية واللبنانية، وذلك على عدة مراحل تاريخية، كانت أولاها بعدما هدأت حدة الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1988، وثانيتها في عام 1990، والثالثة والأخيرة في عام 1998؛ أي: قُبَيل رحيل نور الهدى بفترة وجيزة. ومن يطالع تلك المذكرات ربما يلاحظ بعضًا من التركيبة النفسية التي شكلت ذهنية وفن نور الهدى، وحركت بوصلتها الإنسانية طوال سنوات نشاطها الفني في مصر وخارجها؛ إذ يبقى منطق الاضطهاد هاجسًا مؤرقًا، يحرك نور الهدى ويفسر علاقتها بالعالم، بدءًا من عائلتها التي خاضت معها معارك طويلة حتى تخرج من حصار المؤسسة العائلية، وتجبر والدها على الإعجاب بفنها وصوتها المتفرد، وانتهاءً بإهمال الدولة اللبنانية لها، وعدم تكريمها في بلدها، ونسيان دورها الفني، رغم تكريم الدولة السورية لها، وكذلك الجمهورية الفرنسية قبيل نهاية حياتها، وبالطبع كان لنور الهدى أن تمر في تلك المذكرات على سبب مغادرتها للقاهرة، وأن تكون هنا أكثر أريحية في التعامل مع التاريخ وأشخاصه، خصوصًا بعدما غادر الحياةَ معظمُ من وجهت لهم أصابع الاتهام في تلك المظلومية الحائرة. 

المظلومية المصرية:

في 18 يناير/ كانون الثاني 1950 نشرت مجلة "الاستديو" خبرين في ذات العدد عن علاقة نقيبة الموسيقيين الآنسة أم كلثوم بمطربتين وافدتين على الغناء المصري، الأولى: نور الهدى، والثانية: صباح، وذلك بعدما اعتمد مجلس النقابات الفنية قانون يقضي بدفع 10% من دخل الفنانين غير النقابيين من المصريين والأجانب إلى النقابات الفنية المصرية الثلاث، وتخويل مجلس النقابة المعنية باتخاذ أي إجراء سريع يراه واجبًا لحفظ حق النقابات الفنية، وهو ما كان السبب في دفع أم كلثوم لاتخاذ موقف حاسم مع المطربة صباح، والتي كانت تعمل في فيلم "أختي ستيتة" دون أن تسدد قيمة الضريبة، وكذلك نور الهدى التي فوجئت بامتناع الموسيقيين عن العمل في تسجيل أغاني فيلم "أفراح" من إنتاج: نحاس فيلم، بسبب عدم دفع الضريبة اللازمة، ويبدو أن الأمر مر بسلام بين أم كلثوم وصباح، فقد روت صباح ذاتها في برنامج "ساعة صفا" قرب نهاية التسعينيات أنها تواصلت مع أم كلثوم وترجتها في تأجيل الدفع، وأكدت التزامها بالقانون النقابي بعد ذلك، لكن الأمر لم يسر بذات السلاسة مع نور الهدى، فتروي نور الهدى في مذكراتها بعد مديح طويل لصوت أم كلثوم وقدراتها الفنية، ذكرياتها عن تلك الحادثة التي أشارت إليها مجلة "الاستديو" فتقول: "كان بودي أن أبوح بشيء يتعلق بوسط أم كلثوم الفني رحمها الله، أنا عانيت كثيرًا من تصرفاتها الجائرة بحقي". 

ثم تكمل رواية حادثة المنع فتقول: "سارع والدي وغبرييل نحاس إلى أم كلثوم قاصدين منزلها، فظلا يطرقان الباب حتى فُتح لهما أخيرًا، وبعد الانتظار دخلت أم كلثوم عليهما بكل جرأة وواجهتهما بكلمات قاسية، لعل الطرد خارج المنزل كان أفضل منها ألف مرة، ثم قذفت بورقتين تتضمنان ما يأتي: إلزام نور الهدى بدفع مبلغ يتراوح بين أربعة مئة وخمس مئة جنيه؛ بغية السماح لها بالعمل ودخول الاستديو". وفي موضع آخر من المذكرات تؤكد نور الهدى أن أم كلثوم دفعت ليلى مراد ونجاة علي إلى تقديم شكوى فيها في وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية؛ ليتم إجبارها على عدم تقديم أي حفلات غنائية خاصة أو عامة، وحصر نشاطها بفيلمين فقط سنويًّا.

والحقيقة: أن رواية نور الهدى تعاني من عدة مشكلات تاريخية؛ أولًا: تذكر نور تلك الرواية على أنها تزامنت مع فيلم "بوسة" الذي عرض في 1945، وأنها كانت مرتبطة بمنعها من دخول الاستديو للتصوير، والأكيد أن ذلك القانون النقابي الذي يجبر غير النقابيين بدفع 10% للنقابة لم يصدر إلا في نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن الماضي؛ أي: بعد صدور فيلم "بوسة" بخمس سنوات كاملة. وثانيًا: أن المطربة الكبيرة لم تذكر أبدًا عدم التزامها بالقانون النقابي، ولا عن التزام غيرها من المطربين والممثلين غير النقابيين من المصريين والأجانب بدفعه للنقابات الفنية المصرية، فلا هي مهدت الطريق لتلك القصة بشرح قوانين نقابة الموسيقيين، ولا فسرت ذلك الموقف العصبي من أم كلثوم تجاهها بأنه رد فعل على عدم التزامها بقوانين وحقوق الموسيقيين النقابيين، ولكن الأكيد أن قصة تقيد نور الهدى بفيلمين فقط في العام لم تكن صحيحة، فبعد ذلك التاريخ قدمت نور الهدى في مصر قرابة التسعة أفلام وكانت من أنجح أفلامها، من ضمنها ثلاثة أفلام في عام 1952 فقط هي: "ما تقولش لحد" فبراير/ شباط 1952، و"مصري في لبنان" مايو/ آيار 1952، و"عاوزه أتجوز" أغسطس/ آب 1952، ولم يمنعها أحد من التمثيل أو الغناء طالما كانت ملتزمة بقوانين النقابات الفنية. 

والمهم في ذلك الموضع: هو أن أم كلثوم لم يكن لها دخل في خروج نور الهدى من مصر عام 1953؛ ففي نهاية 1952 غادرت أم كلثوم موقعها في نقابة الموسيقيين المصريين، بعدما فرضت ثورة يوليو/ تموز 1952 تغيرًا على واقع الحياة النقابية، ولم يعد لأم كلثوم ذلك الدور الكبير في التعامل مع المطربات، وهو ما جعلها تدافع عن نفسها في مجلة الكواكب الصادرة في خريف 1954، حين سألها الصحفي سليم اللوزي في بيروت عن تلك القضية؛ إذ قالت له: "أربأ بنفسي عن أن أرد على الاتهامات التي ألصقت بي، اتهموني بأني أحارب الفنانات اللبنانيات، ما هو الدافع؟ أنا لا أشتغل بالسينما حتى أحارب الفنانات، وضريبة العشرة في المئة التي فُرضت على أرباح الفنانين والفنانات الشرقيات، فُرضت في نفس الوقت على الفنانين والفنانات في مصر، ثم هذا قانون نقابي، ما ذنبي أنا في وضعه؟ هل السبب لأنني نقيبة الموسيقيين؟".

وطوال سنوات وجود نور الهدى في لبنان ما بين 1953-1998 كانت دائمًا تذكر أن أم كلثوم فوق أي مقارنة أو مقاربة، وأنها تقف في مكانها وحدها لا يجاريها أحد في الصوت، ولا الأداء، ولا الشعبية، بل إنها صرحت بذلك للصحافة في أكثر من مرة، فترد على مجلة "الأسبوع العربي" اللبنانية ضمن حوار معها في عام 1974، وذلك جوابًا عن سؤال: من يخلف أم كلثوم على عرش الغناء العربي بعد توقفها عن الغناء مطلع يناير/ كانون الثاني 1973؟ قائلة: "بعدها -أم كلثوم- انتهت المطربات"، ثم تكمل: "إنها مُنحت موهبة من عند الله، وموهبتها ليست فنًّا وحسب، وإنما هي سر لا يستطيع أحد تفسيره". بل إنها تعترف لجان سالمة قائلة: "أم كلثوم كانت تصيب بصوتها المقامات العالية، وأنا كنت أصيب الطبقات المنخفضة، فكان مجمل قدرة أم كلثوم الصوتية 16 نغمًا، وصوت أسمهان 14 نغمًا، وصوت نور الهدى 14 نغمًا!". فإذا كانت أم كلثوم خاتمة المطربات وتفوق نور الهدى صوتيًّا طِبقًا لشهادة الأخيرة، فلم كانت تسعى إلى وقف نشاطها؟! 

نور الهدى وثورة يوليو 1952:

غير أن نور الهدى ضمن تلك المذكرات المهمة ربما باحت لأول مرة بالسبب الرئيس في ابتعادها عن مصر واستقرارها في لبنان؛ إذ تقول لجان سالمة: إنها عندما زارت مصر عام 1953 ووصلت لمطار القاهرة، استوقفها مسؤول في الجوازات وطلب منها أن تتفضل معه في المكتب، وهناك أجرى المسؤول اتصالًا تليفونيًّا، وبعدما أغلق الخط قال لها: "يا ست نور، متأسف إني أقولك بإنّ عليكِ أن تعودي من حيث أتيتِ، وبالطائرة نفسها، أما السبب فيرجع إلى كونك عشيقة الملك فاروق!". صُدمت نور من ذلك الرفض، ومن بشاعة الاتهام، خصوصًا أنها عُرفت باعتزازها بأخلاقها وقيمها الدينية المحافظة والتي تصل إلى حد التشدد، ويبدو أن جُل الأمر كان يتعلق بإشاعات قد انتشرت في هوجة الحملة التي شنتها الصحافة المصرية على العهد البائد والملك، فأشيع ذلك ضمن ما أشيع عن علاقات فاروق الغرامية، خصوصًا أن نور ذاتها تعترف في مذكراتها بأنها قابلت الملك فاروق ثلاث مرات متتالية ودار بينهما حوار، وربما يكون ذلك السبب الذي جعلها تشعر بجرح عميق في كرامتها، فعادت إلى لبنان، ثم توفي والدها الذي ظل يراعيها بمنطق الحارس والسَّجَّان، وبعد أن طالت عودتها الطويلة حضر إلى لبنان المنتج حلمي رفلة وحسين صدقي لإقناعها بالعودة إلى مصر، ومشاركة حسين صدقي فيلم "لحن السعادة" ، لكنها تذكر أنها أبدت أسفها للاثنين، وأكدت لهما أنها ملتزمة بوصية والدها الذي حلفها قائلًا: "يمين الله عليكِ، لا تعودي إلى مصر إلا بصحبة رجل يكون زوجك!". ولم تتزوج نور طيلة حياتها، ولم تعد إلى مصر إلا في زيارات خاطفة، منها واحدة في عام 1962، ومرة أخرى في السبعينيات، وهي الزيارة الذي سجلت فيها لقاءً تلفزيونيًّا مع سمير صبري، في برنامجه الشهير "النادي الدولي" عام 1974.

وربما كان منع دخولها مصر ووفاة والدها السبب الحقيقي في مغادرتها للقاهرة نهائيًّا وإقامتها في بيروت، خصوصًا أنها حاولت أن تلغي الصورة التي راجت عنها في بدايات عهد ثورة يوليو، فأرسلت رسالة مفتوحة إلى الرئيس جمال عبد الناصر تطلب منه رفع الحظر عنها، مؤكدة له أنها ليست أجنبية بل لبنانية عربية، وأنها وقع عليها ظلم تاريخي، ودُفعت خارج مصر بفعل فاعل، بعدما حاول البعض الحط من قدرها، لكن نور لم تتلق جوابًا على ذلك الخطاب المفتوح أبدًا، واستطاعت الفنانات اللبنانيات في القاهرة طوال عقد الخمسينيات تعويض ذلك الفراغ الذي أحدثه غياب نور الهدى عن المشهد الفني، فظهرت سعاد محمد، وتألقت نجاح سلَّام، وتوسع نشاط صباح في الأفلام الغنائية، بعدما زاحمت نور الهدى لسنوات في بطولتها. ويبدو أن ذات الاتهام الذي وجهته نور الهدى للسيدة أم كلثوم، قد وجهته صباح لنور الهدى، فقيل: إن صباح اتهمت نور الهدى بأنها حاولت محاربتها والنيل منها عبر الإعلام، وكانت وراء سقوطها في امتحان الإذاعة المصرية، وهو ما عرضه المسلسل التلفزيوني "الشحرورة" عام 2011، لكن كما فنَّدْنا تلك الأكذوبة التي التصقت بأم كلثوم، يمكن بكل ثقة تفنيد تلك الكذبة التي تظل بعيدة عن طبيعة نور الهدى الطفولية ومُثلها الإنسانية، خصوصًا أن الشحرورة في لقائها التلفزيوني مع صفاء أبو السعود عام 1997 نفت تلك الخلافات بدبلوماسية لطيفة، وأكدت أنها تكن لنور الهدى احترامًا كبيرًا، ودعتها "بالأخت"، ولكنها في ذات المقابلة ألمحت إلى أن القاهرة يوم وصولها إليها قد انقسمت إلى حزبين متصارعين: حزب نور الهدى، وحزب صباح الشحرورة.

المظلومية اللبنانية:

عند عودة نور الهدى إلى لبنان عام 1953 كان الوضع الفني قد بدأ يتغير كليًّا؛ فبعد سنوات كانت الأغنية المصرية هي الأغنية الرائجة في لبنان، تغير الوضع وصعدت الهوية اللبنانية محل نظيرتها المصرية، وبدا أن الساحة الفنية اللبنانية تعيد تشكيل مفهومها عن الغناء بظهور أسماء غنائية جديدة، وعلى رأس تلك الأسماء السيدة فيروز ومؤسسة الرحابنة، واعتمادهم بشكل كبير على صنع أغنية لبنانية تمتلك صفات الحداثة الموسيقية في مواجهة الأغنية المصرية الطربية، وربما ساعد ذلك كثيرًا على تواري نجم نور الهدى في لبنان، وعدم قدرتها على التأقلم مع العصر الجديد ومتطلباته؛ فقد ظلت نور الهدى على عهدها تعتبر الأغنية المصرية بتركيبتها الفنية هي الأغنية المركزية، حتى وإن برعت في أداء بعض الأنماط اللبنانية الشعبية، مثل: "أبو الزلف" و"الميجانا"، لكن عجلة الزمن كانت قد دارت، فظلت تعاني نور من أحلام متعثرة في لبنان، فخدمتها الظروف مرات وخذلتها أحيانًا أخرى؛ لتقدم فيلمًا وحيدًا في لبنان اسمه: "لمن تشرق الشمس؟" عام 1958، ولكنه لم ينل إعجاب نور الهدى ذاتها، ونشرت الصحافة اللبنانية أنها أقامت دعوى على منتج الفيلم وطالبته بتعويض لا يقل عن ثلاثين ألف ليرة لبنانية؛ لأنها رأت أنه أخل بالعقد الموقع بينهما. 

ورغم أن المرحلة البيروتية كانت حافلة بالغناء الإذاعي والتلفزيوني، إلا أن نور الهدى ظل داخلها شيء من الوسط الفني في لبنان أيضًا، وهو ما نلاحظه جيدًا في تلك المذكرات سالفة الذكر، فطوال الصفحات التالية لسنوات القاهرة نلاحظ أن نور عاتبة على الإعلام اللبناني والدولة اللبنانية، بل إنها وصفت لبنان في فقرة من الفقرات بـ"مقبرة كل موهوب!"، كما أنها ظلت تبدي تعجبها من موقف الرحابنة منها وتجاهلهم لها، وعدم الرد على إلحاحها الدائم بدعوتهما للتلحين لها، وتتساءل عن عدم اشتراكها في مهرجانات بعلبك الدولية، رغم مشاركة معظم الأصوات اللبنانية وعلى رأسها: فيروز وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين؛ لذا كانت تصرح دائمًا قائلة: "يا ناس، يا لجنة بعلبك، أنا لبنانية، أنا لبنانية، لماذا لا أرشح للغناء في مهرجانات بعلبك؟". 

يقول الدكتور سعد الله آغا القلعة: "نظر إليها الجميع على أنها نتاج المدرسة الغنائية المصرية، وأن حجمها الفني الحقيقي كان أكبر بكثير من السمعة والنجومية والشهرة التي تمتعت بها". لذا ظلت نور الهدى تنظر إلى نفسها كغريبة داخل الوسط الفني اللبناني، خصوصًا مع طغيان الموجة الغنائية الجديد، وتبدل المزاج العام، فكما عاشت مظلوميتها في القاهرة، عاشت أيضًا مظلوميتها في بيروت، ولم تستطع تقديم ما يمكن اعتباره حدثًا فنيًّا مهمًّا سوى إعادة غناء قصيدة "يا جارة الوادي" لمحمد عبد الوهاب بأداء طربي كلاسيكي، وارتجالات غنائية مبهرة في نهاية عقد الستينيات؛ لذا يظل الشعور الوحيد الذي يراود من يطالع تلك الذكريات: أن نور الهدى على حجم موهبتها الكبرى بقيت طوال حياتها وفي عاصمتي الفن العربي القاهرة وبيروت، تعاني من قلق وجودي كبير، وتنظر إلى حالها على أنها مضطهدة فنيًّا، ولم تلقَ ما تستحق من حفاوة، وتحركها مشاعر القلق من الوسط الفني المصري واللبناني، رغم أنها شاركت بشكل غير مباشر في تحجيم نجوميتها بعودتها إلى لبنان، ورفضها العودة إلى القاهرة امتثالًا لوصية والدها، وكذلك رفضها لتسجيل معظم أغانيها على أسطوانات تجارية، واعتمادها على التسجيلات الإذاعية والسينمائية، وهو ما كان كافيًا لتواري نجمها في سنوات التبدل الثقافي والفني للطرب العربي، حتى وإن بقي ذكرها كصوت غنائي عظيم في تاريخ الغناء العربي وسِجِلِّ مطربات الشرق.